مجلة البلاد الإلكترونية

الهيئة الإدارية: " نتنياهو يؤجل إعلان الهدنة الدائمة ووقف إطلاق النار لأنه يعلم أنه سيدفع الثمن الأكبر لنتائج العدوان على غزة وفشله في مواجهة ملحمة طوفان الأقصى"

العدد رقم 416 التاريخ: 2023-12-01

حداثةُ الغربِ في نمطيّتها الغرضيّة الحسّيّة المُفضية للغةِ العنفِ والقوّة

نبيل علي صالح

حداثةُ الغربِ في نمطيّتها الغرضيّة الحسّيّة

المُفضية للغةِ العنفِ والقوّة

 

نبيل علي صالح

كاتب وباحث سوري

 

الغربُ بالمعنى الثقافي السّياسي، هو مجموعة الدّول والمجتمعات التي أقامت بنيانها الحضاري والتاريخي والسّياسي العملي على أُسس جديدة مغايرة لما كان سائداً قبل عصر النهضة، وهي قيم ومعايير العلمانية والديمقراطية وسيادة الحرية الاقتصادية، وبهذا المعنى لا يصبح للبعد الجغرافي أي مدلول أو أثر حقيقي في مسألة تحديد معنى الغرب وسياقه العملي، على الرغم من وجود بعض المؤرخين ممن أكسبوا مصطلح "الغرب" نفسه بعداً جغرافياً يقتصر على دول أوروبا وأمريكا فقط، مع أن المعنى والرؤية الثقافية لهذا المفهوم أوسع وأكثر دلالة في التوصيف، كونه لم يعد يرتبط بحيز مكاني فقط، ويجب النظر إليه من منظار كونه واقعاً مفاهيمياً معرفياً وسياسياً غير مرتبط بمنطقةٍ جغرافية معينة..

وبهذه النظرة تصبح اليابان وكوريا الجنوبية وكثير من دول العالم الأخرى الواقعة في أمكنة جغرافية مختلفة ومتعددة، من الدول الغربية كفضاء ثقافي ومعرفي وتقني وحتى سياسي.. هذا المعنى "الفكري - السياسي" يصبح الغرب صفةً تطلق على مجمل هذا الفضاء "الحضاري - الثقافي" المتشكِّل تاريخياً في أوروبا[1] كمكان (والمنتقل كفكر ورؤية إلى كل البقاع الجغرافية في معمورتنا البشرية) بعد حدوث تحوُّلات وصراعات سياسية واجتماعية وحروب دموية أفضَتْ بمجملها إلى نشوء تيارات الحداثة والعلمنة والتنوير الأوروبي، التي أقرَّت وكرست مبادئ العلمانية والحرّية، مع إلغاء دور وتأثير الطقوسية الدينية المسيحية على الأفراد والمجتمعات، أي إبعاد الدين عن ساحة الفعل الوجودي الخارجية، وإعادته إلى وضعه الطبيعي السابق، كحالةٍ من حالات الإيمان الفردي الذاتي، الذي لا علاقة له بمجريات الواقع ومتغيرات الحياة من حوله.

هذه المفاهيم باتت اليوم سياقات وظواهر بشرية عامة بعدما انتصر الغرب تقنياً وعلمياً وتمكن من القبض على مفاصل القوة العالمية المتمثلة مادياً في العسكرة والعلوم والقوانين السياسية والمؤسسات الدولية المالية وغير المالية.. وهي هيئات وإدارات كبرى تهيمن على مختلف مواقع الحياة البشرية في عالمنا المعاصر مدعومة من قوى الرأسماليات الكبرى في الغرب الحديث، أمريكا وأوروبا وغيرهما.

إنّ المشكلة مع هذا الغرب كمنظومة قيم ثقافية وسياسية تكمن في قضيتين، الأولى، أنه ما زال يعيش عقلية الصراع والهيمنة وروح الغلبة الحضارية، وثانيتهما، اعتماده على عنصر القوة لحسم ملفاته ومصالحه، وما يحقّقُ منافعه ويَضْمنُ تطلعات شُعوبه ومجتمعاته، حتى لو أدت إلى إشعال الحروب وإثارة النّزاعات والصّراعات الدولية.

هذه العقلية والروحية الغربية – إذا صح التعبير - ليست حديثة الولادة والنشأة بطبيعة الحال، بل هي تعود لمراحل مبكرة من ولادة وتطور الثقافة الغربية التي أدت تحولات القارة الغربية منذ عدة قرون إلى نشوء تيارات العلمانية والعقلانية والوضعية فيها، وهي بمجملها أفكار وعقائد وفلسفات تتقوم بالفكرة المادية التجريبية الحسية الناظرة دوماً إلى المعايرة والمقايسة والمشاهدة والتجربة، حتى على مستوى النظرة للإنسان والطبيعة.

