أرى الكثيرَ الكثير.. وأصابَ عينيّ القذى!
غسان عبد الله

أرى الدماءَ تَسيلُ وما من حاقنٍ لها، ويروْنَ أنّ المقاومةَ عقمٌ، أرى البنوكَ تنصبُ على الفقير والغنيّ، ويرونَ أنّ هندسةً تُسيّرُ البلدَ نحو الرفاه!!، أرى الناس تُعرِضُ عنهم، ويرونَ أنّ التّدخلَ في شؤونِ الآخرين لا يَليقُ وأنّ إعراضَهُم بُعدٌ عن المشاكل، أرى الشرفاءَ يُهتكون على مرأى ومسمعٍ من العالم، ويرون أنّ هتكَهم اليومَ منعٌ لخروجِهِم في المستقبل..
أرى البحرَ سيُغْتَصَبُ كنزُهُ، ويرون أنّ البلادَ ليست مهيأةً للنهوضِ وتحتاجُ إلى أمريكا لتنتَصِر لها، أرى الزروع تُحرق، ويرونَ أنّ حرية التصرُّفِ في الممتلكات والأراضي حقٌ لا يختلف عليه اثنان، أرى الطائرات تقصِفُ، ويرونَ أنّ المكرَ السيّءَ لا يحيقُ إلا بأهله، أرى رؤساءَ العالَمِ يتفرجون، ويرونَ أنّ كلَّ صاحبِ همٍّ في همِّه، أرى التأخيرَ بتشكيل حكومةٍ تُنقِذُنا من هول الآتي يزيدُ الجراح ويرونَ الخيرَ في التأخير، أرى.. وأرى.. وأرى...
أرى الناسَ أصبحت تغرّدُ بالتفاهاتِ، ويرونَ أنّ حريّةَ التعبيرِ وحريّةَ إبداءِ الرأي حقوقٌ مشروعةٌ، أرى الناس يلعنُ بعضُها بعضاً، ويرونَ أنّ الاتهامَ واردٌ وأنّ الردّ مكفول، أرى الناسَ تمرحُ في الفضائياتِ، ويرون أنّ الترويحَ عن المنهكينَ من واجبُ الإعلامِ، أرى عواصم العرب تحتفي بالصهاينةِ، ويرون أنّ التلاقي رسالة، أرى تكفيرَ الناسِ شبحٌ يطرق كل باب، ويرون أنّ تطوُّر وسائِلِ الدعوةِ إلى الله من وسائِلِ الدعوة، أرى مملكة الشرِّ في الحجازِ أصبحت تتبجَّحُ بجيوشِ الأمريكيين والأوروبيين والمرتزقةِ، ويرون أنّ قوّةَ المسلمينَ زادَتَ عن ذي قبل، أرى المجاهرةَ بالمعاصي ظهرتْ على كلِّ الأصعدةِ، ويرونَ أنّ التحرر من القيودِ يزيدُ من إنتاجيةِ الشعوبِ، أرى خروجَ البِدعِ لا صادّ له، ويرونَ أنّ عدمَ التضييقِ على الناس راحةٌ لهم في مراقِدِهِم، أرى وأرى.. وأرى.
