بلاغة الكذب وسطوة التكنولوجيا!!
غسان عبد الله

إذا كان علم الخطابة والسياسة بمختلف تجلياته في العصور المعرفيّة القديمة (أرسطو والفلاسفة السفسطائيّون) على سبيل المثال الذين اتخذوا من الجدَل الخلاّق طريقاً ناجعاً للوصول إلى كشف غوامض الأمور وتذليل صعابها..
فكان علم الخطابة والسياسة هو الأسمى والأخطر لديهم، ففي العصر الحديث، العربي خاصة والبلدان المتاخمة، انقلبت الآية ونزل هذا العلم من عليائه إلى أسفل السلّم المعرفي وأرذله، واستحال إلى ضرب من فنون الدجل ومباريات النفاقِ والتهريج فوق شاشات هذه الحلبة الكونيّة التي وحّدتها البربريّة الحديثة.
يتبارى المتبارون في المجالات كافة، يشحذون الأدوات ويجيّشون الحشود البلاغيّة التي تستند دائماً إلى براهين الضحيّة الكبرى: الحقيقة والعدالة والمساواة و.... إلخ، لدحض حجج الخصم ودحرها خارج الواقع والتاريخ. الخصم الفكري والديني والعسكري والأدبي، لا حلّ أمام حشود بلاغة الكذب وسطوة التكنولوجيا إلا نهاية (الخصم) وتحطيمه بهزيمة ساحقة لا تبقي ولا تذر.
من هنا تنتفي في هذه الخطابة الصوتيّه العالية، الاحتمالات والنسبيّة والشك، إذ لا مجال إلا للحسم والجزم النهائي في الخطابة المعصومة من الخطأ والمندفعة دوماً نحو الصواب و"الحقيقة" التاريخيّة والراهنة.
حتى لو كان القاتلُ، ما زال يتدفّقُ من ساطورهِ كما من لسانِهِ، شلاّلُ الضحايا والمنكوبين.. لا يفقدُ تلك القدرة البلاغيّة والإيهاميّة، ولا يخالطه ارتباك أو تلعثم أو ظن.
ونرى المتحدث الخطابي فوق المنابر ومن أعماق الأستوديوهات الفاخرة، نادراً ما يتوقف أمام فاصلة أو نقطة اشتباه أو استفهام، منقضاً كالصاعقة على الطريدة المدّعاة: الحقيقة، (في الحقيقة) الواقع (في الواقع)، خالقاً من الغثّ بضاعة سمينة ومن القاتل ضحيّة بامتياز.
إذا كان من نقطة مضيئة عبر هذه الوسائل والوسائط الإعلاميّة وإنجازات التقنية، يحاول صاحبها الإبلاغ والتوصيل كشهادة صادقة ومفارقة، فلا بد أن يضيع ويتلاشى في هذا الخضّم الهائج للمتبارين المحترفين على الحلبات المختلفة.
وحتى المتلقي، عدا القليل جداً يكون هو الآخر، تائهاً و(مطعوجاً) في الخضمّ المتلاطم نفسه.
هذا السلاح الفتاك، هو الجزء المكمّل أو ربما المسبّب وربما أشياء أكثر خطورة للمذبحة التي نرى ونشاهد ونسمع على مختلف الصُعُد الماديّة والأخلاقيّة والروحيّة.
هذه الدعاوى الخطابيّة حول العدالة والأخلاق وثنائية الحق والباطل، الخير والشر، بتلك الإطلاقيّة هي أكبر مشوّش وحاجب حد التدمير، لتلك القيم النبيلة.. وهذا الهجوم المعنوي الذهني، أكثر إبادة لإنسانيّة الإنسان وفطرته وذاكرته، من عمليات الإبادة الماديّة المباشرة، بحيث يبقى مشدوداً طوال يومه وغدِهِ بتلك "الخطابات" المقدمّة على ذلك النحو الباهر البرّاق، وهي ليست خاوية فحسب كما يحصل في الأدب "اللغوائي" اللفظي الفارغ من الداخل، وإنما مملوءة بالسموم وخلاصات الكذب والتدليس عبر التاريخ.
