تخريب أنبوب نورد ستريم وحرب الغاز بين روسيا والغرب
توفيق المديني

تخريب أنبوب نورد ستريم وحرب الغاز بين روسيا والغرب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
توفيق المديني
ـــــــــــــــــــــ
أعلنت السلطة البحرية الدانماركية تسجيل تسريبين للغاز في المنطقة الاقتصادية الخالصة للدانمارك، وذلك في خط أنابيب الغاز "نورد ستريم1" الذي يربط روسيا بألمانيا في بحر البلطيق. وجاء ذلك غداة الإعلان عن تسرب غاز في خط "نورد ستريم 2". وفُرضت منطقة عازلة بطول 5 أميال بحرية بمحاذاة موقعي التسريب الجديدين، في حين أعلنت السلطات الدانماركية التأهب في قطاع الطاقة.
ويعدّ "نورد ستريم 1" أكبر خط أنابيب غاز روسي إلى أوروبا من ناحية الكمية التي تبلغ 55 مليار متر مكعب سنوياً، افتتح رسمياً في نوفمبر/تشرين الثاني 2011، ويمتد هذا الخط المزدوج عبر بحر البلطيق إلى ألمانيا. وافتُتح هذا الخط سنة 2011 ويمكنه نقل نحو 170 مليون متر مكعب من الغاز يوميا كحد أقصى من روسيا إلى ألمانيا. وتمتلك خط نوردستريم وتديره شركة نوردستريم أي جي Nord Stream AG، والتي تمتلك شركة غازبروم الروسية التابعة للدولة معظم أسهمها. وفي العامين الماضيين رفع حجم ضخه للغاز، محققاً 59.2 مليار متر مكعب في عام 2021.
أما "نورد ستريم 2" فهو خط أنابيب ثان مزدوج بالحجم نفسه، تمّ استكماله في عام 2021، لكن ألمانيا رفضت اعتماد تشغيله بعد اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022.
ويشكل خطا الأنابيب بنية تحتية استراتيجية تربط روسيا بأوروبا. وفيما الخطان لا يعملان حاليا، إلا أنهما يحتويان على الغاز، ما تسبب بظهور فقاعات في التسرب الذي رصد على سطح مياه البحر في المنطقتين الاقتصاديتين الخالصتين للسويد والدنمارك.
ورصد خبراء الزلازل في السويد "إطلاقين هائلين للطاقة" قبيل وقوع التسرب، وقال أحد الخبراء لوكالة "فرانس برس": "هذا الزخم الهائل لن يسببه أي شيء آخر غير انفجار".
من المتسبب في تخريب "نورد ستريم"
معظم التقارير الغربية تؤكد على وجود حادثة التخريب في خطي أنبوب "نورد ستريم"، لكن من الصعب الجزم عن الجهة المتسببة في هذا التخريب، في ضوء الاتهامات المتبادلة بين روسيا والدول الأوروبية والأمريكية، وإن كانت كفة ترجيح هذا التخريب، تذهب إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لأسباب تتعلّق بالحرب الروسية الأوكرانية، وتداعياتها على صعيد الحرب بين روسيا والغرب، حيث تعمل أمريكا على استثمار هذه الأزمة لبيع غازها المسيل إلى أوروبا.
وليس مستبعداً أنْ تكون الولايات المتحدة خرّبت أنابيب "نورد ستريم"، بسبب تخوّفها من خروج دول أوروبية من الإجماع بشأن العقوبات المفروضة على روسيا لإنقاذ نفسها من "أزمة الطاقة" هذا الشتاء، لكن لهذا الأمر أيضاً مخاطر سياسية واستراتيجية وأمنية.
ويأتي ذلك أيضاً في الوقت الذي باتت فيه واشنطن لاعباً مهماً في مجال الطاقة، حيث أصبحت ترسل كميات ضخمة من الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا. وتلجأ "القارة العجوز" إلى هذا النوع من الغاز لتخزينه استعداداً لفصل الشتاء المقبل.
وكانت الولايات المتحدة عارضت اعتماد الناتو (خصوصاً ألمانيا) على الغاز الروسي. وفي 2018، حذر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الأوروبيين من احتمال استخدام روسيا للغاز كسلاح لمواجهة الغرب.
أما المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، فقد وقالت عبر "تيليغرام": "الرئيس الأمريكي ملزم بالرد على سؤال ما إذا كانت الولايات المتحدة قد نفّذت تهديدها"، في إشارة إلى تصريح أدلى به بايدن في السابع من فبراير/ شباط 2022، أي قبل الحرب الروسية على أوكرانيا، قال فيه "إذا غزت روسيا (أوكرانيا)، فلن يكون هناك نورد ستريم 2". ويُشار في البيت الأبيض إلى أنّ هذه التصريحات تعكس الضغوط الشديدة التي مارسها الرئيس الأمريكي على ألمانيا للتخلّي عن مشروع خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2"، الأمر الذي حقّق النتيجة التي أرادها بايدن.
