نهاية عهد الاضطرابات: الانفراج الإقليمي وانعكاساته

نهاية عهد الاضطرابات: الانفراج الإقليمي وانعكاساته
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ترجمة وإعداد: حسن سليمان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
برزت في الآونة الأخيرة أولوية واضحة لدول أساسية في المنطقة لاتباع السلوك الدبلوماسي – الاقتصادي على استخدام الوسائل عدوانية – عسكرية. الإرهاق الناجم عن عقد من الصراعات المسلحة في ساحات مختلفة دفع الدول العربية وغير العربية للعمل من أجل تسوية تكتيكية للعلاقات فيما بينهم، بهدف تحسين أوضاعهم.
لهذه العملية، التي لها منطق داخلي وإقليمي وعالمي، انعكاسات على إسرائيل في جوانب الصراع ضد إيران وعلاقتها بالولايات المتحدة وعملية التطبيع مع الدول العربية.
الاتصالات بين دول أساسية في الشرق الأوسط تمهيداً لتحسين العلاقات بينهم بدأت قبل عدة سنوات وفي الفترة الأخيرة بعضها نضجت لتشمل رافعات لتسويات، التي ظهرت بالإعلان عن استئناف علاقات دبلوماسية من بين جملة أمور بين السعودية وإيران وبالتدرج أيضاً مع سوريا، بين سوريا وتونس، بين قطر وجيرانها، وكذلك التقارب التركي الموزون نحو دول الخليج ومصر. وعلى جدول الأعمال، عودة محتملة لسوريا إلى جامعة الدول العربية بعد أكثر من عقد من الحرب الأهلية الدموية، وهناك تقدّم في المحادثات بين السعودية والحوثيين، ما يمهد لنهاية الحرب في اليمن.
تريد دول المنطقة أن تضع حلاً لعقد من الصراعات في ساحات مختلفة، وهي تختار الآن الحوار كسبيل للدفع قدماً بأهداف قومية. هذه العملية، كما يبدو، تهدف للتقليل من مستوى العداء والتخفيف من التوتر من خلال تفضيل استخدام الوسائل الدبلوماسية والاقتصادية على النزاعات والصراعات المسلحة. يجب التأكيد على أن عملية "الصلحة" الإقليمية ليست عملية مصالحة عميقة على أساس أيديولوجي أو ديني، على سبيل المثال بين السنة والشيعة، بل هي نوع من الانفراج الناجم عن المصالح الباردة وحسابات التكلفة والمنفعة، وقبل كل شيء حاجة عميقة للبلدان المعنية لتحسين وضعها الاستراتيجي. يوجد في وسط هذه العمليات الدراماتيكية تحسين العلاقات السياسية والاقتصادية داخل العالم العربي السني وبين الدول العربية والقوى الرئيسية غير العربية في المنطقة - تركيا وإيران -.
ما هي عناصر الانفراج الإقليمي؟
1. تآكل التأثير الأمريكي في المنطقة. تراجُع الانصات الأمريكي للمشاكل الأمنية لحلفائها الاستراتيجيين دفع بدول أساسية في المنطقة إلى محاولة تحسين، وضعهم، بأنفسهم. التحسين في العلاقات بين دول الخليج وإيران، على سبيل المثال، هو جزء من تسييج مخاطر مقبول لدول الخليج، وكذلك أيضاً هو موطئ قدم يتيحانه للصين وروسيا، اللتين تسعيان من جانبهما إلى زيادة نفوذهما في المنطقة على حساب الولايات المتحدة: الصين هي إشبينة اتفاق استئناف العلاقات بين السعودية وإيران، وروسيا هي التي توسطت بين السعودية وسوريا.
2. توجيه الانتباه للشؤون الداخلية. للدول العربية مصلحة في التخفيف من حدة النزاعات الخارجية لتوجيه الانتباه إلى المعالجة المثلى للشؤون الداخلية المشتعلة. هناك رغبة بين الدول الفقيرة في إعادة التأهيل الاقتصادي، وهناك رغبة واضحة بين منتجي النفط الأغنياء في تحقيق مشاريع تؤتي ثمارها، بعضها جنوني، وهو أمر مهم لاستقرارهم وازدهارهم على المدى الطويل.
