فَاعليةُ النّقدِ الثّقَافي كمُقدِّمة لنَهْضَة الأمّة هلْ منْ فائدةٍ للنّقدِ في هذا الوَاقعِ العَربيّ البَائس؟!
نبيل علي صالح

فَاعليةُ النّقدِ الثّقَافي كمُقدِّمة لنَهْضَة الأمّة
هلْ منْ فائدةٍ للنّقدِ في هذا الوَاقعِ العَربيّ البَائس؟!
نبيل علي صالح
كاتب وباحث سوري
يستهدفُ هذا المقالِ تسليطَ الضوء على أهميةِ الدّور النّوعي (الرسالي القيمي وليس الوظيفي المهني) المنوط بالمثقف النّقدي (العضوي) في سياق البحث عن صيغ فكرية (عملية) لاستنهاض االأمة انطلاقاً من فكرة تلازم الحقوق مع النهضة، وبناء على مفاهيم الوعي والمسؤولية والعقلانية والحداثة العلمية.. إذا لا نهضة بلا حقوق، ولا ازدهار بلا حقوق (وحريات عامة) ووعي ومسؤوليات ومساءلات نقدية ورسمية.
ويؤكد المقال أنه لا سبيل للتمكين الحداثي (وبناء الدولة المؤسسية العادلة) من دون مشاركة الناس طوعياً واختيارياً، وعن وعي ومسؤولية، في عملية التنمية الفعالة ككل، أي دونما قسر أو ضغط أو إكراه.
هذا الدور والمهمة، هو دور ثقافي معرفي بامتياز، يلعبُ فيه المثقف دوراً حيوياً رسالياً، ومدار نقده وبحثه هنا هو مجال الثقافة العربية الإسلامية التي يدور الفرد العربي المسلم في فلكها، فقهاً وتشريعاً وتعاليم دينية وأحكام شرعية ومواعظ أخلاقية، بحيث أنها تهيمن على شؤونه وحياته الخاصة، وتوجه مساراته، وتحظى بالاهتمام الكلي من قبله، بما يعني أنه لا بد من تنقيتها من شوائب التاريخ وعوالقه الطفيلية كي تكون ملائمة للعصر والحياة، وهذا السبيل الفكري والقيمي والمعرفي الحقيقي للبناء، سبيل عدم القطع مع التراث والدين، مع عدم القدرة على ذلك، بل سبيل النقد والمساءلة والمراجعة والبناء على الأًصول وضخ روح العصر ونبضه فيها.
..لا شكَّ بأنّ هذه الثقافة العربية الإسلامية (المتكونة تاريخياً) تكتسب أهيمة حيوية - في عصرنا الراهن - على الصعيد المذكور، بما يجعلها على رأس الأولويات والمهام الملقاة على عاتق الدعاة والمثقفين والنخب النقدية (خصوصاً تلك الملتزمة إسلامياً)، وذلك من أجل العمل على إدخال ما هو أصيل ومنفتح وعقلاني من قيم هذه الثقافة الإنسانية - بتعابيرها وتجلياتها المتعددة - إلى واقع العصر المتنوع والمتشابك الذي نعيش فيه الآن، والذي يتميز بمظاهر جديدة، وتغيرات شديدة الكثافة والتغير من حال إلى آخر.. نشهد فيها ظهور حاجات وأوضاع سياسية وثقافية واجتماعية مستحدثة تتطلب منا الوقوف المتأني والدقيق، والدراسة الموضوعية الهادئة لمجمل تلك التطورات المتعددة في أبعادها ودلالاتها. ولعل من أولى الواجبات والمهمات المطلوب العمل عليها حالياً في داخل اجتماعنا الديني الإسلامي، هي مهمة النقد وقضية المساءلة النقدية الموضوعية للفكر، والتاريخ، والثقافة الحضارية لأمتنا ككل، بأشكالها وهمومها المختلفة.
