كيف تتطور مجتمعاتنا، بالتغيير السياسي أم بالتجديد الثقافي والتاريخي؟!
نبيل علي صالح

كيف تتطور مجتمعاتنا، بالتغيير السياسي أم بالتجديد الثقافي والتاريخي؟!
قراءة في موجبات التغيير العربي ونظرياته وأسباب فشله
نبيل علي صالح
كاتب وباحث سوري
لم يمرْ على العربِ زمن أسوأ من هذا الزمن، ونقول "أسوأ" ليس لوصف الزمن بذاته، بل لوصف حال من يعيش فيه من الفاعل البشري، أي من العرب أو بالأحرى من نُخَب العرب وحكامهم القابضين على مفاصل القرار، في وعيهم ومسؤولياتهم وعلاقاتهم، في انعدام إحساسهم العميق بأهمية البعد الزمني، وفي رفضهم وممانعتهم الشديدة الدائمة لإحداث أي تغيير إيجابي تنشدهُ مجتمعاتهم، بحيث يقومُ على العقل والعلم والانفتاح السياسي وغير السياسي المفترض أن يتمثل عبر إقامة دول العدل والقانون والمؤسسات..
دول الازدهار الاجتماعي والاقتصادي والتقدم التقني والصناعي وووإلخ، قياساً –بطبيعة الحال- بما يحوزونه (نظرياً على الأقل حيث الهيمنة والسيطرة هي للشركات العالمية الكبرى العابرة للحدود والقارات) على ثروات هائلة وموارد ضخمة، لم يستفيدوا منها إلى يومنا هذا إلا لبناء حداثة قشرية مغدورة، حداثة شكلية مظهرية خاوية على عروشها البنيوية، وبعيدة عن أدنى تَمثُّل للحداثة الحَقيقية علماً ومعرفةً وتصنيعاً.
إن التغيير ضرورة حيوية كبرى لاستمرارية وجود مجتمعات العرب في هذه الحياة، وليس فقط هو مطلب شعاراتي سياسي انتخابي قد يرفعه حزب من هنا وآخر من هناك.. والدليل على وجودية هذا التغيير وراهنيته وحيويته، هو ما وصلت إليه أحوال كثير من بلدان العرب من سوء وسلبية وانحطاط كبير.. أزمات وصراعات وحروب وخسائر كبرى في الثروات وتبديد للطاقات وتبعية للغريب وووإلخ.
انظروا مثلاً اليومَ إلى حالِ السودان، وهو ليسَ بلداً فقيراً بل مفقَّراً منهوباً، وقدِ اشتعلتْ فيه الحربُ الدّموية بين أهلِ البيت الواحد طَلباً للسُّلطة والنفوذ والحكم، وخدمة مآرب وأغراض دول خارجية، تنظرُ بلهفةٍ لثرواتِ هذا البلد، ويسيلُ لعابها على ممتلكاته الحيوية ومقدراته الطبيعية وغير الطبيعية الهائلة التي لا تقدر بثمن[1]..!!.
فإلى متى تستمر حال السودان - وحال غيره من بلدان العرب - على هذه الدرجة من السوء والانحطاط السياسي والاقتصادي والعيش في مآزق وأزمات متتالية، والانتقال من حرب إلى أخرى ومن تبعية إلى تبعية أخرى؟!.. ثم متى يمكن أن ينطلق قطار التغيير الحقيقي لصالح الشعوب المستضعفة التي تدفع لوحدها أثمان مغامرات العسكر ومن لفّ لفّهم من بارونات الفساد وحيتان النهب الداخلي والخارجي؟! وهل التغيير المطلوب يجب أن يتحرك سياسياً أم ثقافياً، أي هل أن الثقافة السائدة هي المشكلة والعقبة أمام أي تغيير سياسي؟!.. ثم ما هو الثمن الواجب دفْعه أكثر مما دفع إلى يومنا هذا، حتى يبدأ التغيير أو حتى الإصلاح بأبسط حالاته ومظاهره؟!..
لقد سادتْ في حياتنا السّياسية والثقافية العربية والإسلامية منذ عدة عقود، فكرة التركيز على قضية التغيير انطلاقاً من مفردة الثقافة، وضرورة التجديد الثقافي العربي والإسلامي (التراث الديني)، وأنّ واقعَ العرب السّياسي القائم لن يتطور أو يتغير ما لم نبدأ من تغيير جذر وبنية المجتمع، أي ضرورة البدء من التغيير الثقافي والعمل على تنويره وعقلنته ودفْعه للعلمنة القاضية بفصل الدين عن الدولة.