3. تعزيز قوة إيران وتمركزها في منطقة الحافة النووية. التهديد الإيراني جلب جيران إيران للتقرب إليها بشكل مدروس، على قاعدة "احفظ عدوك قريباً منك"، انطلاقاً من الاعتراف بتفوقها وإمكانية انعكاس ردعها، وكذلك انطلاقاً من التفكير بأنه الصحيح حتى الآن، استنفاد محاولة كبحها بالوسائل الدبلوماسية والرغبة في تجنّب تصعيد التوتر معها. بعضهم، بالتأكيد دول الخليج، يخشون أيضاً من مصادمات محتملة بين إيران وإسرائيل وعبر تحسين علاقاتهم مع إيران يسعون إلى إبعاد أنفسهم، قدر الإمكان، من أي مواجهة عسكرية إقليمية قد تلحق ضرراً بهم.
4. الوضع الداخلي في إسرائيل. العملية الداخلية التي تحدث في إسرائيل، وعدم الاستقرار الاجتماعي – السياسي الناتج عن ذلك، يعتبر كمصدر ضعف، سواء بنظر أصدقاء أو خصوم إسرائيل في المنطقة، وأيضاً على أنه حدث يجعله أقل جاذبية للتعاون. أيضاً التوتر بين حكومة إسرائيل والإدارة الأمريكية يفسر بأنه إشارة ضعف. هذه النظرة لإسرائيل في الوقت الحاضر، بالإضافة إلى سياسة الحكومة الإسرائيلية تجاه القضية الفلسطينية، تسبب برودة معينة في عملية التطبيع وتجعل من الصعب على إسرائيل هذه الأيام إضافة المزيد من الدول العربية (والإسلامية) إليها.
التخفيف من التور في المنطقة وإنهاء الصراعات الدموية يساهم في استقرار المنطقة، وبالتالي يتماشيان في حد ذاتهما مع مصالح إسرائيل. تحسين الوضع الأمني للمملكة العربية السعودية وتعزيزه، على سبيل المثال، هو في مصلحة إسرائيل، حيث يشترك البلدان في رؤية مماثلة للتحديات الاستراتيجية في المنطقة، بل وقد تعاونا بصمت لسنوات عديدة. وبالفعل، فإن إقامة العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإيران ليس بالضرورة عائقاً أمام استمرار التطبيع الزاحف مع إسرائيل. ويؤكد كبار المسؤولين في الإمارات العربية المتحدة، على سبيل المثال، أن الدبلوماسية الخليجية مع إيران لا تعرض التطبيع للخطر.
من المعقول الافتراض أيضاً أن السعودية، بعد أن أصبح الجناح الإيراني آمناً وخفّت حدة التوترات في اليمن، يمكنها مواصلة الحوار مع إسرائيل والولايات المتحدة حول قضية التطبيع. كذلك أيضاً، تسخين العلاقات بين إيران وجيرانها يصبُّ في مصلحة إيران دبلوماسياً واقتصادياً، لكنه لا يمنحها بالضرورة حرية مناورة أمنية عسكرية إقليمية محسّنة. العكس هو: من الممكن أن يؤدي اتجاه الترتيبات إلى تضييق خطوات إيران في المنطقة. وذلك من خلال الالتزام الكبير لها من الآن للحفاظ على علاقات سليمة مع جيرانها.
إلا أنه تحدُث في المنطقة بالموازاة لذلك تطورات، من بينها تآكل النفوذ الأمريكي وحتى أنه لوحظت جوانب أخرى لتقرّب دول عربية من إيران، لا تنسجم مع المصالح الإسرائيلية. على ضوء التقارب بين الدول العربية وإيران، يبدو أنه سيكون من الصعب على إسرائيل كثيراً تعزيز الرواية التي وفقها ليس فقط أنه ثمة تنسيق مصالح بينها وبين "المعسكر" العربي المعتدل، بل أيضاً هناك اتفاق حول طرق عمل مشتركة إزاء إيران، علاوة على أن الواقع الجديد، الذي تنتظم في نطاقه علاقات مع إيران على الرغم من أنها لا تساوم ولا تتخلى عن "حقها الطبيعي" بالسيطرة بشكل كامل على دائرة الوقود النووي وتقبُّلها كدولة "شبه نووية" - موجودة على مسافة قرار عن القنبلة - هو سابقة خطرة. من المنطقي أن السعودية ستطلب من الولايات المتحدة الاعتراف أيضاً بحقها بامتلاك قدرة نووية كشرط للتطبيع مع إسرائيل.
