رؤيةٌ حَولَ الأخْلاقِ النّظريّة والعمليّة الحُقوقُ أمْ الأخلاق في ميزان التطبيق والسلوك البشري؟!
نبيل علي صالح

رؤيةٌ حَولَ الأخْلاقِ النّظريّة والعمليّة
الحُقوقُ أمْ الأخلاق في ميزان التطبيق والسلوك البشري؟!
نبيل علي صالح
كاتب وباحث سوري
قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَإنّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيْم﴾(سورة القلم/4). ﴿بِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ...﴾ (سورة آل عمران/159). ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾(سورة الأحزاب/21). ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾(سورة الجمعة/4).
وقالَ الرّسول الكريم(ص): "إنّما بعثتُ لأتمّمَ مَكارمَ الأخْلاق"[1]، وقال أميرُ المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(ع):"لا تُخلِّقوا أولادَكم بأخلاقِكم فإنّهُم خُلِقوا لزمانٍ غَير زمانِكم"[2].
منذ أنْ خُلق الإنسانُ على هذه البسيطة وبدأتْ مسيرةُ تكامله العقلي، وتوازَنَ وعيه وانضبطَ سلوكه الحياتي، منطلقاً لتدبّر معاشه، ونظم أموره، وتأسيس مختلف مواقع وجوده وشؤونه وعلاقاته الخاصة والعامة، كانَ الدّينُ (وهو فطرة بشرية جوانية) ملازماً ومرافقاً لهذا الإنسان، كما كانت الأخلاقُ والقيم الدينية (بصرف النظر عن نوعيتها ودرجاتها وتكاملها) مواكبة لفعله وحركته من حيث بحثه الدائم عن غطاء ديني قيمي يمنحه المبرّرَ الأخلاقي لعمله وحركته، وعن معنى لوجوده وأفعاله ومدى مطابقتها لوعيه الديني ولقيم الأخلاق أو مناقضتها لها..!!. ولكن ما كانَ أخلاقياً في زمنٍ ما، قد لا يكون بنفس المستوى والقيمة الأخلاقية في زمن آخر في مستويات التطبيق والممارسة.. ونحن هنا نتحدث عن تشريعات وقوانين وأنظمة صاغها الإنسان في ماضيات أيامه، حيث أن كثيراً من الحضارات التي مرت في تاريخنا البشري، تعددت قيمها وتنوعت مسلكياتها ومحدداتها الأخلاقية، واختلفت اختلافاً كلياً وربما جذرياً من طور زمني إلى آخر.. ويمكن من خلال مراجعة بسيطة لتواريخ حضارات ومجتمعات سابقة أن نتعرف إلى كثير من تلك التطبيقات الأخلاقية الاجتماعية العملية التي سادت في تلك الأزمان الغابرة، بحيث تبدو اليوم مقززة ومستنكَرة وغير أخلاقية بالمطلق.. وربما حتى في عصرنا الراهن، حيث تسود مجتمعات العالم لغة المصالح وتحكمها شرائع الغاب للأسف الشديد، تتناقض الأسس والمعايير الأخلاقية بين بلد وآخر.. فما هو أخلاقي (مقدس) عند المسلمين وأتباع الديانات السماوية، قد لا يكون على هذا النحو لدى قوى ومجتمعات دولية أخرى.. وها نحن نرى اليوم ونعاين بأم أعيننا هذه الحملات السياسية والإعلامية والاجتماعية المدافعة عن حقوق المثليين، التي ترفع ألويتها كثير من مجتمعات الغرب.. بل ويعتبرونها أخلاقية يجب صيانتها ورعايتها بالقوانين والأنظمة الدستورية الصارمة!!.
أي أنّ الموضوعَ برمته ارتبطَ بطبيعة النُّظم والقوانين (وآليات التطبيق الاجتماعية) التي أنتجتها المجتمعات البشرية في مسيرتها الحياتية، ورسخت شؤونها بناءً عليها. هذا يعني أنّ قيم الأخلاق نسبية متغيرة في حركة السلوك والتطبيق، مع بقاء القيمة كمبدأ راسخة في معناها، ولكنها متغيرة ومتحركة في سلوكيات أصحابها والمعتقدين بها..
نقول هذا الكلام طبعاً مع قناعتنا الراسخة بأن الأخلاق والقيم لا يمكن أن تغيرها أحوال البشر وطبائعهم وأمزجتهم وأهواؤهم، وهي لا تخضع للقوى الشهوية والغضبية البشرية.. فالعدل كأرقى وأعلى وأهم قيمة أخلاقية هو أمر ثابت وراسخ عبر كل العصور والأزمان والتواريخ، لأنه هو قيمة بذاته بل ويستمدها من علة الكون وخالق الوجود، الله العادل المطلق في عدالته.
طبعاً عند الحديث عن الأخلاق علينا أن نميِّز بين وجهين للأخلاق؛ أحدهما نظري، والآخر عملي؛ فالأول يضع الأسس والمبادئ والنظريات التي يستنِد إليها السلوك الإنساني، والثاني عملي يَبحث في التطبيقات العملية لهذا السلوك، داخل كيان عيني محدد.
