تحدّي "الفتائل التفجيرية الإستراتيجية" في الشرق الأوسط

تحدّي "الفتائل التفجيرية الإستراتيجية" في الشرق الأوسط
ترجمة وإعداد: حسن سليمان
تعبر قمة طهران وقمة جدة عن استراتيجيات مختلفة لقادة القوى للتعامل مع الأزمة الأمنية والاقتصادية العالمية، لإبراز النفوذ وتعزيز المصالح التي تتجاوز سياق الشرق الأوسط البحت.
إلى جانب ذلك، تزداد أهمية منطقة الشرق الأوسط لمصالح الأمن القومي للقوى العظمى مع اشتداد الصراع بين الغرب وروسيا. التوازن الاستراتيجي لإسرائيل في ظل التطورات في الساحة العالمية وتأثيرها على ديناميكيات الشرق الأوسط مختلط، ويتطلب صياغة سياسة تأخذ بعين الاعتبار المخاطر والفرص.
تهدف قمّة جدة (اجتماع مجلس التعاون الخليجي + مصر والأردن والعراق) إلى إعادة العلاقات المتوترة بين واشنطن ودول الخليج، وترسيخ القيادة الأمريكية وترسيخ التزامها بأمن حلفائها الإقليميين، ولكن بشكل أساسي، لزيادة انتاج النفط الخليجي بشكل يقلل من ارتفاع الأسعار في سوق الطاقة العالمي.
جسّدت رحلة الرئيس بايدن التي بدأت في إسرائيل، في التحالف الاستراتيجي التاريخي بين الدولتين، والالتزام الأمريكي بأمن إسرائيل كما عبر عن توقيع "إعلان القدس".
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل نصف كأس الزيارة الفارغ. فقد أعرب الرئيس بايدن عن رغبته في استنفاد القناة الدبلوماسية والعودة إلى مخطط الاتفاق النووي وتجنب الخيار العسكري ضد إيران قدر الإمكان. لم يتطرق التزام الرئيس الأمريكي بمنع إيران من امتلاك السلاح النووي، إلى الارتقاء درجة التي حصلت خلال الأشهر الأخيرة في قدرات تخصيب والمعرفة التكنولوجية التي راكمتها إيران ما جعلها تقترب من حافة الاختراق (التخصيب بنسبة 90٪)، و تجاهل بشكل أساسي التغيير الذي حدث في ديناميكيات المفاوضات، والذي بموجبه يكون قرار التوصل إلى اتفاق أو اختراق لتحقيق منشأة نووية بيد القيادة الإيرانية. عدم وجود تهديد عسكري ملموس يردع القيادة الإيرانية عن حثّ الخطوات في النووي يسمح لها بمواصلة خرق الاتفاق النووي بشكل ممنهج ومن دون عقوبات، والتقدّم في تطوير قدرات التخصيب، البحث والتطوير النووي، وبالموازاة إدارة مفاوضات مع الدول العظمى.
تحاول الإستراتيجية الإيرانية الإمساك بالحبل من الطرفين: السعي إلى تأسيس قدرات "عتبة الاندفاع"، وفي المقابل العمل على تعزيز التأثير والتمركز الإقليمي من خلال ردع دول الخليج من بلورة تحالف دفاعي عسكري مع إسرائيل والولايات المتحدة. الهدف الإيراني هو تشديد الضغط على إسرائيل وعزلها إقليمياً، إقصاء الولايات المتحدة عن المنطقة، إضعاف الكتلة الموالية لأمريكا، إبعاد تهديدات عسكرية عن حدودها، وصدع حتى درجة نسف "الاتفاقيات الإبراهيمية".
وفي المقابل فشلت المحاولة الأمريكية لتطوير تحالف دفاعي عسكري إقليمي مناهض لإيران في ظل إحجام دول المنطقة جراء قوة التهديد الإيراني. بعد ذلك، أعلنت دول الخليج ومصر والأردن أنها لا تنوي تشكيل تحالف دفاعي عسكري ضد إيران مع إسرائيل والولايات المتحدة. مع ذلك، نجحت قمة جدّة بحثّ تعاون أمني إقليمي بقيادة أمريكية: تشكيل طواقم مهمة بحرية لحماية مسارات الملاحة الدوليّة، الاستعداد لبيع قدرات دفاع جوي متطورة، حثّ التعاون الأمني - التكنولوجي مع السعودية وحلفائها الإقليميين.
كما أنه قد خاب التوقع الذي سبق القمة بشأن قفزة إلى الأمام في العلاقات بين السعودية وإسرائيل من شأنه أن يفتح الطريق أمام التطبيع المستقبلي بين البلدين. إضافة إلى ذلك، أشار وزير الخارجية السعودي بوضوح إلى أن قرار فتح السماء أمام شركات الطيران الإسرائيلية هو جزء من إجراء سعودي شامل، ولا يدلّ على خطوات دبلوماسية إضافية ستتطور مع إسرائيل.