لقد أفرزت هذه العقلية الغربية نظرة عدوانية صراعية للإنسان وللطبيعة التي يعيش فيها ويمارس مختلف فعالياته ونشاطاته الحيادية من خلالها.. وأن الصراع حالة مستمرة وثابتة في كل حركة المسيرة البشرية.

هذه النمطية الفكرية والفلسفية العملية التي قدمتها وأفرزتها حداثة الغرب، فيما يخص العنصرين الأساسيين (الطّبيعة والإنسان)، جاءت بهدف إدارة وجود الإنسان وتوظيفه على أحسن وجه باعتباره مادة استعمالية فحسب وليس له أي بعد ورؤية وبعد روحي.. فالأحاديّة المادية تعبّر – كما قال عبد الوهاب المسيري في نقده للعلمنة الوضعية[2] - عن منحى إدراكيّ ماديّ حسّيّ، يستوعب الواقع من خلال مقولات إدراكيّة وتحليليّة وتصنيفيّة ماديّة، واختزال الواقع بأسره إلى مستوى ماديّ واحد لا يعرف أيّ شكل من أشكال الثّنائيّة. أيّ: إنّ له زاوية واحدة يُنظر إليه بها دون باقي الزّوايا الأخرى، لذا لابدّ لنا من البحث في زواياه غير المبحوث فيها لنعرف حقيقته وماهيته.. ولهذا فالحداثة الغربيّة ليست مجرد استخدام العقل والعلم والتقنية. وإنّما استخدامها خارج نطاق إنسانيّ أو أخلاقـي.. وفي هذا الإطار أصبح العالم الغربيّ منفصلاً بكليته عن القيمة، بمعنى لا توجد معايير إنسانيّة أخلاقيّة أو دينيّة تحكم مختلف التعاملات والمعاملات الإنسانيّة، بحيث أصبح من الصّعب التّمييز بين العدل والظّلم وبين الحقّ والباطل بل وبين القبيح والجميل، بل وبين الجوهريّ والنّسبي بل وبين الإنسان والطّبيعة، أو بين الإنسان والمادة.

وبمعنى آخر فقد أقامَ الغربُ وجوده الرّمزي والمفاهيمي على الفلسفة العقلية والعلمية المرتكزة على التّجربة والحسّ والرّؤية العيانيّة أي على الغرضية الآنية المباشرة وغير المباشرة.

وبطبيعة الحال، هذه الغرضية المادية المتأصلة (كغاية ومنتهى) في بنية الفكر والمعرفة الغربية – والتي ارتكنت إلى العلوم الطبيعية كمعيار أوحد للحقيقة ولحل مشكلات العالم - دفعت الذّاتَ الغربية للتّجرّد الدائم والمستمر من كل محتوى أخلاقيٍّ وسياسيٍّ وجمالي. وما ذاك إلا لأنّ المهمّة الجوهرية لهذه العلوم تقتصرُ - في مناهج التفكير الاستعماري - على الملاحظة "المحضة" والقياس المحض.. ذلك بأنَّ تحديد "طبيعة الأشياء" وطبيعة المجتمع جرى على نحوٍ يبررُ "عقلانيّاً" الاضطهاد والاستغلال[3]..

إذاً، هذه العقلية النفعية القائمة على التبادلية والاستعمالية والناظرة دوماً للحسية والدنيوية – إذا صح التعبير - هي أساس وجود الغرب ومحور حركته كما قلنا سابقاً.. وخطورتها كانت تكمن على الدوام فيما ترتّب عليها من سيادة لغة العنف والقوة والهيمنة.. والهيمنة هنا ما كانت لتتحقق فقط بالسياسة والفكر بل بأدوات مادية، أي بالقوة العسكرية والأمنية والصناعية، وهي أمور أبدع فيها الغرب أيما إبداع.. وبالعودة للتاريخ نجد أنّ الغربَ (منذ أيامه الأولى وصولاً لعصر النهضة) كان يعتبر – في رؤية للسياسة تعكس خلفية مفاهيمية مادية صرفة - أنَّ الحياةَ البدائية (المتوحشة) دليل على الحياة الطبيعية، وعلى الأصالة الخلفية وعلى النجاح أيضاً؛ وبالترابط مع هذه الأطروحة، فسرت الثروات الضخمة التي تم الحصول عليها (الاستيلاء) دون عناء ودون لعنة العمل.. [4].

