أول الكلام

هو العمر يمضي

ــــــــــــــــــــــــ

غسان عبد الله

ـــــــــــــــــــــــ

طرقٌ وارفةٌ، وحلمٌ يستدير، وحوله الأيامُ تشرعُ بالغيابِ كأنَّها ليلُ.. يحطُّ على مرايا الحلمِ والخيطُ الذي يفضي إليَّ معلَّقٌ في الريحِ لا زمنٌ يمتُّ إليهِ.. كم حاولتُ أن أسري إليهِ وقد تعبتُ وشاختِ الأحلامُ في عينيَّ وانطفأَتْ.. ولم أُدركْ سوايَ..

كأنني قد جئتُ دونَ طفولةٍ ويدايَ لم تلمس دُمىً.. ويدايَ لم تقطفْ زهوراً أو تداعب وجهَ أُميَ.. هل يجيءُ الناسُ دون طفولةٍ يتدحرجونَ كأنَّهم حَجَرٌ من الأعلى فلا ذكرى، ولا قصصٌ.. وكلُّ الأصدقاءِ رأيتُهُم للتوِّ.. بعضٌ يدّعي أنْ كان لي يوماً من الأيامِ صنوَ طفولةٍ ويظلُّ يحملُني إلى زمنٍ غريبٍ حافلٍ بنقائضِ الأشياءِ ثم يُدهشُ كيف لا أدري.. ولا يدري بأني قد وُلدتُّ الآنَ.. لا لهوٌ ولا طرقٌ.. ولم أكتبْ على الجدرانِ أحرفَ اسميَ الأُولى.. وأيَّ أظافر تلك التي كانت (تخرمشُ) وجهَ أميَ.. أيَّ حَنجرةٍ بكتْ في حِجرها في الليلِ.. كم كانت هي الطرقاتُ ضيّقةً هناكَ وتستديرُ على البيوتِ كأنّها أفعى.. يحدّثني صديقُ طفولتي ويُصرُّ أنيّ في الظهيرةِ كنتُ معتلياً عصايَ.. ومثلَ مخبولٍ أُهرولُ في الزقاقِ.. ولم أخَفْ يوماً باصاً عابراً أو تستديرُ عليَّ حافلةٌ.. وكم كنّا نغادرُ أهلَنا في الصيفِ في عزِّ الظهيرةِ كي نرى العرباتِ وهي تمرُّ حاملةً جموعَ الناسِ.

هل حقّاً ركبتُ على عصاً ومضيتُ كالمخبولِ.. هل حقاً رأيتُ الناس في العرباتِ لا صورٌ ولا ذكرى ولا أصحاب.. قلتُ لَربّما كلُّ الذي يرويهِ صنوُ طفولتي ضربٌ من الأوهامِ.. أيُّ طفولةٍ هذي التي تحكي وصنوُ طفولتي للتوِّ أعرفُهُ.. وأيُّ عوالمَ سوداءَ قد عَبَرَتْ إليَّ.. إليَّ.. كانَ الصوتُ محتفياً يجيءُ بسرِّهِ الأبديِّ منضوياً وراءَ سكونهِ وملفّعاً بالصمتِ.

سوسنةُ الطفولةِ.. شوكةُ الصحراءِ.. صوتُ اللّيلِ محتفياً بغربةِ حالِمِينَ يصارعونَ تكسُّرَ الأمواجِ.. رجعُ خطىً بلا أقدامٍ.. همهمةٌ بحجمِ الحزنِ تعتمرُ المدى الممتدَّ ما بين الطفولةِ واختمارِ العمرِ تُوصِدُ كلَّ نوافذي على الأفقِ وتفتح في جدار القلبِ أروقةً تجيءُ إليَّ أو قد لا تجيء.‏

هو العمرُ يمضي، ولا أدري كيف ضاعت مني سوسنةُ الطفولةِ، وفي أي ركنٍ قصيٍّ تركْتُها، ولستُ أذكرُ عطرها الذي يطالُ أنوفَ الكائناتِ ولا يدنو من نوافذي.. هو العمرُ يمضي، وأنا متلفِّعٌ بصمتي، فلا الصوتُ أرجع عمراً يوماً ولا الصمتُ أودى إلى القبرِ.

أيُّ طفولةٍ هذي التي عشتُها، وفي أي زمانٍ راودَتني، كانَ صوتي مختفياً يجيءُ بسرِّهِ الأبديِّ وراء السكون ومتلفِّعاً بصمتي.. ولا زلتُ أقاومُ الصدى فيغتالُني صوتي.. أقاومُ.. أُقاومُ.. ويداي تتشبثان بجذع السوسنةِ.. يا للهولِ كيفَ يجيءُ هذا الشوكُ إلى جذع سوسنة الطفولةِ.. كيف ينبتُ على أطرافها وتحت الوريقاتِ.. ها أنذا أنزِفُ طفولتي من جديدٍ والعمرُ يذوي والضوءُ يتلاشى.. أُقاومُ.. أُقاومُ.. أجدني مساءً على سريري أتقلَّبُ.. وفي يدي القلمُ وقد غُرز في راحة الكفِّ.

يا إلهي ها أنذا أعاودُ نوبةَ الأحلامِ.. يمضي العمرُ وتذوي سوسنةُ الطفولةِ وأنا بين الحزنِ وبيني فاصلٌ من الحزنِ أدري أنني أعاندُ العمرَ وأستجدي وردَ سوسنة الطفولةِ الضائعةِ دون جدوى.. أدري.. ولا أدري.