إنّ تهميشَ أو غياب هذه الوظيفة الحضارية الحيوية - والعمل على تركيز سيادة الرأي الواحد في الأمة، وغلبة الفرد (وهيمنته) على المجتمع - كانَ من أهم الأسباب التي أسهمت في ترهل أداء مواقع الأمة وفقدان قدرتها على النهوض، وتثبيط عزائم أبنائها عن العمل، وعجزها عن تجاوز معيقات الحركة والامتداد إلى ساحة الحياة، وبالتالي وقوفه حائلاً بينها وبين وصولها إلى قيم الانفتاح والحرية والتجدد والإبداع الحضاري الإنساني.
وإذا كانَ الدّين - بعظمته، وقداسة نصوصه - يدعو للتحرر من الأغلال والقيود التقليدية ويرفضُ الجمودَ الفكري والعملي، والوقوفَ في مواقع الخطأ، ويستنكرُ التقديس الزائف وعبادة الشخصية، وسيادة الرأي الواحد، وسيطرة القوالب المسبقة.. بل وأكثر من ذلك: إذ أنه يأمر أصحابه والمؤمنين به بأنْ يلتزموا بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (وهي أساس عملية النقد والمساءلة) فلماذا لا تعمل أمتنا - التي عانت ما عانته من التخلف والجمود - على إعلاء شأن النقد، وتعميق الحس النقدي العلمي والموضوعي في كل مواقعها ومفاصلها الخاصة والعامة؟!. مع أنه لا مانع فكرياً أو نصياً بالمطلق.. فإذا عدنا إلى كلام الله تعالى فإننا نجد أن القرآن الكريم نفسه سلك طريق النقد الهادف لكل تجارب وأفكار الماضين، وبخاصة الماضي الذي كانت تعيشه الأمة التي نزل فيها القرآن، حيث يقول تعالى: ﴿تلكَ أمةٌ قد خلتْ لها ما كَسَبتْ ولكمْ ماْ كَسَبتم ولا تُسَألونَ عمَّا كَانوا يَعملون﴾ (سورة البقرة/134).. وفي ذلك تأكيد عميق على الحقائق الجديدة، وتوجيه للإنسان من أجل أن يبقى في حالة انفتاح عقلي وتواصل فكري وعلمي متحرك مع أفكاره وأفكار الآخرين وعلومهم، وعياً ونقداً ومراجعة.. وهو تأكيد أيضاً لكل الناس بأن الجيل الحاضر لا يتحمل مسؤولية الجيل الماضي..
كما أن على كل جيل أن ينطلق في الحياة ليعمل وينتج ويعطي ويكسب ويحقق التطور والازدهار، أي ليمارس نشاطه وفاعليته الوجودية وحضوره المميز في العصر والحياة. وبديهي أن نسأل هنا، أو نعيد التساؤلات:
لماذا هذا التركيز على دور المثقف النقدي؟ وهل من نتائج ملموسة حققها ووصل إليها؟ وهل استجابت نخب الحكم العربي الإسلامي لدعواته ونضالاته المستمرة؟!.. ثم كيف يمكن البدء بالسير الجدي على طريق الإصلاح في عالمنا العربي الإسلامي طالما بقيت بذور العصبية الدينية والسياسية والفساد السياسي وغير السياسي وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة وتقسيم المجتمعات والناس إلى عوالم ثنائية من الخير والشر، ما زالت مسيطرة على العقول والأفئدة في بلادنا العربية والإسلامية؟! وكيف يمكن للمثقف النقدي العامل على قيم النهضة العقلانية، إقناع الناس في تلك البلاد بتبني أسس الفكر الديني الإسلامي (وغير الإسلامي) الحر والمتسامح العقلاني والحواري الذي يقبل الآخر -نظيره في الخلق- حتى لو كان كافراً أو ملحداً أو مشركاً.. أي بقطع النظر عن انتماءاته الفكرية والأيديولوجية والقومية والاتنية؟!!.
