مجلة البلاد الإلكترونية

الهيئة الإدارية: "تفاجأنا بتأييد أصدقائنا في التيار الوطني الحر لجهاد أزعور وهو من قالوا عنه بالأمس: "أن الإبراء له مستحيل" فكيف تحول إلى ممكن بين ليلة وضحاها؟!!"

العدد رقم 392 التاريخ: 2023-06-09

العلمانيةُ والفكر العلماني العَربي استلاب فكري ورفضٌ مجتمعي

نبيل علي صالح

العلمانيةُ والفكر العلماني العَربي

استلاب فكري ورفضٌ مجتمعي

 

نبيل علي صالح

كاتب وباحث سوري

 

العلمانية عند العلمانيين العرب، هي منهج "فكري - سياسي" يتبنّى أصحابه نظرية فصل الدّين عن الدولة، ويعتبرون أنها الأسلوب أو الطريقة الأفضل والأمثل لإدارة مختلف شؤون الحكم السياسي في المجتمعات العربية..

أي حيادية الدولة إزاء كافة الأديان بالدولة وعدم تدخل المؤسسة الدينية في الحياة السياسية.. بما يؤدي – كما يعتقدون - إلى تجفيف منابع التوتر والتناقض التاريخي والاجتماعي التي تضج بها تلك المجتمعات، وإزالة كافة أشكال التوترات والصراعات والنزاعات الطائفية والمذهبية والعرقية، وخلق بيئة سياسية واجتماعية تسمح لجميع التكوينات والانتماءات التاريخية بالتعبير عن ذاتها سلمياً ضمن فضاء وبيئة العلمانية وتحت ظل مت تفرزه من قيم المساواة والعدالة والعيش المشترك.

ولكن هل المشكلة في مجتمعات العرب ودولهم تكمن فقط في وجود طوائف واتنيات وقوميات واتجاهات ومذاهب كثيرة مختلفة؟!.. أم أن المشكلة تكمن في استغلال واستثمار هذا التلون والتنوع التاريخي وتجييره سياسياً من قبل نخب المنطقة وحكامها؟!.. ثم هل صحيح أنه باستطاعة العلمانية (العربية) إذا صح التعبير، إدارة هذا التنوع في مجتمعات العرب، بشكل صحيح وفعال ومنتج؟!.. وهل من تجارب سياسية-اجتماعية عربية ناجحة على هذا الصعيد، أي على صعيد نجاح العلمانية في تحولها لحل وحيد لكل مشاكل المنطقة العربية؟!.

لم تنشأ فكرة العلمانية في بيئتنا الفكرية والسياسية التاريخية العربية والإسلامية، ولم تجد لنفسها بنية اجتماعية وسياسية عميقة وراسخة، على الرغم من محاولات فرضها قسرياً طيلة عقود من قبل نخب الحكم السياسي العربي، ومريديهم والدائرين في فلكهم من بعض المثقفين والمفكرين،  بل هي فكرة خارجية، وفدت إلينا – مثل كثير من الأفكار والطروحات السياسية والاجتماعية الأخرى - بعد حدوث الصدام مع الغرب سواء من خلال حركة الاستعمار التقليدي أو من خلال انفتاح كثير من مثقفي العرب ونخبهم على علوم الغرب واطلاعهم المباشر أو غير المباشر على ثقافاته ومختلف أوضاعه وشؤونه وسياساته وأفكاره التي كانت قد برزت وسادت على وجه الخصوص بعد انتهاء الحروب الدينية إبان  عصر النهضة الأوروبي، وكانت تدعو لإعلاء شأن الفرد - الإنسان، وترجيح العقل، وإعلاء شأنه كمرجعية نهائية للإنسان في كل حياته وأعماله بعيداً عن أية مرجعيات أخرى دينية أو غير دينية.. أي المناداة بفصل الدين والسلطة الدينية عن الدولة والسلطة السياسية بعدما عانته تلك الدول من حروب وتدخلات للسلطة الدينية في الحياة السياسية.

