مرثية المطر الموحِش
غسان عبد الله

أول الكلام
مرثية المطر الموحِش
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غسان عبد الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ضائعاً في صرخةِ الأوعارِ كالأصداء.. يبكي حيثما تهتزُّ ريحٌ وينادي حيثما يرحلُ غيماً بأحرّ الكلماتْ!.. لم يرَ الليلَ سواداً بل أكاليلَ حدادٍ فرماها، ومشى خلفَ المراثي رافعاً من يأسهِ الحادّ كسكينٍ على كل الجهاتْ.. لا حقولُ القمحِ كانت لتناديهِ فيعلو حزنهُ في الريح.. لا الأنهارُ تغري قلبه المشلولَ بالتحليق في شلالّها الشفّاف كيما يلمسَ الغيمةَ من مبسمها الظمآنِ فوق الفلواتْ.
ناشَدَتْهُ الريحُ أن يغمضَ عينيه إذا لاحَ له الذئبُ الذي يظهرُ تحتَ المطرِ الأبيضِ في الليلِ جميلاً كنداء الصبواتْ.. فبكى الشاعرُ في الريحِ الشماليّة حتى انهمرت من جرحهِ الأمطارُ واستصرخهُ الحزنُ الذي ينحتُ من طينِ الغياباتِ فراقاً آخراً بعد الشتاتْ!..
من رأى البرقَ الذي يقدحُ كالفأسِ على جذعِ السوادِ الصلد، والرعدَ الذي يضربُ في وعر الليالي لاطماً بالمطرِ الأعمى جبينَ الظلماتْ.. من رأى الحزنَ كسيفٍ هرمٍ في جمرتَيْ عينيهِ، والصوتَ الذي يحرثُ حزنَ الفؤاد المكلومَ كي يروي جرارَ العبراتْ.
كانَ كالليلِ وحيداً لا ترانيم تشيعُ الأسى الأسودَ في عينيه لا شيءَ يدانيه سوى الموت الذي يضربُ قلبَ البشرِ العزّلِ بالخسرانِ أو يلتفّ كالأكفان حول الصلواتْ. كلما ألقتْ غيومٌ ظلّها الأدردَ في الأرضِ تولاّهُ بكاءٌ غامضٌ في الروح ورآهُ هلالٌ رافعٌ في جسدِ الليلِ عواءَ الشهواتْ. كلما أورقَ غيمٌ شاحبُ الوجه على غصنِ السماوات بكى الشاعرُ كي يبرأَ من شيطانه المضروب بالعاهات واستصرخَ كالأعمى رهابَ الميتينْ: كائناً من كانَ هذا الموتُ فالشاعرُ مخلوقٌ حزينْ! كائناً من كانَ.. فلتعصفْ سدىً بالروحِ أوجاعُ العذابات التي رعرعتُها بالشعرِ كي أستخلصَ المعنى من العميان.. ولتقرعْ سدى في الليل طبولُ الخاسرينْ. ليس هذا الكونُ إلا غرفٌ مهجورةٌ يقرعُ في أرجائها الخوفُ قلوبَ البائسينْ. ليستِ الشمسُ سوى حزن مغيبٍ غاربٍ في الروحِ، والشعرُ رهابُ الشاعرِ الباكي وبيتُ الزاهدين..
أيها الغيمُ الذي يرثي شتاتي في زمانِ الملح جرّدني من الأوراقِ كالأشجار واتركني حزيناً مثل فلاحٍ عجوز في خريفِ اليائسينْ. أبذرُ العزلةَ كالأشباح في الأرضِ وأجني الميتينْ. فأنا الغارقُ بالدمع إلى قمّةِ رأسي أشربُ النيرانَ ظمآنَ، وملتفّاً بشؤمي وسوادي ودمي أغرقُ في بئرِ أنينْ.
واقفاً في الشاطئِ المهجورِ كالربّانِ يصغي لانتحابِ الموج في الخلجانِ، للحزنِ وما يهبطُ من إكسيرهِ الغامضِ كالغصّةِ في حلق البكاءْ.. رائياً في أفق البحر منائرَ صبٍّ منهوكةَ الأشجانِ يلتمّ على أبراجها سربُ حمامٍ ثاكلٍ فيما النواقيسُ مدلاّةٌ بحزنٍ زينبيّ تملأُ الأفقَ رنيناً وصداءْ. قارعاً بوّابةَ الموتِ بكفّيهِ ينادي: كلُّ هذا البحر والناسُ عطاشٌ والأراضينُ ظماءْ. فلماذا يحزنُ الغيمُ إذا جاءَ المساءْ؟ ولماذا كلما استترفني الغيثُ بكت نفسي وجالتْ في قفارِ الروحِ أحزانُ الشتاءْ؟.. وبكى العشاقُ تحت المطرِ المنكوبِ حتى مسَّتِ الريحُ التي ينبح في أحشائها الخسرانُ مزمارَ مراثيهم وخاطتْ جرحهمُ الأمواجُ كي لا يبصروا الموتَ مهيباً ينهبُ كالدودِ عيونَ الشعراءْ.
أيّ نارٍ تضرمُ الحسرةَ في الروح وقرينتي إوزّاتٌ تؤججُ وجهها الأبيضَ بالموج.. ونخلٌ رافعٌ أحزانه حتى السماءْ. ونساءٌ غابراتُ الحزن ينسجنَ الغياباتِ التي طالت مراثيها وما عادت بها خيلُ الشتاءْ. أهي الريحُ التي نبكي على أصلابها أغْرِبةً؟ أم أنه الشعرُ وما يفضي إلى فردوسنا المفقودِ من أسباب هذا اليأس في ثوبِ الحدادْ؟ أم هو الموتُ الذي ترقى إلى رعشاتِهِ الأمجادُ؟.. من نصّبني فوق الدياجي فيلسوفاً للسوادْ؟.. لم يُجِبْ رجعُ الصدى الخاوي وظلَّ المطرُ الموحشُ في طول الليل يذروهُ الرمادْ.