في الواقع، لقد كان لاشتداد أزمات العرب والمسلمين، وزيادة وطأتها وقسوتها على مجتمعاتنا اليوم، الأثر الأكبر لإعادة التركيز على دور ومهمة المثقف النقدي، وأيضاً على على أسئلة النهوض والتقدم، أسئلة الإصلاح والتغيير والحرية والحوار التي يطرحها، وأن "إصلاح الحال - إصلاح الذات الدينية والمعرفية الثقافية" هو المدخل الضروري لأي إصلاح مجتمعي، وهو القاعدة الأساسية والأصل لإصلاح الفرع. لأن صلاح البدن من صلاح النفس و﴿اللهُ لا يُغيّرُ مَا بِقومٍ حتّى يغيّروا مَا بأنفسِهم﴾ (سورة الرعد/11).. وما نشهده في لحظتنا الراهنة من انقسامات وتفرق وتشتّت وصراعات وعنف وعنف مضاد واستمرار استشراء أمراض تاريخية - ومنها على سبيل المثال مرض التعصب والتطرف الديني الأعمى - يعود أساساً لجذور معرفية عقدية ودوافع سياسية راهنية لها خلفياتها الاجتماعية والاقتصادية وغيرها.
وبالمحصلة يمكن إجمال المصيبتين (التعصب الديني والاستبداد السياسي) بجملة واحدة هي: تديين السياسة وتسييس الدين، أي استغلال الدين كواجهة من قبل النخب الحاكمة، وإضفاء طابع المقدس على أفعال تلك النخب..!!.
وبرأيي، الشيء الجوهري في هذا الموضوع – وهو متعلق بإشكالية فصل الدين عن الدولة (في مجتمعاتنا العربية والإسلامية) -، ليس فقط منع رجالات الدين (بصفتهم لا بمواطنيتهم) من التدخل في السياسة، وهذا أمر مقدور عليه وسهل المعالجة بطبيعة الحال، بل هو: إلزام أهل السياسة بعدم إدخال الدين في ألاعيب سياساتهم واستغلاله وتجييره لمصالحهم، ووضعه واجهة لتمرير صفقاتهم، ومنافعهم.
طبعاً نحن هنا لا نهوّن من أهمية حضور ودور مرض التعصب الديني التاريخي، فالمسألة خطيرة للغاية، بل وهي تدنو من كونها أخطر مصائب هذه الأمة في تاريخها القديم والحديث.. إذ هل يعقل ما يحدث في بلدان العرب والمسلمين اليوم من صراعات واقتتالات وحروب أهلية دموية (بكل تأكيد تحرّكها أيادٍ خارجية) سببتها مصالح السياسة والملك، تم فيها استغلال تلك الخلافات والانقسامات التاريخية لصالح فريق من هنا وآخر من هناك؟!.. وقد سبق أن حدث منه الكثير في تاريخنا الإسلامي (المجيد!).. أي أن له خلفيات تاريخية تعود إلى مئات السنين، وبالتحديد إلى اللحظة التي دخلنا فيها إلى عصر الانحطاط، حيث تعطلت تلك الجدلية الرائعة بين العقل والنقل، بين الفلسفة والدين. ويتفق المفكرون على القول أن هذه اللحظة تعود إلى القرن الحادي عشر أو الثاني عشر الميلادي، حيث ماتت الفلسفة وتشكل فكر ظلامي متخلف وأرعن، هو الذي استخدمه (ويستخدمه) كثير من أدعياء الجهاد والمقاومة الحاليين من رموز الإسلام السياسي (السني والشيعي على السواء)، لتبرير أعمالهما الدموية والإجرامية في القتل والتنكيل وإيقاع الفتنة بين المسلمين.
فقد تشكّل في تلك اللحظة التاريخية من زماننا العربي والإسلامي وعي زائف وإدراك قاصر لمسائل الدين والتدين، أنتج فهماً ضيقاً وعدوانياً لمعنى الدين الإسلامي، وللعقل والانفتاح، والتسامح إلى أقصى الحدود. وهذا الفهم، أو بالأحرى الجهل، هو الذي تواصل من ذلك الوقت وحتى يومنا هذا، وهو الذي يسيطر على واقعنا اليوم محلياً وإقليمياً ودولياً.
نعم إنّ جذورَ التعصب الديني والتطرف الفكري والعملي الذي نشهده اليوم في معظم أنحاء العالم العربي والإسلامي والذي وصلت نتائجه المدمرة و(خيراته!!؟) العظيمة حتى لدى الجاليات الإسلامية المقيمة في الغرب، لا تعود إلى ماضٍ قريب، وإنما تعود إلى زمن تاريخي قديم، أي إلى سبعمائة وثمانمائة سنة خلت. وهي ما زالت تفعل فعلها في راهننا المرير حالياً.
