أماهُ.. عيدُكِ اليوم في الجنةِ يا كلَّ الجنةِ
غسان عبد الله

أماهُ.. عيدُكِ اليوم في الجنةِ يا كلَّ الجنةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غسان عبد الله
ـــــــــــــــــــــــ
بعد اثنين وستين من العمر.. بعدَ سفَرْ.. بعدَ نصفِ قمَرْ.. وبعدَ أعوامٍ أربعة من البُعدِ عنكِ في فيافي السفرْ.. بعدَ عمُرٍ قطعتُهُ دون أن أرى الفرحَ الذي كان يفوحُ من كدُّوشةِ الزَّعْتَرِ من لمسِ يديك.. بعد كلِّ خساراتي.. بعد أنْ خذلَتْني الطريقُ وأشعاري.. وأشياءَ أُخَرْ..
بعدَ أن هجرَتْني القصائدُ المطويَّاتُ بالحبر المضمَّخِ بدمِ القلب.. والمنزلُ الأليفُ.. بعدَ أنْ ذَهَبَ الأصدقاءُ كلٌّ إلى غاياتِهِ.. واحدٌ في الأقاصي، آخرُ في الغياهِبِ، ثالثٌ للهروب.. ثمَ أجْمَلَهُمْ لديكِ غابَ ليسترِدَّ بمفردِهِ التلالَ والوديانَ ويزيحَ كآبةَ عمرٍ عن الوطنْ ولمْ يعُدْ، بعدَ هذا القلبِ الحجرْ وأُنسِكِ القمَرْ.. لم يعُدْ لي يا أجملَ من روحي الولهى.. لم يعُد لي مكانٌ في أيِّ مكانٍ.. على البحرِ.. على الصَّخْرِ.. تحت شجَرةِ الليمون في الجلِّ أو تحت ياسمينة الدَّار.. أو قرْبَ المصطباتِ الحبيبةِ.. أو على الفِراشِ الذي تُعِّدُهُ يداكِ كلَّ مساءٍ لرقْدتي محمياً من الجنيَّاتِ والعناكِبِ.. أو عندَ عتَبةِ الدار حيثُ انتظارُكِ اليومي لنا نعودُ محمَّلينَ بالكتُبِ والتَّعَبِ والشوقِ لطبخةِ مجدرة حمراءَ لا تزالُ وحدها تعبُقُ حتى هذي اللَّحظاتِ في أنفي..
لم يعُدْ لي مكانٌ أكتُبُ فيه اغزَلَ لحبيبةٍ وهميَّةٍ خِلْتُها ستأتي مع الغيماتِ ذات أمسيةٍ لتقبِّلَ يديكِ الطاهرتين.. لم يعُدْ لي يا أمي من منفىً سوى ذاكَ الوطنِ الكبيرِ من الأمنياتِ على راحةِ كفِّكِ التي أعِدَّت للكون تهزُّهُ.. لكِّ تعدِّينَ للصبرِ قلبَكِ.. وللعذابِ وجدَكِ وللعزةِ جبينَكِ.. وللدموعِ في الليالي وجنتيكِ.. لم يعُدْ لي من منفىً سوى حِضنكِ واليدين.. فافردي جناحَكِ الوارفِ فوقَ جسمِكِ الصغير جداً ليستقْبِلَ شوقي وأحلامي وتوقي للموتِ على أعتاب قدميكِ علِّي أغدو ملاكاً في هاتيكَ الجنان تحتها.. لم يعدْ لي من ملجأ، منفىً بعيداً عن العذابات سوى راحتيكِ تمسِّدان شعريَ المشعَّثِ بعد جولةِ لعبٍ بالنبُّو أو بالكِللِ..
والبيوتُ التي بُنِيَتْ في الصبا(أمَّاهُ).. البيوت.. لم تكنْ من حديدٍ وطين.. البيوتُ التي كان يصعدُ منها دخانُ الضُّحى كالغُييماتِ الصغيرةِ ضلَّت سماءَها.. والشُّجَيْراتُ في الجلِّ ترفعُ أعناقَها باتِّجاهِ الدُّخانِ ملوِّحَةً بالليمونِ والأكِّي دنيا مثلَ الوداع.. البيوتُ التي تتلاصقُ في الليل خوفَ اللصوص وخوفَ الضِّباعِ وخوفَ التآكُلِ والتَّأسُّنِ والتَّرَهُلِ والإحباطِ والضيَّاع.. البيوتُ الجميلةُ الهادئةُ الوادعةُ تلكَ التي يأنَسُ فيها الأطفالُ والفلاَّحون.. وتنامُ عليها الغيوم.. البيوتُ.. البيوتُ.. مثلّ أمٍّ رؤومٍ.. البيوتُ التي بنيناها أنا وأبناءُ الجيران بعُلَبِ الكبريتِ الفارغةِ.. البيوتُ.. لم تكن غيرَ حاجةِ طفلٍ حالمٍ ليقتاتَ فُتاتَ السحابة.. لم تكن بالنِّسبةِ لي غيرَ حُلُمٍ ضائعٍ بين صرخات النَّشيجِ المرِّ.. وبينَ موجاتِ الكآبة.. ثم من بعدُ وعند الثني وستين وشهر تقريباً قد سقَطَتْ كلُّها حبراً على ورقِ الكتابة.. أخطُّها رسوماً زائفةً على صفحات يومياتي المشبوبةِ بالحُلُمِ الذي لا يُفارقْ..
البيوت.. البيوت.. هلْ ثمَّةَ بيتٌ آنَسُ فيه ناراً من سنا عينيكِ لآتي لعمرِ الأحزانِ المتبَّقي منه بقبسْ؟؟ هل ثمَّةَ بيتٌ مما يدَّعون.. شرفةٌ غرفةٌ.. هل ثمَّةَ جدرانٌ أو سقْفٌ أو بلاطٌ.. هل ثمَّةَ كوخٌ على مسمَّى بيتٍ على مقربةٍ من شاهقات الحضارة التي طاولتْ حتى حيَّنا الصغير.. لتختفي شُجيراتُ الليمون من جلِّ أبو علي.. هل ثمَّةَ علبةٌ من غابرِ أيام الطفولةِ تحتويني هذا الصباح كي أشربَ قهوتي بقربِ دفءِ محيَّاكِ دونما بكاء؟!!.
في عيد الأم.. عيدُكِ اليوم في الجنةِ يا كلَّ الجنةِ.. رحمكِ الله يا أم حسان.