قمة سوريا في المملكة السعودية وأهم الملفات العربية
توفيق المديني

قمة سوريا في المملكة السعودية وأهم الملفات العربية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
توفيق المديني
ـــــــــــــــــــــ
التأم اجتماع الملوك والرؤساء للدول العربية، في مدينة جدّة السعودية الساحلية، يوم الجمعة 19 أيار/مايو الجاري، والتي تشهد انعقاد القمة العربية في دورتها الـ 32، لأول مرة مكتملة النصاب منذ سنوات بعد عودة سوريا إلى مقعدها..
ذلك عقب القرار الذي اتخذته جامعة الدول العربية في اجتماعها الأخير بالقاهرة يوم 7 أيار، مايو، والقاضي بإنهاء تجميد مقعد دمشق لنحو 12 عاماً على خلفية الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في 2011، وتحوّلت إلى حرب استمرّت عشر سنوات قسّمت سوريا واقعياً، ودمرَّتْ اقتصادها وبنيتها التحتية.
وتعود القمة العربية إلى السعودية بعد سنوات قليلة من آخر قمة عادية استضافتها في عام 2018 وأخرى طارئة في 2019، وبعد 47 عاماً من أول قمة على أراضيها عام 1976.
ومنذ أول قمة انعقدت بمصر عام 1946، جاءت القمم العربية على شكل 31 قمة عادية و14 طارئة و4 قمم اقتصادية اجتماعية تنموية، وستشهد جدة القمة العادية رقم 32 والـ 50 بتاريخ العمل العربي تحت مظلة الجامعة العربية.
خصائص الظروف الإقليمية والدولية لانعقاد القمة العربية
جاء انعقاد القمة العربية في جدة يوم 19آيار/مايو 2023، في سياق ظروف إقليمية ودولية محددة جدّاً، يمكن اختصارها في ثلاث محددات، على النحو التالي:
الأول: يُعًدُّ قرار جامعة الدول العربية بعودة سوريا إلى احتلال موقعها الطبيعي في الجامعة العربية، اعترافاً عربياً بنظام الرئيس بشار الأسد الذي ربح الحرب الأهلية السورية. فسياسة عزل الرئيس الأسد لم تؤد إلى نتيجة، بل زادت مشاكل الشعب السوري والمنطقة، وهو ما مكن الرئيس الأسد من حضور القمة العربية الحالية المنعقدة في جدة بالمملكة السعودية.
يعتقد الخبراء أنَّ القرارَ العربيَّ بالتطبيع مع سوريا وعودتها لاستئناف نشاطها بالجامعة العربية، قرارٌ منطقيٌّ وواقعيٌّ، فهو يَحْمِلُ أهمية كبيرة على مسارات متوازية، أبرزها استعادة حالة الوحدة العربية بعد سنوات التشرذم والانقسام، والتي كان الموقف من الأزمة السورية أحد أبرز أسبابها، عبر تحقيق أكبر قدر من التوافق، و يُؤَكِّدُ على أهمية "تعريب" الحلول للأزمات العربية، خاصة تلك المترتبة على الفوضى التي حلت بالمنطقة خلال ما يسمى ب"الربيع العربي"، فهو قرارٌ أيضاً يُعَبِّرُ عن تحقيق مزيدٍ من الانخراط العربي لتسوية الأوضاع، سواء على المستوى الفردي من خلال القوى العربية الرئيسية، أو جماعيا، عبر جامعة الدول العربية، والتي تمثل الكيان الجمعي والممثل الشرعي للدول العربية، من أجل "لم الشمل" العربي والعمل على "تصفير الأزمات" وصياغة رؤية جماعية تستفيد من أخطاء السنوات الماضية، وتعيد بلورة آليات العمل العربي المشترك في ظل تحديات إقليمية وعالمية.
الثاني: تعكس تحركات السياسة الخارجية العربية في السنتين الأخيرتين الحسابات المتغيرة للدول العربية، فقد دشّنت بعض الدول العربية (المملكة العربية السعودية والإمارات، ومصر) العقد الثالث من هذه الألفية بالانفتاح على الخصوم والمنافسين الذين يمتلكون مشاريع إقليمية (إيران، وتركيا) ضمن نهج جديد يقوم على بناء الجسور مع المحيط، وخفض التصعيد وانتهاج سياسة "صفر مشاكل" مع الجيران والأطراف الإقليمية، وذلك لتجنب أي مواجهات جديدة في المنطقة. ويُعَدُّ الاتفاق السعودي - الإيراني لعودة العلاقات الدبلوماسية بين القوتين الإقليميتين في منطقة الشرق الأوسط برعاية صينية في بيكين أوسط شهر مارس الماضي، تحولاً في كل هذا المشهد الدولي والإقليمي، إذ يؤكد على الصعود القوي للدور الصيني في المنطقة، التي كانت لوقت قريب منطقة هيمنة أمريكية بامتياز، وعلى عودة التقارب الإيراني - العربي وانعكاساته الإيجابية على عودة العلاقات العربية مع سوريا، وتراجع مسيرة التطبيع بين بعض الأنظمة العربية والكيان الصهيوني، وفشل اتفاقات أبراهام، وبدء الوصول إلى حل شامل للأزمة في اليمن.