والمفترض حالياً القيام بحملة ثقافية وفكرية شاملة لمواجهة تلك الأفكار المتعصبة.. وينبغي هنا طرح تلك المسألة بإلحاح شديد على علماء ومشايخ ورجالات الدين الإسلامي الذين يفترض بهم أن يكونوا حملة لواء العلم والورع والتسامح والهدى للناس في دينهم ودنياهم، لا أن يكونوا - كما هم بمعظمهم حالياً - مجرد واجهة مزيفة مكشوفة لرموز القتل والإرهاب والتطرف.
ولكن الشيء الذي يحز في النفس أنّ غالبية من نطلب منهم ذلك (من العلماء والمشايخ ممن لهم الحضور والتأُثير) لا يعتمد عليهم كثيراً في تنوير الرأي العام، وهداية الناس وتوعيتهم على قيم العدل ونشر أخلاقيات المحبة ومبادئ ثقافة التسامح.
فقد تراجعَ دورُ كثير من هؤلاء العلماء إلى درجة مخيفة على حساب تصاعد دور مشايخ الإفتاء الجهادي المتطرف، والوعظ السلطاني المسيس، من أصحاب المنابر التي يطلقون منها خرافاتهم وأضاليلهم وتحريفاتهم وانحرافاتهم.. ونشأتْ خلال الفترة السابقة معاهد ومدارس وكليات دينية شرعية يفوقُ عددها أضعاف مضاعفة عدد كليات ومعاهد التقنية والتكنولوجي، كما وصُرفتْ أموالٌ ذات أرقام فلكية لنشر ثقافة الوعظ وأفكار التكفير، مما أنتج فائضاً كبيراً من الشباب غير المدرك لحقائق العصر، وأساسيات الدين، والملم فقط بمظاهر التدين السلبي الشكلية الخالية من المعنى. وهنا يتم التركيز دوماً على كل ما يشير إلى الجهاد والقتال ونشر الدين والمذهب بأساليب القوة والعنف والإكراه، وادعاء التفوق والتعالي وامتلاك الحقيقة المطلقة، حيث نجد هؤلاء يخرجون آيات القرآن الكريم من سياقاتها التاريخية الزمانية والمكان، ويحشدون الكثير من أحاديث الرسول الكريم(ص) - ذات الأسانيد الضعيفة والمبهمة - لتأييد وجهة نظرهم ورؤيتهم الخاصة التي تتناسب ومصالحهم الخاصة، والمأثور يقول: "من فسّرَ القرآنَ برأيه، فليتبوأ مقعده في النار"[1].
إننا نعتقد أن هذا الضخ الإعلامي - الذي تحشد له كثير من فضائيات التضليل كل إمكانياتها - والمتركز حول فكرة تكفير الآخر، وادعاء التفوق الكاذب رغم الفقر والتشتت والتخلف والانقسام السياسي وغير السياسي، لن ينتجَ سوى ما نشاهده اليوم من أعمال وسلوكيات متطرفة وإرهابية تنتهك من خلالها حرمات الآمنين.
وفي هذا المجال نحن نعتبر (على صعيد مواجهة تلك المناخات القاتمة) أن عملية اكتساب الفكر والمعرفة النقدية -اللازمة للشروع بمستلزمات النهوض، والقيام بدور المثقف الناقد لتجربة الحاضر، وتجارب الماضين- لا بد أن تجري وتتحرك من خلال ما يلي:
- إعادة الاعتبار لمكانة ودور العقل، وجعله أساساً للوعي الإنساني والتفكير الواقعي. فما حَكَمَ به العقل حكم به الشرع.
- التأسيس الجدي للحوار (بالتي هي أحسن) في كل مفاصل الأمة، والاعتماد عليه كوسيلة رئيسية من وسائل الوصول إلى حل الخلافات والانقسامات.