يعني يجب أن نفرق بين شكلين أو نمطين للأخلاق، الأخلاق الثابتة (الأصول والقيم والمبادئ العليا)، والأخلاق المتحركة (الخاضعة لتوافقات الواقع)، فالثابتة هي القيم الأصيلة التي تعتمد عليها الحياة، ولا بد منها في كل زمان ومكان، مثل: الصدق، الأمانة، العفة، العدل، المساواة، الحرية.. وما شابهها.
أما الأخلاق المتحركة فهي ليست مبادئ ثابتة بل متحركة بحسب الزمان والمكان، لأنها تمثل نهج العلاقات الاجتماعية، وطريقة ممارسة الحياة وتطورها.. فأسلوب الاحترام أو التعبير أو إدارة العلاقات السياسية أو الاجتماعية يختلف من عصر إلى آخر.. نعم، القيم والمبادئ العليا ثابتة، ولكنّ تحريكها وتطبيقها وتمثلها كمناهج عمل هو المتغير.
إن الأخلاق الثابتة هي القيم الأصيلة التي تتصل بأصل وجود الإنسان في هذه الحياة، في إيمانه بواجب الوجود وانفتاحه عليه في صفاته وقيمه (نظرية الكدح الارتقائي)[3]، وفطرته على قيم وصفات المثال الأعلى، وهي التي تعتمد عليها كل متعلقات حركية الوجود الإنساني في الحياة بكل مواقعها وامتداداتها، ولا بد منها في كل زمان ومكان دونما أي تغيير في بنيتها ومعانيها وجوهرها.. إنها في النهاية قيم الله تعالى، خالق الحياة والوجود، التي طالب البشر بتمثلها وتطبيقها في واقعهم وعلاقاتهم وتفاعلاتهم ومختلف فعاليتهم الوجودية في مستوى الذات والموضوع، مثل: الصدق، الأمانة، العفة، العدل، المساواة، الحرية، وما شابهها، فهي قيم وأفكار صالحة دائماً أبداً، طالما هناك وجود بشري، لأنها ترتبط كما قلنا بالمطلق والنموذج والمثال الأعلى المرتفع الذي هو الله تعالى علة الوجود والخلق والحياة.. فالله تعالى هو أصل الأخلاق وجذرها، لأنه المثال الأعلى والنموذج المرتفع للإنسانية جمعاء في كل حركة وجودها الزمانية والمكانية، لأنه الخالق والعاطي والعلة المطلقة.. وأما الأخلاق المتحركة فهي ليست مبادئ ثابتة، بل ظلال القيم في حركة التطبيق، أي هي سلوكيات ومناهج عمل متحركة بحسب الزمان والمكان، لأنها تمثل نهج العلاقات الاجتماعية وطريقة ممارسة الحياة وتطورها، فأسلوب الاحترام أو التعبير أو إدارة العلاقات السياسية أو الاجتماعية يختلف من عصر إلى آخر.
القيم والمبادئ العليا ثابتة، أما تحريكها وتطبيقها وتمثلها كمناهج عمل فهو المتغير.. مثال: الصدق، قيمة ايجابية مطلوبة دوماً.. هذا نظرياً؛ لكنك – في الإطار العملي التطبيقي - لا تستطيع أن تكون صادقاً في كثير من القضايا.. فهل عليك – مثلاً - أن تصدق مع عدوك، إذا ألقى القبض عليك في معركة ما لتكشف له عن معلومات سرية تخصُّ بلدك وأمنها ومقومات وجودها؟!! بالطبع لا.. بما يعني أنّ حركة تطبيق القيمة في الواقع العملي هي المتغيرة، وهي التي تختلف عن واقع وجودها المعرفي القيمي النظري.. بما يعني أيضاً أنه يجب ألا نسجن أنفسنا في داخل هيكل القيمة العليا دوماً، لأن ذلك يؤثر سلبا على حركتنا الحياتية ونتاجاتنا العملية.. وهذا ما يمكن تسميته في التطبيق العملي، بـــ "الأخلاق الاجتماعية" أو "الأخلاق العملية" المقارنة للسلوك الاجتماعي اليومي المرتبطة بالحياة الضروريَّة.. وهو بالمحصلة، يأتي نتيجة خبرة تراكمية تنتقلُ من حينٍ إلى آخر عبر وسائط مختلفة.
ونتيجة هذا التراكم النظري والعملي في الموضوع المتعلق بالأخلاق، نشأ ما يسمى بعلم الأخلاق، كوسيلة وأداة للعمل بما تقتضيه قواعد الأخلاق ومبادئها ومعاييرها الدينية والبشرية القارّة.. ويعرّف بأنه العلم الفلسفي الذي يختص بدراسة الأسس أو المبادئ التي بناء عليها يمكن أن ننسب قيمة أخلاقية (Moral Value) لسلوك ما.