وفي عالمنا العربي والإسلامي دارت أحاديث ونقاشات معرفية وسياسية واسعة حول مفهوم العلمنة بعدما انتقل للفكر العربي والإسلامي، بشكل ملحوظ وغير مسبوق، منذ ثمانينيات القرن العشرين، وباتت تسلط عليها الأضواء في الفكر العربي، لينقسم الناس حوله (وخصوصاً النخب)، ما بين مؤيد ومعارض..

إن العلمانية كفكرة ومرجعية رضيت بها دول الغرب وحظيت باهتمام مجتمعاتهم، وباتت عقيدة سياسية عملية لهم، قيماً وسلوكيات عملية سياسية واجتماعية، ليس لنا معها نقاش سياسي عملي يخصهم في اختيار مرجعيتهم الخاصة بهم، إلا عند تحولها لعقيدة سياسية صدامية ضد الآخر، العربي الإسلامي بالذات.. ومحاولات طمس هويته الدينية التاريخية عبر سياسات الفرض والإملاء التي مارسها ويمارسها كثير من عبدة هذا الغرب في فضائنا السياسي العربي والإسلامي، في سعيهم الدائم لنقل كل ما في الغرب من أشكال القيم والسلوكيات اللا دينية، وفرضها على مجتمعات هذه الأمة.

إنَّ المشكلة بخصوص العلمانية العربية وأفكارها وقيمها ومختلف مذاهب أصحابها - وكل ما يرتبط به من اتجاهات ويخرج عن قادتها من آراء وطروحات - أن بعض أتباعها ومروجيها، يستهدفون فعلياً استئصال الدين من واقع الحياة الاجتماعية والسياسية، وفي الحد الأدنى قيامهم بتأسيس رؤى وأفكار دينية لا علاقة لها بالدين نفسه.. خصوصاً وأن الإسلام دين اجتماعي لا ينفصل في قيمه وأفكاره، عن واقع الحياة الاجتماعية الخاصة والعامة للفرد المسلم، بل يطالبه (ويأمره) بتمثل وتطبيق قيم الإسلام وأحكامه وتشريعاته في كل تفاصيل حياته الخاصة والعامة.. فكيفَ يمكن والحال هذه، التوفيق بين الأمر (والشرع) الديني الإسلامي (الإلهي)، وبين واقع الحياة العلماني الذي يرفض أن يكون للدين أي دور في حياة الناس والمجتمع ككل؟!!.. هنا يقع أصل الصدام الفكري والعملي بين فكرة العلمانية والدين الإسلامي..!!.

وهذه إشكالية كبيرة وخطيرة تدلنا على مدى هذا الانقسام الحاصل في بلداننا بخصوص فكرة العلمانية بين نخب وتيارات سياسية وثقافية حالمة بتطبيق العلمانية (كما هي في بيئة غير مؤاتية لها)، وبين مجتمعات (رافضة لمعناها ومبناها) وتعتقد أن أول ما تستهدفه هذه الفكرة هو عقيدتها الدينية وتراثها الإسلامي وأنسجتها التاريخية.. مع عدم تفريق تلك النخب بين معنى الدين وآليات تطبيقه العملية في الغرب الكنسي، وبين معناه وآلية تطبيقه العملية في مجتمعاتنا العربية الإسلامية.. ووقوعها في شراك سحب تجربة الغرب مع الدين إلى مجتمعاتنا.. حيث أن مفهوم (العلمانية) - نسبة إلى العِلم أو إلى العَالَم (الدنيوي أو المذهبي الدنيوي) - تم طرحه هناك في الغرب، في سياق السّجالات والمواجهات التي دارت بين الكنيسة ورجالاتها من جهة وبين القوى الزمنية والعلمية من جهة أخرى، نتيجة ادعاء (رجالات الكنيسة وعموم مفردات الأكليروس الديني الكنسي) لسلطة الحق الإلهي المقدس.. من هنا جاءت حركة العلمنة – كخلاصة لجهود الرفض والمواجهة مع الكنيسة القروسطية - لتفصل بين الدين المسيحي والدولة.. في حين أن الإسلام كدين ليس سلطة روحية ولا بشرية.. ولم يحدث أن قامت ضده ثورات وانتفاضات أو حركات معارضة فكرية وسياسية.