- دفع الفرد إلى مواقع العمل والانتاج الروحي والمادي، من خلال الأخذ بأسباب العلم والمعرفة، والسعي باتجاه امتلاك زمام المبادرة في ميادين الحياة.
- إثارة الكفاءات الفكرية والعلمية، واعتماد الجهد العملي والانضباط المسؤول أساساً للتمايز والتفاضل في كل مواقع الحياة العملية.
- الالتزام بقيمة الحرية، والدفاع عن مقتضياتها العملية في المجتمع، في نطاق المسؤولية والالتزام الواعي كمنطلق للإنسانية الرفيعة والكاملة.
- تحريك الطاقات والمواهب العامة للناس - في مختلف مواقع المجتمع - باتجاه الحق والمعرفة الملتزمة والمعتبرة.. من أجل المساهمة في تعزيز حضور الأمة، وشهودها، ومقاومة الموت المفروض عليها (التخلف والكبت والقلق السلبي والجهل والحصر…الخ).
بمعنى آخر علينا التأكيد على إطلاق الإسلام القرآني من حبسه التاريخي، كدليل تقدم واقعي، وكمنطلق تيار حضاري نقدي منتج وفاعل. ولا شك بأننا لن نخطو خطوة واحدة باتجاه تمثل وتحقيق تلك القيم والمبادئ ما لم نعيد النظر في طبيعة البنية الداخلية الإسلامية، بأن نشتغل على إصلاحها من جديد. فالجزء الأساسي من المعركة الحقيقية مع التحديات الخارجية كائن أصلاً في داخل ذاتنا الحضارية الراهنة. لأنّ إنجاز مشروع النهوض لا بد أن يمر عبر إعادة بناء إنساننا.. بناء الفرد، والعمل -كما ذكرنا- على إثارة كوامنه الذاتية وتحريك طاقاته الهائلة. وذلك من خلال إفساح المجال له ليشعر بأنه يعيش في مجتمع سياسي معبر عن تطلعاته، يعترف بوجوده، وتتسع فيه مساحة الحقوق والواجبات.
أجل إنها معركة تحرير الذات والبنية العربية الإسلامية من الفرد وصولاً إلى الدولة، من علاقات النفي والنفي المتبادل إلى علاقات التكامل، من عدم الاعتراف بحق الأفراد في الاختلاف إلى قيام أوسع دائرة من الاعتراف بحق الاختلاف في الاجتماع العربي.
إنَّ المستقبل الثقافي والسياسي التقدمي للإسلام العقلاني في هذا العصر سيتحدد من خلال طبيعة الشروط التي تنتجها مواقع الأمة العربية والإسلامية، وبخاصة إرادة شعوب هذه المنطقة. وإذا ما استطعنا أن نتحول إلى خوض معركة التحرير في الداخل على مستوى إنتاج سلطات سياسية شرعية، بالاستناد على آلية العمل التعددي السياسي السلمي، والاعتراف بالآخر، ومن ثم العمل على بناء علاقات عربية وإسلامية تكاملية في كل المجالات، فإننا نكون بذلك قد بدأنا السير على طريق امتصاص كثير من موانع النهضة الخارجية.
ومسؤولية المثقف هنا، تتركز باستمرار ودونما هوادة في ضرورة ممارسته للنقد الموضوعي لجملة الأفكار والمشاريع المطروحة لأي سلوك تاريخي أو سياسي أو اجتماعي. لأنّ الأمة تحتاج (في الظروف الراهنة التي تسيطر فيها أجواء الكسل والتعب والإحباط، ويكاد ينعدم فيه حس المسؤولية) إلى من يقوّم حركتها، ويثير إرادات وهموم أبنائها، وينفخ في أوصالها دماءً جديدة، ويأخذ بيدها في حركة أرقى، أكثر وعياً ونضجاً واكتمالاً في الفكر والإحساس والممارسة.. نحو مواقع الرفعة والعزة والكمال.