طبعاً إلى جانبِ هذه الرؤية أو الفكرة كانَ هناكَ رأي أو نظرية ورؤية أخرى تعاكسُ الأولى وتنادي بضرورة البدء بالتغيير السياسي الداخلي للبلدان العربية، لأن النخب السياسية القابضة على مفاصل الحكم والقرار هي العقبة الكأداء أمام أي تطور وازدهار ونهضة حقيقية تنشدها مجتمعات العرب، لأن مصلحتهم تكمنُ في إبقاء المجتمعات رهينة الجهل والفوضى والصراعات والتناقضات الجزئية.
.. بطبيعة الحال يجبُ أنْ نعلمَ أنّ التغييرَ في بيئاتٍ اجتماعية وتاريخية وثقافية لمجتمعات كمجتمعاتنا - تهيمن عليها ثقافة تاريخية يعتقد غالبية الناس بحيويتها ومحوريتها في حياتهم وعلاقاتهم الخاصة والعامة - هو قضية معقدة وصعبة، وليس بالقضية السهلة أو ممكنة الحصول بأمر فوقي أو رؤية نظرية ما، وهي مسألة لا تتعلقُ فقط بالبنى الفكرية والسياسية والشروط التاريخية السائدة فقط، بل تتعلق أيضاً بتشابك المصالح وتعارض إرادات الدول والقوى الدولية الحاضرة بقوة في المنطقة، حيث الاشتغال على الأزمات، والاستثمار الدائم في تعقيدات المنطقة وتصدعاتها التاريخية والثقافية، والتلاعب الدائم بمكوناتها الاتنية والعرقية والدينية والأقوامية وغيرها.. وهذا كله أعاق – وما زال يعيق - إمكانية تشكّل وبلورة فضاءات وطنية معيارية تقوم على مبدأ امتلاك الشعوب لإرادتها وقراراها وثرواتها، أي حيازتها القانونية على مجالها أو فضائها العام.
إننا نعتقد أن التركيز الأحادي على نمط أو شكل واحد من التغيير لن يحل المشكلة السياسية العربية، والمتركزة أساساً في بنى وآليات الحكم السياسي العربي المسيطرة على تلك البلدان، والمفضية إلى إعاقة التنمية، ومنع الناس من الوصول لحقوقها.. حيث أنّ الإصرار على التغيير الثقافي والتلاعب بأنسجة المجتمعات التاريخية، هو بدوره لن يعالجَ أساس المرض المستفحل، بل سيفجّر بنى تلكَ المجتمعات التقليدية، ويعيد الناسَ للارتماء قسرياً في أحضان العنف والإقصاء والغلو الفكري وغير الفكري.
إنَّ الإسلامَ هو الخلفية الحضارية الفكرية والنفسية والتربوية التي لا يمكن المساس بها، وهو العقيدة المركزية الروحية والعملية التي صاغت وتصوغ وجود العرب الواقعي، وقد فشلت كل رؤى وصياغات ومنظومات التفكير الثقافي والسياسي العربي والإسلامي التي نادت بها نخب العرب العلمانية، في إحداثِ أيّ تغيير في صُلبِ تلكَ العقيدة ومبادئها الفكرية رغم محاولاتهم وافتعالهم كثير من المعارك الفكرية والفلسفية معها والتي استهدفوا من خلالها إسقاطِ المنظومة الأخلاقية والثقافية متحالفين في هذا مع نظمهم "السياسية-العسكرية" أو على الأقل متواطئين معها.. وما لم يتم أخذ هذا المعيار التاريخي الاجتماعي الثقافي بعين الاعتبار ستبوء كل محاولات التغيير والتطور في المنطقة إلى هاوية السقوط والخسارة المادية والمعنوية.
طبعاً هذا لا يعني أن مسؤولية الفشل تقتصر على موقع أو مجال السياسة دون غيره من العوامل الأخرى، وعلى رأسها العامل الثقافي والحامل التاريخي، فالثقافة العربية الإسلامية المسيطرة تاريخياً - من خلال أنظمتها الفكرية وأنساقها الأخلاقية والاجتماعية - تتحمل هي بدورها جانباً من المسؤولية، خصوصاً مع البقاء على القديم وعدم التجديد، والارتهان لمقولات ومفاهيم وأنظمة معنى باتت عبئاً على حامليها في مواجهة تحديات حضارية وعصرية كبرى..