تدير دول الخليج ومصر سياسة تنوّع الدعائم على أساس كل مِن مستوى القوة والمستوى الإقليمي. التقرّب من إسرائيل إلى جانب الحفاظ على الدعامة الأمريكية لا يتعارض مع العلاقات الإستراتيجية المتطورة مع روسيا والصين، ولا مع تعزيز وتطوير العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع إيران. فيما يتعلق بالقوة العظمى، فإن السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة غير مستعدة للتنازل عن علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا والصين، على الرغم من الضغوط الأمريكية. يُشكّل البرنامج النووي المدني في مصر الذي تأسس بتمويل وبتوجيه روسي نموذجاً بارزاً على ذلك. يمكن إيجاد تجسيد آخر لذلك في الحوار الذي أجراه محمد بن سلمان مع الرئيس بوتين (22 تموز) حيث التزم الاثنان بالحفاظ على التنسيق بخصوص سوق الطاقة. هذا الحوار يضع علامة استفهام حول أحد إنجازات قمة جدّة الذي أعلنت عنه الولايات المتحدة والمتعلّق بالموافقة السعودية على زيادة إنتاج النفط.
في سياق آخر ولا يقلّ قابلية للانفجار من وجهة نظر إسرائيل، لم تفضِ سفرة بايدن إلى نقلة نوعية بخصوص الخلاف حول استخراج الغاز مع لبنان. في الواقع، لم تطرأ أي تطورات في الاتصالات مع الحكومة اللبنانية بخصوص منصّة "كاريش". فاقم نصر الله تهديداته ضد إسرائيل في الفترة الأخيرة ضمن طرح تهديد الحرب كسيناريو محتمل في حال فشل الاتصالات. 16 عاماً على حرب لبنان الثانية، ويبدو أن نصر الله يمهد الطريق لاحتمال مواجهة أخرى مع إسرائيل تحت عنوان "حقوق أو حرب"، وبالتحديد الأزمة الاقتصادية والسياسية الحادة في لبنان قد توفر الشرعية "والدافع" لتحرك عسكري ضد اسرائيل فيما يتعلق بموضوع الطاقة.
انتهت قمة طهران بتوازن متداخل من وجهة نظر المشاركين. من جهة، يشكّل نفس اللقاء الذي جمع الرئيس أردوغان مع القائد الإيراني خامنئي والرئيس رئيسي إنجازاً سياسياً كبيراً لصالح الرئيس بوتين. بالإضافة إلى ذلك، في نطاق اللقاء مع أردوغان حصل تقدّم في تنسيق استئناف تصدير القمح الأوكراني من مرافئ البحر الأسود، والذي أُبرم باتفاق رسمي بين روسيا وأوكرانيا في إسطنبول (بعد يوم على توقيع روسيا انتُهك الاتفاق بقصف مرفأ أوديسا). حظيت روسيا بدعم علني كامل من جانب القيادة الإيرانية، وحتى أن طهران، بحسب تقارير مستشار الأمن القومي الأمريكي، مستعدة لتزويد روسيا بطائرات هجومية من دون طيّار(مسيّرات).
من جهة ثانية، عدم التوافق العميق، الخصومة التاريخية والتنافس بين اللاعبين على موارد وتأثير يضع علامة استفهام حول صورة النهاية السعيدة للقمة. تشكّل إيران وروسيا منافستين في سوق الطاقة العالمي، وتتنافسان على توزيع الموارد في سوريا. الارتياب القائم بين الدول عميق وتاريخي. تشكّل القمة إنجازاً بالنسبة للرئيس بوتين والقيادة الإيرانية، لكن لا تبشّر بتأسيس تحالف جديد مناهض لأمريكا في المنطقة.
خلاصة وتوصيات
• يشكل الصراع المستمر بين الولايات المتحدة وروسيا، إلى جانب التطورات الإقليمية وعدم الاستقرار السياسي في إسرائيل، سلسلة من التحديات على المستوى السياسي والأمني والاقتصادي لإسرائيل، ما ينعكس على وضعها الاستراتيجي. في الواقع، قبيل أعياد تشري ستضطر إسرائيل إلى مواجهة الفتائل التفجيرية الآخذة بالتزايد سواءً في الساحة الفلسطينية، أو في الساحة اللبنانية وبالموازاة الاستعداد للمرحلة الأخيرة من إدارة الانتخابات.