وهذا هو دور المثقف العضوي، مثقف النقد العقلاني، المثقّف المتحرك - كما يسميه زكي ميلاد - مع آمال الأمّة وتطلعاتها وقيمها ومفاهيمها، المنفتح على كل الثقافات القديمة والمعاصرة، المثقّف الذي يتبنى الحرية والعدل والشورى، ويخاطب جماهير الناس ونخبتهم على السواء كلاًّ بما يناسبه، ولا يقصر خطابه للنخبة فقط.. المثقّف الذي يستشعر المسؤولية الخطيرة والجسيمة، فيتمثّل دور النبي لا دور الفيلسوف، نريد المثقّف الذي ينطلق من جوهر مفهوم الثقافة، والذي يفترض فيه التحرّك لنشر رسالته الثقافية داخل المجتمع وعلى الصعيد الإنساني العالمي، وتوضيح آفاقها ومنطلقاتها وأهدافها، وترسيخ مفاهيمها الرسالية باللغة التي يفهمها الناس، والتي تحرّكهم لأنها تتحدّث عن قضاياهم ومشاكلهم التي يعانون منها، والظروف التي يعيشون تحت أسرها، والآمال التي تراودهم والأهداف التي تعيش في قلوبهم وأفئدتهم، لغة من قد وطّد العزم على كسر القيود وفك الأغلال عن الإنسان، ورفع الظلم والحيف والاستبداد، ونشر الأمن والحرية والعدالة في المجتمع الذي يعيش فيه أوّلاً، وبين الناس كلهم في شتى أرجاء الأرض ثانياً[2].
ويعود هذا الدّور الثقافي لمثقف الجماهير، مثقف الحس النقدي، إذا جاز التعبير، يعود أساساً إلى كونه مالكاً للوعي الفعال المنتج، وعارفاً بمفاتيح رأس المال الأمة الرمزي المتمثل في قيمها ومعاييرها الرصينة في الحق والحرية والعدالة والكرامة، مما يمكنه من قيادة الرأي العام والتأثير فيه، وصوته المسموع يفتح الآذان الصماء، سالكاً طريقه إلى وعيها، وبالتالي إرادتها.. لكن للأسف، نرى هذا الدور في حالة تراجع وانحسار هنا في عالمنا العربي، رغم كل تطلعاتنا وآمالنا حوله، فقد عاد المثقف الأيديولوجي، مثقف النخبة الحاكمة، ليسيطر ويطغى ويمتلك.. حيث أنه ومن خلال نظرة بسيطة على الواقع العربي، نلاحظ ذلك الانقسام الحاد بين المثقفين الإسلاميين من جهة والقوميين اليساريين والليبراليين من جهة أخرى، فالمثقف أضحى أداة لتكريس الانقسام الحاصل، وهو المؤسس للفعل الأيديولوجي الذي أسهم (ويسهم) في زيادة الاحتقان الموجود بين المكونات الاثنية والأقوامية في المجتمع، وقد يصبح البعد الأيديولوجي أكثر خطورة عندما يتسم بالروح الطائفية المقيتة. والمثقف العضوي ليس معلقاً على الأحداث، ولكنه مستشرف للمستقبل بنظرته الثاقبة، وهو أيضاً مناصر أصيل لقيم الحرية والعدالة، غير مفرّط في سيادة الأوطان وتضحيات الأسلاف، وهو ليس بالضرورة في موقف عدائي أبدي ضد السلطة الحاكمة، ولكن يجب أن يبقى في حالة يقظة فكرية دائمة (في حالة طوارئ فكرية) ضد مناوراتها بحسب إدوارد سعيد، ولعلّ العالم العربي اليوم يشكو خيانة المثقفين للأفكار الوطنية الأصيلة التي تعد أكبر الخيانات خسارة في حياة الأمم والشعوب[3].
[1] محمد بن جرير الطبري، تاريخ الطبري.. تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، مصر/القاهرة، طبعة عام1967م، ج1، ص78.
[2] إبراهيم جواد، نظراتٌ في الثقافة والمثقف، مجلة البصائر، السنة: 22، رقم العدد: 47. تاريخ النشر: 2011م.، ص171.
[3] علي مختاري، أين هو المثقف العضوي في العالم العربي، صحيفة القدس العربي، العدد: 7571، تاريخ النشر: 23/10/2013م. ص11. الرابط:
http://www.alquds.co.uk/?p=95667