الثالث: تنعقد القمة العربية في جدة، في مناخ العداء الأمريكي لقرار التطبيع العربي مع سوريا، حيث أقرِّتْ الإدارة الأمريكية برئاسة بايدن، قانوناً جديداً يمنع الإدارات الأمريكية من الاعتراف بأي حكومة يترأسها الرئيس السوري بشار الأسد، ويوسع العقوبات المفروضة على النظام بموجب قانون "قيصر" الأمريكي الذي تم إقراره في العام 2019، مقدماً بذلك رسائل للجامعة العربية وقمّتها الـ 32 المنعقدة اليوم الجمعة في مدينة جدة بأن أمريكا ترفض التطبيع الدبلوماسي بين الدول العربية وسوريا، وتضع قيوداً على الحكومة السورية التي يترأسها بشار الأسد، بوضع معوقات أمام إعادة الإعمار وعودة الاستثمارات والنشاط التجاري إلى سوريا وفرضها حظراً على شركة الطيران السورية من دخول المطارات وتهديد الدول والشركات بعقوبات في حال التعاطي مع النظام السوري.
قمة محورية في جدة لبناء نظام إقليمي عربي جديد وقطب اقتصادي
تنعقد القمة العربية في جدة، والوطن العربي خاضع للهيمنة الأمريكية التي تنهب مصادر الثروة النفطية وسواها منذ عقود من الزمن، وتمزّق كياناته لا سيما في المشرق العربي الحركات الانفصالية غير العربية في العراق وسوريا والسودان، وحروب الحركات المذهبية والطائفية، كما تنعقد قمة جدة في ظل هذا السياق العالمي والإقليمي المتغير الذي فرضته الحرب الروسية الأوكرانية، إذ تتطور الشراكة بين الصين وروسيا ودول عربية عديدة، في وقت يبدو فيه أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت العمل على فك ارتباطها بالمنطقة، ما يعنيه ذلك من احتمال إخراج المنطقة من دائرة الفعالية الدولية والتأثير على مكانتها الإستراتيجية في ظل توجه الإدارات الأمريكية إلى اعتبارها منطقة هامشية، وما يستتبع ذلك من مخاطر أمنية محتملة.
تدفع قمة جدة الملوك والرؤساء العرب إلى البحث عن خيارات بديلة عن الارتماء في أحضان النظام العالمي الليبرالي الأمريكي أُحَادِي القطبية، في ضوء مطالبة روسيا والصين وبقية دول البريكس ببناء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، وإحداث متغيرات في السياسة الخارجية لعدد من الدول العربية بهدف التكيف مع الظروف المتغيرة دولياً وإقليمياً، وبلورة خيار إستراتيجي عربي جديد يرمي إلى تعديل وضع الدول العربية عبر إعادة بناء النظام الإقليمي العربي وفق رؤية العصر الجديد تقوده الدول العربية الفاعلة (المملكة السعودية، ومصر، وسوريا) للقيام بدور عروبي فاعل، يجمع شمل عرب المشرق والمغرب، ويجعل القضية الفلسطينية قضية العرب المركزية، ويحتضن المقاومة الفلسطينية، خصوصاً بعد ثورة الشباب في فلسطين المحتلَّة، ويوقف حرب اليمن، ويؤطر اتجاهات الدول العربية من أجل تقليص آثار التحولات الأمريكية (الأمنية، والسياسية والاقتصادية)، وبناء كتلة اقتصادية ذات طابع إقليمي ودولي تحقق انتظارات الشعوب العربية في العيش الكريم والكرامة الوطنية، والعدالة الاجتماعية.
السؤال الذي يطرحه الخبراء والمحللون العرب، هل تعالج قمة جدة المحورية أهم الملفات المطروحة على طاولة القمة العربية؟.. وهل تحقق نتائج إيجابية لمصلحة الشعوب العربية؟.
إضافة للملفات التقليدية التي عادة ما تتطرق إليها القمة العربية، مثل الإرهاب، والأمن، وملف سد النهضة، الذي يشكل خطراً على الأمن المائي في مصر والسودان، خصوصاً بعدما قدمت مصر مشروع قرار للجامعة العربية لمناقشته ومفاوضة إثيوبيا بشأنه، في حين ترفض الأخيرة تدخُّل الجامعة العربية بهذا الملف، على اعتبار أنه شأن أفريقي وليس عربي، لكن يبدو أن أهم ملف مطروح في هذه القمة هو ملف التحديات الاقتصادية وإعادة إعمار سوريا.
