هامش ثقافي

تاريخنا

ــــــــــــــ

غسان عبد الله

ـــــــــــــــــــــــ

إن التَّاريخ بالنّسبة لمنطقتنا، والشَّرق المسلم بوجه عام؛ يُعاش بتفاصيله الدِّقيقة، وعلى وجه الخصوص المرتبط منه بالدِّين والمذهب. فما يوجد بين المسلمين مِن نزاع وفتن طائفية يعود إلى الألف عام ويزيد، تفاصيل لم يتذكرها النَّاس فقط بل يتفاعلون معها، حتى حلت محل الحاضر، ويكاد يكون الحاضر نسخة مشوهة مِن الماضي.

وسبب هذا التشوه هو ما يُضاف على الحوادث، فالأمر شبيه بسيناريو فيلم، لا تُعرض القصة التَّاريخية كما هي، بل تحتاج إلى زيادات للتشويق، وهذا ما يجعل الأعمال الدرامية المتعلقة بالتَّاريخ خطرة للغاية، فالنَّاس تتفاعل معها كحقيقة وليست تمثيلاً.

فماذا نقصد بإعادة كتابة التَّاريخ؟! هل تجري غربلة أو تنقية التّواريخ المكتوبة؟! وهذا مستحيل إذا علمنا أن هذا التَّاريخ المكتوب أصبح حاضراً، يعتمد عليه رؤساء المذاهب في وجودهم، ويستخدمونه وسيلة دعاية لجذب الأتباع، مثله مثل دعايات البضائع، فالتَّاريخ كُتِب وتحوّل إلى عقائد شتى، وكل أصحاب عقيدة يحافظون عليها عبر الحفاظ على ما كتبه الأولون. بطبيعة الحال، تجد كُتب هذا التَّاريخ ملأى بالمختلقات، التي تحولت إلى حقائق، ومهما كانت المحاولات لتصحيح ما كُتب لا يُكتب لها النَّجاح، بهذه السُّهولة.

بلا شك، أن التَّاريخ لدينا، هو الحاضر والمستقبل المنظور أيضاً، وهل تجد مسائل الفقه عند المسلمين اليوم غير التي محملة بالإرث التَّاريخي، بمعنى حصل تداخل بين العقيدة الدينية والتاريخ، صار التاريخ مادة (صالحة لكلّ زمان ومكان)، وهو الدِّين نفسه، حسب منطق الماضويين، إذا صحت العبارة. فِمن الصعب إذا لم يكن الاستحالة أن تُعاد كتابة التَّاريخ؛ لأنه تحول إلى حياة وسلوك يشغل الحاضر، في فقهنا وسياستنا ومعاملاتنا، بمعنى ستؤخذ هذه الإعادة على أنها تمس الدين نفسه، وربَّما انتهت وظيفة الفقيه، بسبب تصحيح ما استمده مِن التَّاريخ في بناء فقهه.

لذا نقول إن التاريخ الإسلامي تاريخاً شفاهياً، حُمل في الصدور بين الأجيال، حتى جاء عصر التدوين، وتأسيس المكتبات والاحتفاظ بالكتب، ووجود أسواق الوراقة، والمنافسة بين الوجهاء بعدد الكُتب والنفائس منها، أي لا وجود لآثار يُرجع إليها، أو كُتب على صخر أو طين، وهذه الآثار الحجرية أو الطينية، هي أهم وسيلة لإعادة كتابة التَّاريخ، لكن هل تكفي شواهد القبور مثلاً، التي وجدت في المقابر القديمة، أو السطور التي نُقشت على الحيطان، في هذا العهد أو ذاك، لإعادة كتابة التَّاريخ؟!

على ما يبدو، ينتظر دعاة إعادة كتابة التاريخ مكتبات حجرية، سُجل عليها تاريخ الإسلام، وهذا يستحيل بحد ذاته، والسبب أنه عندما ظهر الإسلام كانت الكتابة على الحجر قد انتهت، وحل محلها التدوين على الورق. مع علمنا أن الرواية الشفاهية عند العربي أو البدوي القديم تعادل في تأكيدها ما نُقش على الحجر، فقد عاش ذلك البدوي في زمن لا وجود فيه للتدوين مِن الأساس، لذا كانت ذاكرة ذلك الإنسان شديدة القوة، ولا يُستبعد أنه إذا سمع القصيدة مرة واحدة حفظها، وقام بدور راويتها، وما حصل لحفظ الشعر حصل في حفظ الحوادث. ليس كل ما ورد في كتب التَّاريخ تأليف من الخاطر، بل منقولات، قد يُزاد عليها ويُنقص منها، لكن الحدث الأساسي كان موجوداً.

لذا نرى فكرة إعادة كتابة التَّاريخ، ونقصد تاريخ الإسلام، مستحيلة مِن دون اكتشافات جديدة، كنقوش حجرية أو مؤلفات معاصرة لبدايات ذلك التَّاريخ، لم تُكتشف بعد، وإلا أن تكون إعادة كتابة التَّاريخ عملية عقلية، لحذف غير المعقول بالنسبة لنَّا، والبقاء على المعقول، فهذا لا يُسمى إعادة كتابة بقدر ما يُسمّى نقداً وتمحيصاً، وهنا سيظهر الاختلاف، تقول ويقولون!.