وللأسف بقيت تلك النخب متمترسة عند حدودها الفكرية ومقولاتها الذاتية العقائدية الأولى المعادية لدين مجتمعاتها، متبنيةً قوالب فكرية قديمة مغلقة في فهمها وتوصيفها ووعيها لتلك المتغيرات التي أصابت عالمنا العربي في صميمه، وبدأت تستعيد الشعوب من خلالها حيويتها وقوتها ودورها ومكانتها على صعيد الفعل السياسي والمشاركة في صنع المصائر والمآلات الوجودية.

والمشكلة أن كثيرين من هؤلاء الكتبة - لا المفكرين - سبقتهم التحولات بأشواط عديدة، وبقوا قاعدين خلف حواجز أوهامهم العقدية، ومنغلقين في كهوفهم الفكرية، مستخدمين لغة عالمة متعالمة تدعي القبض على الجوهر وامتلاك الحقيقة لوحدها، ومتخشبين حول مجموعة صنميات ورؤى نظرية قديمة ثابتة يسقطونها دوماً على أية أحداث ومتغيرات سياسية ومجتمعية لاحقة، مع أنهم كانوا يتهمون غيرهم على الدوام بالثبات والانغلاق على الذات لغةً ومفاهيم وتحليلات.. أي أنهم باتوا يقعون ويغرقون باستمرار في نفس المستنقعات والمطبّات الفكرية والمعرفية التي يتّهمون خصومهم بالغرق فيها، بعيداً عن الرؤى النقدية العقلانية المتحركة المعروفة.. فمن ليس معي فهو ضدي، ومن هو ضدي فقد بات عدواً لي، تصح في حقه كل مقولات التخوين وأقذع ألفاظ ومصطلحات التآمر ومصطلحات التزمت العقائدي التاريخي.. وكأننا أصبحنا أمام محاكم تفتيش علمانية جديدة.

وهكذا، لم يتقبّل المسلمون – ولن يتقبلوا - مصطلح العلمنة لا على المستوى الفكري ولا على المستوى العملي على الرغم من تطبيقاته في كثير من بلدانهم التي فرض حكامها ونخبتها "العسكرتارية" أيديولوجيات تغريبية لم تلقَ الاستجابة المطلوبة للنهوض والتقدم المجتمعي الحقيقي من قبل الفاعل الاجتماعي العربي والإسلامي، فكان أن بقيت تلك التطبيقات مجرد دعوات ومشاريع حداثة وتحديث قشرية نخبوية مكلفة وعقيمة.. على الرغم من مرور زمن سياسي طويل على فرْضها في بعض مجتمعاتهم التي حكمتها أيديولوجيات مختلفة، ونقول "فرْضها" بسبب خصومتها النفسية والعملية معهم.. حيث أنهم ربطوا - في إرثهم الفكري التاريخي ووعيهم العملي - بينها (بين العلمنة) وبين أفكار وسلوكيات أخرى اعتبروها مناقضة ومحاربة ومضادة للدين ولقيم الدين ذاته.. أي أن العلمنة في الوعي الشعبي ما زالت فكرة غير مقبولة وغير مرحب بها، لا تحظى برضى الناس واحتضان بيئتهم المجتمعية العامة.. الأمر الذي دفعهم لرفض الانفتاح على مقتضياتها ومبنياتها ونتائجها الحداثية العملية الأخرى كونها جاءت لتصدم وتناقض وعيهم الديني ونسيجهم التاريخي الديني.