أرى الإساءةَ تذاع وعلى فيديوهات تُنشرُ في وسائل التواصُلِ الاجتماعي ولا مَنْ يستنكر.. ويرون السكوتَ أنسبَ الحلولِ، أرى مناظرةَ الموبوئين في خيام العاصمةِ حول الصداقةِ مع الكيان الغاصبِ وعداوةِ المقاومةِ فاكهةَ المجالِسِ، ويرون أنّ حرية الرأي والتعبيرِ والتلاقي مع الآخرِ إصلاحٌ للبلاد، أرى التفرُّقَ بين أبناءِ البلد الواحدِ ولا غبار عليهِ، ويرونَ أنّ حدودَ الخرائطِ رُسِمَتْ وجفَّ مدادُها، أرى الساكتينَ عن الحقِّ يختبئونَ خلفَ من يختبئ خلفَ الكواليس، ويرونَ أنّ الكواليسَ أقصى ما يُمكنُ أن يصلواْ إليه، أرى الشوارعَ والساحاتِ والخيام المنصوبة وإقفالَ الطرقاتِ تَمْتَهِنُ عملَ المعلمين، ويرون أنّ الكلابَ الضالةَ لا بدّ أنّ تعودَ يوماً لتمتهنَ الوفاء، أرى كبارَ السنِّ يقاتلونَ الشبابَ المناصِبِ، ويرون أن الوطنَ ليس حكراً على اليافعين، أرى العجائز يتغنّين بأسماء الماركات العالمية أكثر من بناتهنّ، ويرونَ أنّ الجمالَ ليس له حدود، أرى الصِّبْيَةَ يمجِّدُون لاعبي "السياسةِ العجائزِ" لأنهم من مللهم، ويرونَ أنّ هؤلاء الكبار "رموز الوطنيةِ" يُقتدى بهم في كلِّ عصر، وغداً حينَ يموتون سوفَ يرِثُهُم أبناؤهم "الوطنيون بالوراثة".. أرى وأرى.. وأرى.
أرى أنّ الأقلامَ أصبحت أغلى السلع، ويرونَ أنّ الأقلام لا تكلِّفُ شيئاً وتبلغُ مبلغاً لا تبلغُهُ السيوفُ، أرى العربَ تقتَبسُ في خُطَبِها ومناسباتِها أقوالَ الإفرنجِ واليونانيينَ القدماء، ويرونَ أنّ العَرَبَ لا يملكونَ تُراثاً يؤهّلُهم لحصدِ جوائزِ الأوسكارِ وجوائزِ السيد نوبل، أرى اللغةَ الإنجليزية تصنعُ الابتساماتِ على محيّا كلِّ من تشدَّقَ بها وخصوصاً عندما يستطردُ أحدُهم كلامَهُ العربيَّ بكلمةِ "SO"، ويرونَ أنّ اللغةَ العربيةَ لا تستطيعُ مجاراةَ التطوُّرِ والتقدُّمِ، أرى المكتباتِ تستأنِسُ بذرّاتِ الغبارِ على رفوفِها، ويرونَ أنّ التعلّم التفاعليّ والتعلّمَ عن بُعدٍ هو البديلُ الأمثلُ، أرى أنّ مقاهي الإنترنت بأنوارها الملوّنة وبأراجيلها الفاتنةِ تلفِتُ الأنظارَ، ويرون أنّ الليلَ لا يحلو إلا بجلاّسِهِ، أرى وأرى وأرى.
أرى أنّ التاجرَ يفعلُ في بضاعتِهِ ما يشاءُ، ويرونَ أنّ أسعارَ الذهبِ بلغت عنان السماء، أرى أنّ السلع الاقتصادية تفنى بسرعة، ويرون أنّ السلع الأصلية موجودةٌ بجوار سلع التقليد مع فارقِ في التسعيرة، أرى أنّ ثمن دجاجة واحدة يساوي ثمن دجاجتين من إنتاجِ العامِ الماضي، ويرونَ أنّ طعامَ الاثنين يكفي أربعة، أرى أنّ لافتاتِ التخفيضِ في كلِّ مركزٍ تجاريٍّ، ويرونَ أنّ الفرصَ لا تأتي إلا مرةً واحدةً بالنسبةِ لهم، أرى أنّ حجم الرغيفِ يتضاءلُ يوماً بعدَ يوم، ويرون أنّ المسرفين كانواْ إخوانَ الشياطين، أرى وأرى وأرى.... أرى الكثير الكثير، وأصابَ عينيّ القذى، و.. والله إنه ليسبِّب الأذى.. فهل تَرَوْنَ ما أرى، أم أنّني مجنونٌ قد ضلَّ طريقَ العصفورية؟!!!.