أمَا الفرضية التي تتحدث عن أنَّ روسيا وراء ما حدث لمعاقبة الأوروبيين على دعمهم لأوكرانيا والعقوبات التي فرضوها عليها، وهو الاتهام الذي تحدّثت عنه أوكرانيا وبعض البلدان الأوروبية الإسكندنافية، فإنَّ هذه الفرضية تبدو مستبعدة جدّاً، لسبب بسيطٍ أنَّ روسيا لا تدمّر خطوطها الغازية، يعني أنها ستفقد كل نفوذها مع أوروبا، وهو أمر غير مرغوب.
ومن غير المستبعد أنْ تكون أوكرانيا وراء هذا العمل التخريبي بهدف إلحاق ضرر اقتصادي بروسيا. لكن، في حال توصّلت التحقيقات إلى ضلوع كييف في أعمال التخريب، فإنَّ علاقاتها مع أوروبا وحلف شمال الأطلسي ستتضرر بشكل كبير.
ويستبعد الخبراء والمحللون أن تقف إحدى الدول الأوروبية وراء ما حدث لخطّي الغاز، على اعتبار أن الأوروبيين يحتاجون بشدة هذا المورد، ومن الصعب أن يضروا أنفسهم بأنفسهم.
موقف الاتحاد الأوروبي من حادثة تسريب الغاز
اعتبر الاتحاد الأوروبي أن تسرّب الغاز في خطي أنابيب "نورد ستريم"، اللذين يربطان روسيا بألمانيا، هذا الأسبوع، "ليس مصادفة" وسط مؤشرات على "عمل متعمد"، متوعداً بردّ قوي، فيما أشارت روسيا إلى أن اتهامها بالتسبّب بتسرب الغاز من "الغباء والسخف".
وحذّر مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، في بيان، من أن "أي عبث متعمّد بمنشآت الطاقة الأوروبية غير مقبول بتاتاً، وسيُقابل برد قوي وموحد".
ودعا بوريل إلى إجراء تحقيق في التسرب في خطي نورد ستريم 1 و2، قائلاً إن "كلّ المعلومات المتوافرة تشير إلى أن حالات التّسرب تلك هي نتيجة عمل متعمّد". وأضاف: "سندعم أي تحقيق يوضح بشكل كامل ما حدث وأسباب ذلك، وسنتّخذ المزيد من الخطوات لزيادة صمودنا في مجال أمن الطاقة".
من جانبه، كتب رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال في تغريدة: "يبدو أن أعمال التخريب في نورد ستريم مسعى لتعطيل إمدادات الطاقة للاتحاد الأوروبي بشكل أكبر". وأضاف "الذين يقفون وراء ذلك سيخضعون للمساءلة ويحاسَبون".
وكانت السويد وبولندا قد أعلنتا أن التسرب من خطي الغاز في بحر البلطيق نجم عن أعمال تخريب "على الأرجح"، ولمحت وارسو إلى احتمال ضلوع روسيا بهدف تصعيد الحرب على أوكرانيا.
الموقف الألماني
وقالت مجلة "دير شبيغل" الألمانية إن السلطات الدانماركية طالبت السفن بتجنب المرور من المياه قبالة جزيرة بورنهولم بمسافة دائرة نصف قطرها 5 أميال، بسبب الاشتباه في تسرب الغاز في خط أنابيب "نورد ستريم 2". ونقلت المجلة الألمانية عن السلطات الدانماركية قولها إن التسرب يشكل خطورة على الشحن.
ومن جهتها، قالت الحكومة الألمانية إنها على اتصال بالسلطات الدانماركية، وتعمل مع سلطات إنفاذ القانون المحلية لمعرفة سبب انخفاض الضغط المفاجئ في خط الأنابيب.
وحسب المجلة، لا ترى وزارة الاقتصاد الألمانية والوكالة الفدرالية الألمانية للشبكات أي تأثير على أمن الإمدادات في ألمانيا، حيث بلغت مستويات التخزين أكثر من 91% بينما لم يتم تشغيل خط أنابيب "نورد ستريم 2" قط بعد اكتماله، لكنه مُلئ بالغاز مرة واحدة فقط، كما تذكر "دير شبيغل".
ويجري الآن التحقيق في حادث تسرّب الغاز في مياه الدانمارك من خط "نورد ستريم2" المتوقّف عن العمل في إطار العقوبات الأوروبية المفروضة على روسيا، بسبب حربها على أوكرانيا. وقال تقرير بوكالة الأنباء الألمانية إن أسعار الغاز الأوروبية لم تتأثر بالإعلان عن حادث التسريب، لأن خط "نورد ستريم 2" متوقف.