• لقد دُفعت القضية الفلسطينية إلى الهامش خلال زيارة الرئيس الأمريكي، ويرجع ذلك أساساً إلى إدراك أنه في ظل الوضع السياسي في إسرائيل لا يمكن إطلاق عملية سياسية أو اتخاذ قرارات مهمة. من ناحية أخرى، أكد القادة العرب في قمة جدة على أهمية القضية الفلسطينية كعنصر أساسي في استقرار المنطقة. جسّدت خطابات القادة في القمة حقيقة أنه لا يمكن تجاوز القضية الفلسطينية التي تشكّل عائقاً حقيقياً أمام التطبيع مع العالم العربي.
• سيتعين على الحكومة الجديدة في إسرائيل أن تصمم استراتيجية شاملة بشأن القضية الفلسطينية، أولاً وقبل كل شيء لأسباب أمنية وسياسية - استراتيجية (منع تحقيق فكرة "الدولة الواحدة")، ولكن أيضاً في ضوء الفهم بأن الطريق إلى الرياض يمر عبر رام الله، وأن القدرة على تعزيز التطبيع مع العالم العربي بكل ما ينطوي عليه ذلك من تداعيات استراتيجية، مشروط بوضع حل شامل للقضية الفلسطينية.
• يجب على الحكومة والمؤسسة الأمنية العمل الآن على تحييد الفتائل التفجيرية في الساحة الفلسطينية من خلال تعزيز التنسيق الأمني مع السلطة الفلسطينية، والعمل الموجه ضد البنية التحتية لحماس في الضفة الغربية، والمساعدات المالية لتثبيت النظام الداخلي في ضوء خطر اندلاع مصادمات كبيرة قبل عطلة تشري.
• إيران واقعاً على عتبة الاندفاع نحو النووي (التخصيب بنسبة 90% ما يسمح ببناء منشأة نووية)، والقرار بخصوص ذلك بيديها سيّما إزاء الانتباه العالمي المتناقص في أعقاب الأزمة في أوكرانيا، وعدم وجود خيار عسكري رادع.
• مطلوب من إسرائيل العمل بتنسيق كامل مع الولايات المتحدة، وذلك انطلاقاً من محاولة التأثير على صرامة مسودّة الاتفاق النووي، وبتنسيق إستراتيجية العمل الشاملة إزاء إيران. مطلوب من الجيش الإسرائيلي مواصلة الاستثمار في التعاظم بغية تطوير ردّ عسكري مستقل، وتعميق التعاون الأمني - الاستراتيجي مع الولايات المتحدة في إجراءات بناء القوة وتفعيل القوة.
• قد تعاني أوروبا من شتاء بارد هذا العام نتيجة قرار روسي بتقليص أو حتى وقف التزويد بالغاز كوسيلة إستراتيجية لتقسيم الغرب وصدع التحامه. الإستراتيجية الروسية مخصصة لتحقيق أهدافها في أوكرانيا، ضمن ضعف المعارضة الغربية عبر سلاح الطاقة والقمح. من جهة ثانية تحاول الولايات المتحدة الحفاظ على تماسك التحالف المناهض لروسيا عبر زيادة إنتاجية النفط العالمي، وممارسة ضغط اقتصادي على موسكو. هذا الوضع، إلى جانب عدم قدرة كل واحد من الأطراف على التوصّل إلى حسم عسكري يعزّز احتمال حثّ حوار أولي بين الأطراف بخصوص هذا الصراع قبل فصل الشتاء.
• وفيما يتعلق بالمواجهة العالمية المتفاقمة، مطلوب من إسرائيل إتباع سياسة حذرة وعدم "كسر الأواني" إزاء موسكو حيال الأثمان المحتملة للأمن القومي لإسرائيل، على غرار إغلاق الوكالة اليهودية في روسيا، تغيير أسلوب التعامل العملي إزاء المعركة بين الحروب الإسرائيلية وما شابه ذلك.
• ينبغي على إسرائيل العمل على تسوية الخلاف مع لبنان حول استخراج الغاز من المياه الاقتصادية بين الدولتين وتفادي الاحتكاك العسكري مع حزب الله قدر الإمكان. في نطاق ذلك، ينبغي على إسرائيل استنزاف المفاوضات عبر الوساطة الأمريكية والإلحاح على إجراء الاتصالات ضمن التوضيح بأن المسألة تتعلق بإجراء يخدم مصالح الدولتين. مع ذلك، في حال شخّص حزب الله ضعف الموقف الإسرائيلي فإنه سيرفع سقف المطالب بهدف المسّ بقوة الردع الإسرائيلي، وترسيخ مكانته كـ "حامي لبنان". للمرة الأولى منذ 16 عاماً من الهدوء في الساحة الشمالية، ستضطر إسرائيل إلى الاستعداد لسيناريو تصعيد خطير مع حزب الله.
معهد السياسات والاستراتيجية – رايخمن