ولو أننا دققنا في تاريخ هذه المنطقة خلال العقود الثلاثة الماضية سنجد أنه قد حدثت تغيرات سياسية في صلب بنية بعض النظم السياسية فيها، حيث سقطت أنظمة كبرى كالنظام العراقي الصدامي والنظام الليبي القذافي وأنظمة كل من علي عبد الله وزين العابدين وعمر البشير وبوتفليقة، ولكننا لم نشهد تغيرات بنيوية حقيقية ناجحة في تلك الدول أدت إلى بدء تحول الناس للعيش باستقرار وازدهار، بالعكس، اندلعت حروب أهلية وصراعات عسكرية وبرزت رؤوس أمراء الحروب والقوى ما قبل دولتية، وعدنا مجدداً لنغمة قداسة الحكام..!!. بما يعني أن التغيير السياسي لا يكفي لبدء مسيرة التحولات الإيجابية، بل يجب أن يتوازى التغيير السياسي المأمول (القائم على إزاحة نظم وهياكل الاستبداد السياسي القائم) مع تغيرات ثقافية وقيمية وتاريخية تطال مسألة استبداد الثقافة نفسها.. لأن مسؤولية الخراب والدمار (والحالة القبيحة والشنيعة التي وصلنا إليها في منطقتنا هذه)، تتحملها بالتكافل والتضامن، كل من السياسة والثقافة على السواء في قيمهما الفكرية والسلوكية.
إن هذه المنطقة العربية من العالم مصابة بأمراض عضالية سياسية وغير سياسية راهنة وموروثة؛ هو تاريخٌ عميق وطويل وممتد ومتعاقب من الأحقاد والصراعات، والخوف، والخوف المضاد، والوصايات القسرية وهيمنة أيديولوجيات خلاصية تقوم على الشوفينية والعنصرية والتفكير الجماعاتي المغيّب للفرد وحقوقه الجوهرية.. وصايات قهرية تنتهك وتدمّر وتفعل الأفاعيل لترسيخ بنيانها وتناقضاتها الذاتية الصارخة.. بالتالي أحلامُ الناس وتطلعاتها - في بناء عيشٍ آمنٍ وكريم ومستقر مبني على مناخات راسخة من الوعي والمسؤولية وسيادة القانون والعدالة والحقوق - هو للأسف أمر بعيد ومؤجل إلى وقت طويلٍ طويل.. ومع ذلك يبقى الأمل قائماً في الوعي والمسؤوليات، والتطلع الدائم للأمام..!!.
[1] هذا الغنى الكبير الذي يحوزهُ السودان، يتجسّدُ في هذه الأرقام الضّخمة لثرواته التي يمكن أن تجعله عملياً ضمن أغنى دول العالم بالموارد الطبيعية، وهي:
- 200 مليون فدان هي المساحات الصالحة للزراعة، المزروع منها حالياً 64 مليون فدان فقط.
- 115 مليون فدان هي المراعي الطبيعية.
- يهطل على السودان 400 مليار متر مكعب سنوياً.
- يمتلك السودان سادس أكبر ثروة حيوانية في العالم بحجم 110 ملايين رأس من المواشي المتنوعة.
- 42 ألف طن إجمالي إنتاج السودان من الأسماك سنوياً.
- احتياطي الذهب يقدر بحوالي: 1550 طن.
- يعد السودان ثالث أكبر منتج في أفريقيا للمعدن النفيس بـطاقة إنتاج تصل لحوالي: 93 طن.
- احتياطيات الفضة تقدر بـأكثر من 1500 طن.
- 5 ملايين طن من النحاس.
- 1,4 مليون طن من اليورانيوم.
- يستحوذ السودان على 80% من الإنتاج العالمي للصمغ العربي الذي يدخل في 180 صناعة لمختلف القطاعات الغذائية والدوائية، حيث يتم تهريب واحتكار 70% منه سنوياً من قبل شركات محلية وعالمية.
- ينتج السودان حوالي 39% من السمسم الأبيض المنتج عالمياً، و23% من السمسم الأحمر.