الموقف الروسي
نقلت وكالة "ريا نوفوستي" عن أليكسي غريفاش، نائب رئيس صندوق أمن الطاقة الوطني الروسي، أن حالة الطوارئ في "نورد ستريم" تشبه التخريب من قبل المعارضين المعروفين للغاز الروسي في أوروبا، وأن الأمر سيستغرق شهوراً لإصلاحه.
بدوره، قال الكرملين يوم الثلاثاء26 سبتمبر2022، إنَّه لا يستبعد أن يكون التخريب سبباً وراء الأضرار التي لحقت بشبكة أنابيب نورد ستريم التي بنتها روسيا في بحر البلطيق.
وأضاف ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين في مؤتمر عبر الهاتف مع الصحفيين إن الكرملين قلق بشدة إزاء هذه الواقعة التي تتطلب إجراء تحقيق فوري في ملابساتها، لأنها قضية تتعلق بأمن الطاقة في "القارة بأكملها".
وقال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف للصحافيين الأربعاء 27 سبتمبر 2022 إنَّه، بعد أن وصفت أوكرانيا حالات التسرب بأنها "هجوم إرهابي" دبرته موسكو: "إنَّه أمر متوقع تماماً وغبي، كما أنه متوقع أيضاً أن تصدر روايات على هذه الشاكلة - غبية وسخيفة - كما يمكن أن يُتوقع".
وأضاف أن حالات التسرب "تطرح مشكلة" بالنسبة لموسكو. وتابع: "الخطان كانا ممتلئان بالغاز الجاهز للضخ، وهذا الغاز ثمين جداً.. والآن هذا الغاز يتبخر في الهواء". ودعا "الجميع للتفكير قبل الإدلاء بتصريحات، وانتظار نتائج التحقيق". واعتبر أن "الوضع يتطلب حواراً وتفاعلاً عاجلاً من جميع الأطراف لمعرفة ما حدث. حتى الآن نرى غياباً تاماً لمثل هذا الحوار".
خاتمة
ليس من المبالغة القول إن أوروبا هي أكبر الخاسرين من الحرب الدائرة حالياً على الساحة الأوكرانية واستمرارها، لا سيما حين اصطفت على أرضية موقف والولايات المتحدة التي بادرت على فرض عقوبات اقتصادية ضد روسيا خارج إطار الآلية المعمول بها في منظومة الأمن الجماعي، ما تسبّب في إحداث ضرر فادح بدول وشعوب العالم التي لا علاقة لها بالصراع.
حرب الغاز الحالية هي امتداد للحرب الأوكرانية، وهي تدخل في نطاق جوهر الصراع الدائر حالياً بين روسيا وبين الولايات المتحدة، عبر الساحة الأوكرانية، إِذْ تسعى روسيا ومعها الصين وعدّة أقطاب تنموية في العالم إلى "هندسة نظام أمني عالمي جديد"، يقوم على التوازن ومراعاة مصالح الجميع.
يمكن القول إن النظام الليبرالي العالمي الجديد، الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية منذ انتصارها في الحرب الباردة على الاتحاد السوفياتي، ترفضه روسيا الآن، بعد أن استعادت عافيتها، وبدأت تتطلع إلى المشاركة بشكل أكبر في قيادة النظام الدولي الراهن. فالنظام الليبرالي العالمي الجديد أصبح عاجزاً تماماً عن مواكبة التغيرات الهائلة التي طرأت على موازين القوة في النظام الدولي أحادي القطبية بزعامة أمريكا، لا سيما بعد استعادة القوى التي هُزمت في الحرب العالمية الثانية، مثل اليابان وألمانيا وإيطاليا، مكانتها الدولية المفقودة، ودخول الصين حلبة المنافسة على قيادة النظام الدولي، واستعادة روسيا قواها المبعثرة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، فضلاً عن بروز قوى صاعدة جديدة في مختلف القارّات، مثل الهند في آسيا والبرازيل في أمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا في أفريقيا، وهو ما يفرض بناء نظام دولي متعدّد الأقطاب، وتوسيع العضوية في مجلس الأمن، ليعكس تشكيله الجديد مجمل التحولات في موازين القوة، وربما تغيير قواعد اتخاذ القرار فيه في الوقت نفسه، كي لا تتمكّن دولة واحدة أو تحالف إقليمي أو أيديولوجي من شلّ قدرته على العمل واتخاذ القرارات السريعة الفعّالة، وكذلك إعادة تشكيل مهامّه وصلاحياته، ليتمكّن من مواجهة مصادر التهديد الجديدة للأمن الجماعي (الأمن الغذائي وأمن الطاقة) الذي أصبح يشمل أمن البشرية أو الانسانية ككل.