هكذا تتراجع المعرفة الفكرية والجمالية، ليس في الشعر والفلسفة، وإنما في جميع المجالات والأقانيم أمام اكتساح خطابة الجهل والتعميم، اذ لم يبق متحذلق أمّي على الأرض العربيّة إلا وأدلى بدلوه وسارع في طرح رأيه الجامع المانع، وفق ديمقراطية الشاشات المزهرة في هذا الفضاء المليء بالهوام والجوع والحروب، والمليء بالمعضلات الكبرى والصغرى المرتطمة دوماً بصليل الخطابة الناعق.
أمام طبيعة هكذا (خطاب) ليس الشعر فحسب يصبح مثْلبة وثغرة في البنيان اللفظي الشعبوي الذي يربض على الأرض العربية بصيغ مختلفة عبر السنين، وإنما المعرفة الأدبية والانسانية وكذلك العلميّة، بالمعنى الابتكاري العميق، والذي ما زال غير موجود في ديارنا المجيدة، المولودة (العلميّة) مع الأولى من رحِم واحد لأخيلة ورؤى ضاربة في القِدم والحداثة.
بعد المصرع التراجيدي الذي لقيه سقراط، كره تلميذه النجيب أفلاطون، الخطابة الشفويّة التي كانت وسيلة الفيلسوف لإقناع الناس ودفعهم إلى الحق والخير والجمال.
لكن تلك الخطابة التي دار السجال حولها استمرّت سلالتها النبيلة إلى العصور اللاحقة في أمم وشعوب كثيرة منها العربيّة. ولا نجد أبسط مقارنة لها مع هذا الانفجار (الحداثي) للشعبويّة الرعاعيّة التي لا تذهب إلا نحو ترسيخ الجهل بإقصاء المعرفة الحقيقيّة والفنون، مُسوّقه كافة أوبئة التعصّب الدينيّة والطائفيّة والعرقيّة تحت أقنعة الخبرة والبحث التي يضيع في دخانها الكثيف، أي صوت عميق يحاول أن يكون شاهداً حقيقيّاً على المجزرة العربيّة، والكونيّة التي ينامُ البشرُ ويصحونَ على إيقاعها الدموي، الذي بفعل جاذبيّة التكرار وسحر الرؤية للمشهد الكارثي البعيد، أصبحت موسيقى الحياة اليوميّة وطعامها وزيّها.
بهذا المنحنى القاسي ينفصل الوجدان والعواطف عن وقائع المشهد، واستطاعت التقنية والخطابة الجاهلة والمؤدلجة، أن تحيّدها بتحويلها إلى فرجة، نضارتها نموذج للحياد الذي تمليه صحراء المسافة الصارمة، كبرت عبر الزمن والتقنية وانحطاط القيم وتحوّلت إلى وحش اسطوري يبتلع عواطف الجميع.
عطفاً على الخطابة الكلاسيكيّة؛ على مستوى اللغة العربيّة، حفظ لنا التاريخ عن الأسلاف منذ ما سُمّي بالجاهلية الأولى والثانية وحتى العهود الاسلاميّة المشرقة في تعاطيها مع الآخر. حفظ درراً وأسفاراً إبداعية مفعَمةً برؤى الفكرِ والشعرِ والتأمل والإشراق.
أي مقارنة تتحول إلى مهزلة مع هذا الهَذر المعاصر الذي يعمق اغترابنا عن لحظته (المعاصرة) لنتقرّب أكثر من تلك العهود الغابرة الأكثر معاصرة كتلك الخطب والأحاديث والنصوص الشفويّة التي قيل الكثير منها في خضمّ وأعقاب ملمّات ومنعطفات كبرى، فكانت المعبّر الفكري والفني عن تلك المآسي والمنعطفات.
أن تبقى المعرفة الانسانية والجماليّة، الشعريّة في طليعتها، غريبة وهامشيّة يسومها الجهل والثرثرة في هذا الزمان، فذلك قَدَرها وربما شرطها النابع من تركيب حدْسي رؤيوي لاغائي خاص.
ومتى كانت بهذا المعنى غريبة منذ تحوّل البشر في صميم تكوينهم الكياني والاجتماعي إلى بنيان الربح والخسارة والمنفعة بأكثر معانيها فجاجة ومباشرة. لكن حتى الغربة والاغتراب مسألة (نسبية) وتختلف من زمن إلى آخر مثل الخير والشر وحجم المجزرة.