ولم تمر مرحلة تاريخية واحدة من مراحل الغرب دونما تأكيد وترسيخ لمقولات العنف والقوة والسيطرة كجوهر للحضور والفاعلية الغربية والبقاء على الرأس القيادي الاستفرادي دونما القبول بوجودي أي منافس أو منازع.. حتى وصلوا إلى مرحلة تأصيل العلوم المادية والتصنيع والتطور الهائل في العلوم التجريبية، لتُستخدم بكل وسائلها ونتائجها في ترسيخ فكرة القوة والهيمنة عندهم، والتي أدت إلى إشعال العالم كله بالصراعات والحروب والدماء وشيوع أعمال القتل والتوحش، خاصة خلال المائة سنة الأخيرة التي شهدت فيها البشرية أسوأ كوارثها الإنسانية، وللأسف ما زالت العقلية نفسها والنتائج المدمرة إلى مزيد...!!.

 

[1] تعتبر أوروبا إحدى قارات العالم السبع. وهي تعدّ -من الناحية الجغرافية- شبه قارة أو شبه جزيرة كبيرة.. يمتدّ الجزء الغربي منها من أوراسيا بين جبال الأورال والقوقاز وبحر قزوين من الشرق والمحيط الأطلسي من الغرب، والبحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود ومنطقة القوقاز من الجنوب، والمحيط القطبي الشمالي من شمال القارة. وهي قارة صغيرة نسبياً مقارنة ببقية القارات، ما عدا قارة أستراليا الأصغر منها.. أما مساحة أوروبا فتبلغ حوالي 10,79 مليون كم2، وهذا ما يشكل ما نسبته 7,1% من مساحة الكرة الأرضية. وهي أيضاً تصنَّف ثالث قارة من حيث عدد السكان في العالم؛ إذ يزيد عدد سكانها على 740 مليون نسمة، وهو ما نسبته 11% من سكّان الأرض. (راجع: حسن عبد العزيز أحمد، جغرافية أوروبا.. دراسة موضوعية، دار المريخ، السعودية/الرياض، عام 1982م).

[2] سوزان حرفي، العلمانية والحداثة والعولمة، (حوارات عبد الوهاب المسيري)، دار الفكر، سوريا/دمشق، عام 2009م، طبعة أولى، ص190.

[3] محمود حيدر، نقد مباني العقل الإمبريالي (مدخل تأسيسي)، سلسلة نحن وأزمنة الاستعمار، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، العراق/بغداد، عام 2018م، طبعة أولى، ج4، ص15 وما بعدها.

[4] جيرار لوكيرك، الأنثروبولوجيا والاستعمار، ترجمة: جورج كتورة، معهد الإنماء العربي، لبنان/بيروت، عام 1956م، طبعة أولى، ص45.

إخترنا لكم من العدد

إعرف عدوك

تقدم إيران في البرنامج النووي.. هل توجد استراتيجية مواجهة بديلة؟

تقدم إيران في البرنامج النووي.. هل توجد استراتيجية مواجهة بديلة؟ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ترجمة وإعداد: حسن سليمان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ في مقابلة نشرت في صحيفة ...

إقليميات

الرئيس تبون ومحاربة الفساد في الجزائر

الرئيس تبون ومحاربة الفساد في الجزائر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ توفيق المديني ـــــــــــــــــــــ قبل ثلاث سنوات شهدت الجزائر حراكاً شعبياً كبيراً، وكانت مطالبه تتمثل في المطالب المتعلقة ...

دوليات

الدبابات الثقيلة الى الميدان.. الغرب يطيل أمد المواجهة العسكرية مع روسيا

الدبابات الثقيلة الى الميدان.. الغرب يطيل أمد المواجهة العسكرية مع روسيا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ابتسام الشامي ــــــــــــــــــــــــــــ بموافقة كل من الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا تزويد أوكرانيا ...

محليات

بعد قرارات البيطار وارتفاع سعر الصرف هل تنجح واشنطن والرياض في إشعال الفتن ونشر الفوضى الداخلية؟!!

أوساط سياسية للبلاد: بعد قرارات البيطار وارتفاع سعر الصرف هل تنجح واشنطن والرياض في إشعال الفتن ونشر الفوضى الداخلية؟!! ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ محمد الضيقة ــــــــــــــــــــــ إن الثابت الوحيد ...