وطالما أنها (أي العلمانية) تصدم الوعي الجماهيري المتدين بمقولاتها المعادية للدين والتراث الدين، فلن تجد لذاتها أي موطأ قدم في بيئة العرب والمسلمين.

نعم، نحن ندرك أن الحاضر العربي لن ينصلح من دون إصلاح الماضي المسيطر علينا حالياً وربما مستقبلاً، خصوصاً بعد هذا الصعود السياسي للتيارات الإسلامية التي تريد الجماهير العربية إعادتها للساحة بعد فشل تجارب الحكم السابق كما ذكرنا، وبعد خلو الساحة تقريباً إلا من هذه الأحزاب الإسلامية التي تخاطب تاريخ وهوية ومشاعر الناس الدينية المغروسة في عمق وعيهم والتزاماتهم الفكرية، وتلامس قناعاتهم وعقائدهم الإيمانية.

من هنا، لا بدَّ من العودة لهذا التّراث الكبير بحجمه المادي والروحي، وإعادة درسه والتنقيب فيه وقراءاته في ضوء تجاربنا وتطوراتنا الراهنة عربياً وكونياً. وهذه العودة لا تعني أنْ ننساقَ وراء القديم وهي لا تعني مطلقاً أن نستعيد التاريخ المنقضي تكرارياً واجترارياً كما نقول دائماً، وإنما هي عودة نقدية لواؤها العقل والتفكير الحر "ما حَكَمَ بهِ العَقل، حَكَم به الشَّرع"، ومصباحها الواقع والتطورات الكبيرة الهائلة في الزمان والمكان.. أي أنها عودة عقلانية صرفة تعني رؤية التراث الماضي، في ما هو، وفي جميع أحواله، لكي نعرف كيف ننفصل لنغادر ونفارق، وكيف نتصل لنتفاعل ونتعاون.. خصوصاً مع ملاحظة أنه لا مجال للحديث عن قداسة الظواهر الطبيعية والاجتماعية، لأن الإسلام والمؤسسات الدينية الإسلامية لا تهيمن على المجال العام، ولا تعادي العلم والعلماء.. على عكس الغرب الحديث الذي ركّز -في فكره وسلوكه- على الربط المحكم بين العلمانية والنهضة العلمية والعقلية.. أي اشترط إبعاد الدين (المسيحية بالتحديد) عن الساحة لتحقق النهضة والتطور المجتمعي، واعتبره شرطاً وجودياً لعملية التحقق النهضوي.

إخترنا لكم من العدد

إعرف عدوك

نهاية عهد الاضطرابات: الانفراج الإقليمي وانعكاساته

نهاية عهد الاضطرابات: الانفراج الإقليمي وانعكاساته ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ترجمة وإعداد: حسن سليمان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ برزت في الآونة الأخيرة أولوية واضحة لدول أساسية في المنطقة ...

إقليميات

"إسرائيل" أعجز وأضعف من أن تدخل في حرب طويلة ومفتوحة

"إسرائيل" أعجز وأضعف من أن تدخل في حرب طويلة ومفتوحة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ زينب عدنان زراقط ــــــــــــــــــــــــــــــ ما حصل في غزة الأسبوع الماضي من عملية عسكرية ...

دوليات

عمران خان يتحدى المؤسسة العسكرية الصراع في باكستان يتعمق ويتمدد

عمران خان يتحدى المؤسسة العسكرية الصراع في باكستان يتعمق ويتمدد ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ابتسام الشامي ــــــــــــــــــــــــــــ رفعت التطورات الجارية في باكستان منسوب الخطر الأمني في البلد المترامي ...

محليات

بعد فشل حوارها مع التيار الوطني القوات تبحث عن مرشح لمواجهة فرنجية والثنائي ثابت على دعمه

أوساط سياسية للبلاد: بعد فشل حوارها مع التيار الوطني القوات تبحث عن مرشح لمواجهة فرنجية والثنائي ثابت على دعمه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ محمد الضيقة ــــــــــــــــــــــ بات الملف الرئاسي ...