تشكل التحديات الاقتصادية، أهم ملف تناقشه القمة العربية في جدة، بسبب الأزمات والمتغيرات المتسارعة والمتلاحقة التي يمر بها عالم اليوم عقب الحرب الروسية - الأوكرانية، واتجاه النظام العالمي الليبرالي الأمريكي نحو الانحدار التاريخي، وتداعيات كل ذلك على جميع دول العالم، سواء المتقدمة أو النامية أو الفقيرة، تنوعت تلك الأزمات بين صدمات اقتصادية، وحروب ونزاعات، وأوبئة صحية، وكوارث طبيعية وغيرها، وشغلت تلك الأزمات جميع المجالات سواء صحية أو صناعية أو تجارية أو زراعية، غير أن الأثر البارز لها كان في (الغذاء) عنصر الحياة الأساسي، والداعم الأكبر للتنمية والاستقرار الاقتصادي والسياسي في الدول العربية.
أصبحت الدول العربية إزاء الأوضاع والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمالية المتسارعة عاجزة في مجملها عن تحقيق هدف الأمن الغذائي، وباتت هناك حالة من عدم اليقين بشأن مستقبل الغذاء وإتاحته، خصوصاً التعافي غير المتكافئ من كوفيد 19 والصراعات المستمرة في العديد من الدول العربية والتزايد السريع في معدلات التضخم، وانخفاض قيمة العملة في بعض الدول العربية، يضاف إلى ذلك الأخطار الناتجة من العوامل المناخية مثل ندرة سقوط الأمطار، وموجات الجفاف، وضعف المباني الأساسية، وخدمات الإرشاد والتسويق، وضعف الاستثمارات الزراعية، وتتراوح حصة العامل الزراعي من الناتج الزراعي من الناتج في معظم الدول ذات الموارد الزراعية، مثل المغرب والعراق والجزائر ومصر وتونس وسوريا، بين 3703 و14042 دولاراً أمريكياً.
وهناك تداعيات استمرار الحرب الروسية - الأوكرانية، نظراً لأنَّ الدول العربية تستورد 42% من احتياجاتها من القمح، و23% من احتياجاتها من الزيوت النباتية من روسيا وأوكرانيا، وقد أدى ارتفاع أسعار المحاصيل الأساسية كالقمح إلى ارتفاع كبير في تكلفة سلة الغذاء، فمثلاً، ارتفعت تكلفة سلة الغذاء في لبنان بنسبة 351% تليه سوريا 97% واليمن 81% ما يقلل من قدرة الأسر المختلفة في العديد من هذه الدول على تحمل تكلفة نمط غذائي صحي وما يترتب على ذلك من ارتفاع أمراض سوء التغذية والأعباء الناتجة عنه.
تضم المنطقة العربية مصر كأكبر مستورد للقمح في العالم، واليمن وسوريا بوصفهما من أكثر الدول تعرّضاً لخطورة حدوث أزمة غذائية يمكن أن تشمل نحو 53%، و36% من سكانهما، تشير التوقعات إلى أن اعتماد الدول العربية على الواردات الغذائية سيظل سائداً حتى عام 2030 وأكثر من ذلك في ظل استمرار الأزمات الغذائية.
وقد أدّت التحديات التي تتعرض لها المنطقة العربية إلى تصاعد قيمة الفجوة الغذائية العربية من نحو 28.9 مليار دولار أمريكي إلى نحو 44.1 مليار أمريكي بنسبة تصل إلى 4.3% خلال المدة من 2010 إلى 2020، وتمثل مجموعة الحبوب نحو 47.5% من إجمالي قيمة الفجوة، وبلغت قيمة فجوة اللحوم نحو 16.7%، والألبان نحو 11.3% والزيوت النباتية 9.4%، والسكر 5.7% والبقوليات 3.4 من قيمة الفجوة.
يتوقع أن تزداد الفجوة الغذائية في الدول العربية نتيجة لمجموعة من العوامل، من أهمها محدودية مساحات الأراضي الخصبة، وتدهور التربة المستمر نتيجة التصحر والتملح وتداخل مياه البحر، والممارسات الزراعية غير المستدامة وصغر الحيازات الزراعية، ما يعوق إقامة المزارع التجارية الكبيرة وتدني إنتاجية الهكتار والمتر المكعب من المياه، إضافة إلى التغيرات المناخية.
خاتمة: مقومات مشروع مارشال عربي جديد
وصل فائض الحساب الجاري لدول الخليج النفطية إلى ثلثي تريليون دولار (أي حوالي 650مليار دولار) خلال سنة 2022-2023. فالدول العربية الخليجية الغنية بإمكانها أن تقوم بمد يد المساعدة للدول العربية الشقيقة عبر الاستثمار في بنيتها الاقتصادية، ولا سيما إعادة إعمار سوريا.. فبعد الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا في شباط/فبراير الماضي قدمت المملكة السعودية وديعة بقيمة 5 مليارات دولار في البنك المركزي التركي. كما أقامت قطر والإمارات مقايضة عملات بقيمة 19 مليار دولار مع المصرف المركزي التركي. وبإمكان صناديق الثروة السيادية الخليجية أن تستثمر في السندات والأسهم الأمريكية، ولكنَّها يمكن لها أيضاً أن تستثمر جزءاً من المال في البلدان العربية الفقيرة والمحتاجة للاستثمارات للنهوض بالأهداف الاستراتيجية لمعظم الدول العربية لتحقيق الأمن الغذائي العربي، وبناء قطب اقتصادي عربي إقليمي.