من المحتمل أيضاً أن يقود واقع أمني مستقر في المنطقة في ظلّ ردع نووي إيراني إلى الطلب من إسرائيل القبول بهذا الواقع الجديد وعدم محاولة تغييره: إيران لن تعرض سلاحاً نووياً، وإسرائيل لن تعمل ضدها. كلما ترسّخ تحسين العلاقات مع إيران، سيزيد الضغط على إسرائيل للتراجع عن تهديد مهاجمة إيران وستزداد الفجوة بين مواقفها وتلك التي لدول الخليج. ستتمكن دول على رأسها السعودية من غض الطرف، طالما أن إيران لا تتجاوز العتبة، ولا تسير في طريق النووي العسكري بحد ذاتها.
التقارب "التكتيكي" لدول الخليج من إيران قد يستدعي ضغوطاً متزايدة من جانبها إزاءها بعد تسخين علاقاتها مع إسرائيل. كما أعربت إيران علناً عن معارضتها لـ "اتفاقيات أبراهام" وهي تحاول دق الإسفين بين جاراتها العربية وبين إسرائيل. دول الخليج من جانبها تحدّد المخاطر وتريد الحفاظ على علاقات طبيعية مع كلّ الأطراف، كوسيلة لإحراز أقصى حدّ من المصالح والحفاظ على خيارات مفتوحة. في الواقع من المتوقع حصول مسّ معين في البعد العلني للعلاقات مع إسرائيل، لأن إيران قد تشغّل منذ هذه اللحظة رافعة ضغط سياسي كبير جداً على الدول، وقد تفضي التسوية في اليمن أيضاً إلى إحساس الرياض بأنها أكثر أمناً وبالتالي تقلّ حاجتها إلى إسرائيل. ومع ذلك، يقدّر أنه ليس من المنطقي أن تمس بالعلاقات الأمنية الهادئة مع إسرائيل لأن إيران كانت وما زالت تشكّل التهديد الرئيسي عليها وإسرائيل تُعتبر كـ "ثروة" (أيضاً) في هذا السياق.
خلاصة
عملية التخفيف من حدة التوترات بين الدول السنية في المنطقة وبينها وبين إيران وتركيا نابعة من تفضيل المصلحة السياسية - الإقليمية على المصلحة العالمية، - الجانب الغربي -. تتيح سياسة الولايات المتحدة موطئ قدم آخذ بالتعزز للصين، وكلما تدخلت أكثر، ففي الواقع منظومة العلاقات العالمية الصينية (النطاق والأسلوب ومبادرة الاستقرار العالمي) تخلق أيضاً ارتباطاً بين اللاعبين الإقليميين. إسرائيل التي انضمت إلى "التكتل" السني المعتدل قد تكون جزءاً من تكتل إقليمي جديد، لكن تَشكُّلَه حالياً قد تزعزع. يبدو أن العالم العربي يتقبل، في الواقع دون وجود خيار آخر، الواقع الإقليمي الجديد الذي يتمحور حول القبول بإيران، وحتى "التسليم بها" كدولة على عتبة النووي، - على الرغم من أنه لا يرفض إسرائيل - من الواضح أن ذلك هو تحوُّل إشكالي من وجهة نظرها.
بناءً عليه، ينبغي على إسرائيل البقاء في الساحة - مواصلة تعزيز العلاقات مع دول الخليج وإبرام اتفاقيات السلام وتعزيزها -. بقدر ما تعيد إسرائيل لنفسها صورة الاستقرار والقوة، بقدر ما ستواصل كونها ذات صلة في المنطقة. وإن إحراز تسوية متوافق عليها بشأن الإصلاح القضائي الذي تقوده إسرائيل من شأنه أن يعزز التلاحم والمنعة الاجتماعية في الدولة ويخفف أيضاً التوتر بين الحكومة والإدارة الأمريكية. بعد ذلك على الفور، ينبغي التغاضي عن الإنجازات الإيرانية في المنطقة والعمل مع الولايات المتحدة على تعزيز وتوسيع اتفاقيات السلام قبل أي شيء مع السعودية.
معهد أبحاث الأمن القومي – تايمر هايمن (لواء احتياط ومدير معهد دراسات الأمن القومي) - ويوآل غوجنسكي (رئيس الساحة الإقليمية ورئيس برنامج الخليج في المعهد)