العلم سلاحٌ ذو حدّين
غسان عبد الله

العلم سلاحٌ ذو حدّين
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
غسان عبد الله
ـــــــــــــــــــــــ
منذ وجد الإنسان، وهو يطمح أن يمتلك الحقيقة المطلقة، وأخذ يحتال من أجل ذلك كل حيلة، فغامر مغامرات، أنتجت كثيراً من النتائج التي جعلته يتورّط أكثر في هذه اللعبة التي أعجبته، تفاؤلاً منه أن يسيطر على هذا الكون، هذا الكون الذي أخافه وأرعبه، ودفعه لمقاومة ظواهره وعاش معها ردحاً من الزمن في علاقة عداء، ما انفكت تصرعه أحياناً عدة، وتتغلب عليه، حتى إذا توصل للعلوم ظن أنه قادر عليها بتقنياته وأساليبه وأدواته.
من كان يتصور يوماً أن يجوز هذا المخلوق الضعيف بجسمه القوي بعقله فضاءً رحباً، فيرتاد الكواكب، ويزاحم النجوم بمركباتٍ فضائية عملاقة، ويعيش مع قطرات الماء، فيراها وهي تتشكل سحباً يتراكم بعضها فوق بعض قبل أن يراها أمطاراً تهطل بغزارة فتدمر وتهدم، إنه يراقب عن كثب كل ما يجري فوقه ويكادُ يصرفه إلى منفعته ومصالحه، ويتصرف بكل ما حوله فيعيد تشكيله على عين بصيرة وخبرة زاخرة بالعلوم والقوانين.
أوَ مَنْ كان يظن – ولو من باب الخيال المغرق في متاهاته - أنْ يغوص الإنسان في عمقِ البحارِ والمحيطات، فيقبضُ على وحوشِ الظلام وخيالاتِ الجنِّ والعفاريت، فيلاطمُ ويقهرُ لججَ الماء، فيحطّمُ أساطيرَ الخوف، وينظر فيُدرِك بديعَ صنعِ الله عزّ وجلّ، وقد تجلّت في تعدِّد المخلوقات، فعلِمَ ما لم يكنْ يعلم، وإذا بكلّ ذلك العالَم ماثلٌ بين يديه يجرُّ أذيالَ الهزيمةِ أمامَ تلك القوانين المكتَشفة، فما الذي أوصلَ الإنسان لكلِّ ذلك؟.. إنه العلم الذي فاضَ بنزرهِ اليسيرِ ليحقِّق الإنسانُ بهذا النّزر آمالاً ويبني عالماً من العَجَبِ والدّهشة.
إنه هو مشرق لمدنية إنسانية سخّرت العلم والمعرفة والقوانين لمصلحة حياة أفضل، حيث التطور والتقدم ومحاربة جيوش المرضِ والانتقال بسرعةِ البرق بين العواصم والمدن والقارات عبر فضائيات ورسائل إلكترونية، وجعلَتْهُ يحلِّق في فضاءِ الله بطائرات نفاثة، ووفّرت جهدَهُ ومالَهُ وجعلت حياته أكثر جمالاً ورفاهية، ولكن هل هذا هو وجهٌ وحيد أم أننا نرى وجهاً آخر يقطر بشاعة ورعباً أكثر من ذلكم الرعب الطبيعي الموغل في القدم؟؟.
لم يكن ذلك الحلم الرومانسي الذي داعب خيال العلماءِ والمفكرين لينقلب إلى كابوس يقضُّ مضاجعَ البشرية، التي أضحت تعاني مما تمخّضت عنه دياجير العقول المأزومة، فمقابل تلك الصورة التي تُبهر وتُعجب نجد الصورةَ القاتمةَ المنغصة غير الإنسانية، حيث تسخير العلم ومنجزاته وقوانين الطبيعة لغير خدمة الحياة البشرية، فنرى التطور العلمي قد ساعد على إفناء البشرية بأسلحةٍ فتّاكةٍ نوويةٍ وبيولوجيةٍ ومدافعَ رشاشةٍ وطائراتٍ عملاقةٍ توزّع الموتَ المجاني هدايا الجنونِ البشري، فتُحرِقُ الأخضرَ واليابس، وتتركُ الحياة أثراً بعد عين، إنها بشاعةُ استخدامِ العلمِ بأعنفِ منتجاته وبصارم قوانينه.
إن المشكلةَ في ذلك كلّه تكمن في عدمِ اعترافِ ذلك الإنسانِ المأزومِ بأن للعلم أخلاقياتٍ يجب أن تحكمه، وأن للتطور أهدافاً يجب أن توجّهه، ولكنه الطمعُ الإنساني الذي لا تحدّه حدود، ولا تقفُ في وجهِهِ السدود، فإذا ما خلا العلمُ من الضميرِ الإنساني الذي يوجِّهُه ويضبطُ إيقاعاتِه، فلن يكون للعلمِ إلا منتوجٌ واحدٌ هو المزيدُ من الدمار والعبثِ والخراب الذي سيعمُّ الكونَ كلَّه من إنسانٍ وحيوانٍ وجماد، إنها البيئةُ بكلِّ عناصرها من سيُقْتلُ في النهاية، وإنه الكونُ الذي سيدَّمرُ آخرَ الشوط، وكأنّ الإنسانَ يعيدُ للطبيعةِ خوفَها ويكيلُ لها الصاعَ صاعَيْن، فظهرتْ نوازِعُهُ الشريرةُ في حبِّ الانتقامِ من تلك الطبيعة، تلك الطبيعة ناوشته لا لتزعجه، بل لتحثّه على التفكير والعلمِ وإذا به يسيء الفهمَ فيقتُل ويدمّر ولا يتسامح.
إنه العلمُ في كلتا صورتيه؛ صورة مشرقة بانية تسعى للتطور والبناء، وصورة عبثية غبية قاتمة قاتلة قاحلة، ولن نحصي ذماً عليها لأنها تجاوزت حدّها في البشاعة، هذه الصورة هي ما ستترك الإنسانَ يخافُ من كلِّ منجزٍ علمي، ليرى كلَّ صيحةٍ عليه في هذا المنجز، ويزداد يقينه، فيشعرُ أن كلّ موجةِ علمٍ مسخّرة للقضاءِ عليه، لتبدو الحياةُ مواتاً وخراباً وسكوناً دائماً، فهل حقاً العلم سلاح ذو حدين؟.
مما لا شك فيه أن العلم مفيدٌ ومفيد، وليس له إلا ذاك الوجه البهي، وهو بالتأكيد سلاحٌ ذو حدٍّ واحد هو المنفعة ليس غير، ولكن البشرية وعقول المجانين هي من حولته إلى نقمة بعد أن كان نعمة، فلله درُّ الإنسان ما أكفره!!.