وبهذا الاعتبار، فإنّ علم الأخلاق في الأصل علم عملي؛ لأنّ مسائل الأخلاق بطبيعتها تتعلق بالسلوك الإنساني؛ ومن ثم فإنها تُعد شأناً من شؤون الحياة العملية.. مع أن القدماء نظروا لعلم الأخلاق كعلم عملي، فقط بهذا الاعتبار، أعني باعتبار أن موضوع هذا العلم يتعلق بالسلوك الإنساني.
هذا لا يعني بطبيعة الحال أن الأخلاق التطبيقية لا شأن لها بالأخلاق النظرية.. لأن الأخلاق التطبيقية وإن كانت لا تجد في الأخلاق النظرية حلاً شافياً مضموناً لمشكلاتها؛ إلا أنها بالتأكيد يمكن أن تسترشد ببعض المبادئ النظرية العامة التي أقرها الوعي الأخلاقي الفطري القائم أساساً على ما أودعه الله تعالى في الإنسان من قابليات أخلاقية.
ولكن القضية أن حركة تطبيق القيم والمعايير الأخلاقية لا شك أن تتغير وتتكيف مع حركة متغيرات الواقع، وهنا نطرح الإشكالية – على صعيدنا العربي والإسلامي بالذات - بشكلٍ آخر، فنسأل: هل يمكننا الوصول إلى تمثُّل القيم والفضائل الأخلاقية في مجتمعاتٍ يعاني فيها الإنسان من الظلم والحرمان والطبقية، وتسوده علاقات الفساد والتسلط والتطرف والفوضى والعبث واللا قانون و "السلبطة" والنهب؟!.. بأي منطق إنساني أو بأية معايير دينية يمكن أن نناقش ونقنع إنساناً بضرورة تمسكه بأخلاق الدين أو بقوانين المجتمع الذي يعيش فيه، وهو يرى بعينيه ويلمس بيديه، الظلم والبؤس والشقاء، ويعاني من الطبقية والتمييز والفساد، بما ينعكس عليه اضطهاداً وانحطاطاً ومظالمَ لا تُحتمل في عيشه ومختلف شؤونه اليومية؟!.
إن تطبيق القيم والفضائل الدينية بصورة مثالية أو على الأقل واقعية نوعاً ما في هكذا مجتمعات أو بلدان تحارب العدل والمساواة، وتتعيش على الظلم والصراعات والتناقضات، وتتقوم بالفساد والنهب، هو أمر غير ممكن وغير وارد بالمطلق..!!. ولا يوجد مجتمع بشري نجحَ في بناء وإقامة أسس العدالة والمساواة مع إنسانه الذي ينتمي إليه، وهو (أي إنسانه) كان يعيش في ظل الخراب والدمار والظلم..!!.
من هنا أهمية التوازن بين الحقوق والقيم.. إذ أنه، قبل أن نطالب وتُطالِبَ الناس بالتربية والثقافة والوعي الحضاري والمدني وضرورة التنشئة التربوية الصحيحة وأهمية تطبيق القانون والالتزام بمعايير الأخلاق والفضائل (وهذا كله مهم للغاية)، عليك تأمين مناخات التطبيق السليمة.. فــبناء وصياغة "الانسان – الفرد - المواطن" وليس "الإنسان - الرعية (العبد)" أهم من القانون وحتى الأخلاق ذاتها، لأنه أساس الوجود كله، ولهذا فإعطاؤه حقوقه وتأمين احتياجاته ومتطلباته -والسعي الحثيث والجدي، في سبيل تنمية قدراته واستثمار طاقاته ومواهبه الخلاقة والمبدعة- هو جوهر التطبيقات القيمية والقانونية.. وهذه مسألة مهمة للغاية في الاجتماع البشري، ما زالت مثار جدل وربما رفض داخل مجالنا الثقافي والحضاري الإسلامي، مع أنها تتعلق بأصل ومعيارية الوجود البشر، وبكل مستوياته العملية المؤسسية العامة والذاتية الخاصة، ثقافةً واجتماعاً، اقتصاداً وسياسةً وغيرها... وهنا تحضرني حادثة تاريخية مهمة لها معاني كبيرة.. حيث يُروى –في زمن الخليفة عمر بن الخطاب- أنّ والي أو عامل مصر (مثل رئيس مصر حالياً) حضرَ الى الخليفة عمر معتزاً وشامخاً ومفتخراً بتطبيق حدود الله في مصر، وعلى رأسها حد السرقة، وهو قطع اليد..!!.. فما كان من الخليفة إلا أنْ قالَ له بما معناه: نعم، ولكن "إنْ جاءني جَائعٌ من مصرَ، قَطعتُ يدَك..!!.".. إذاً تهيئة الظروف والمناخات أمور سابقة على تطبيق القيم والقوانين، بما يعني أن إحقاق الحقوق والواجبات أهم وأولى وأسبق في التطبيق على القيمة حتى لو كانت تستمد وجودها وقوتها من النص المؤسس..!!.