التّعايشُ الإنساني في الحَضارةِ العربيّة الإٍسلاميّة
نبيل علي صالح

التّعايشُ الإنساني في الحَضارةِ العربيّة الإٍسلاميّة
نبيل علي صالح
كاتب وباحث سوري
جاء الإسلامُ إلى جزيرة العرب، ومن ثمّ امتدّ وانتشر وتوسع جغرافياً وبشرياً وحضارياً، ليضمّ تحت جناحيه كثيراً من الأمم والشعوب والمجتمعات والقوميات والحضارات والتكوينات المتعددة والمختلفة في هوياتها واتجاهاتها وقيمها ومعتقداتها..
ولكنه (على الرغم من هويته الدينية العقدية الحضارية التي قدمها كرسالة إنسانية للعالم أجمع) لم يُلزم أتباعه (ومن اندرج في مفاهيمه وثقافته ومبتنياته)، على ترك هوياتهم وعاداتهم الاجتماعية والثقافية الأولى التي نشأوا عليها وتربّوا في ظلها، بل وجدت كل أمة وكل حضارة (آمن أصحابها برسالة الإسلام إنسانياً أو دينياً) مكانها ومكانتها وموقعيتها في فضاء الحضارة الإسلامية دونما تقزيم لشأنها أو قسر وضغط على مفرداتها الثقافية والتاريخية.. وهذا ما دفع تلك الأمم والمجتمعات (من خلال هوياتها وثقافاتها وتفاعلاتها الروحية والمادية) للإسهام النوعي والحضور الفاعل في بناء وتأسيس الحضارة العربية الإسلامية نفسها، حيث يمكننا أن نجد في تاريخ حضارتنا العربية الإسلامية الكثير الكثير من العلماء والمفكرين والمتفلسفين وغيرهم ممن انتموا حضارياً إلى الإسلام ولكنهم حافظوا على انتمائهم القومي أو الجهوي أو الاجتماعي والثقافي دونما قيود أو ضغط.. وإنْ دلَّ هذا التشارك الحضاري المنفتح على شيء، فإنما يدل بالعنوان الأولي على أن الإسلام أسّس وأصّل في بنيته المعرفية الذاتية لمفهوم التعايش والتسامح الفكري والعملي، إدراكاً منه لحقيقة إلهية كونية ذات تمثلات وتجليات أرضية بشرية، وهي حقيقة أن الاختلاف والتعدد سمة جوهرية في الحياة والوجود، وأن التماثل والتطابق يعطي معنى الموات الحياتي.. يقول تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ..﴾ (سورة هود/118).. وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس/99).
نعم، لقد وجدت وعاشت في دنيا الإسلام والمسلمين حضارات وأديان ومذاهب وتنوعات قبلية وقومية ومجتمعية كثيرة، لم يقترب منها أحد بِشرّ، ولم يضغط عليها أحد بقسر، بل تأسست مفاهيم دينية وأحكام شرعية إسلامية ملزمة تدعو المسلمين أنفسهم للتعايش الإيجابي المنتج مع كل المختلفين طالما أنهم ملتزمون بقانون الدولة التعايشي، وتحض على معاملتهم بالحسنى والقيم الإنسانية المشتركة المعروفة بين الناس والقائمة على العدل والتسامح والمعاملة الحسنى والحوار الإنساني بلا عنف ولا قوة، بل وتعاقب كل من يتعمّد الإساءة إليهم في فكرهم وهوياتهم وعلاقتهم وانتماءاتهم وثقافاتهم.. بمعنى أن الإسلام كدين ورسالة ولاهوت مقدس لم يعرف في بنيته المفاهيمية الدينية أي معنى أو أي تصور يقوم على نفي الآخر المختلف أو إقصائه ورفض وجوده.. وهذا ما لاحظه المفكر العربي المسيحي جورج طرابيشي في قوله: "إنَّ الحضارة العربية الإسلامية لم تعرف لاهوتَ نفْي الآخر"[1].. أي لم تتأسس أفكار دينية إسلامية نافية لعقيدة الآخر.. كما عبّر الكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف (وهو من جذور مسيحية أيضاً) عن هذا التعايش التاريخي فكتب: "لو كانَ أجدادي مسلمين في بلدٍ فتحته الجيوشُ المسيحية، بدلاً من كونهم مسيحيين في بلدٍ فتحته الجيوشُ المسلمة، لا أظنُّ أنهم كانوا استطاعوا الاستمرار في العيش لمدة أربعة عشر قرناً في مدنهم وقراهم محتفظين بعقيدتهم.. ماذا حدث فعلياً لمسلمي إسبانيا وصقلية؟! لقد اختفوا عن آخرهم، ذبحوا أو هجروا أو تم تعميدهم بالقوة. يوجد في تاريخ الإسلام – ومنذ بداياته - قدرة مميزة على التعايش مع الآخر"[2]..
وهذا كله يعني، أنه لو يكن الإسلامُ قد بنى وركّز في عمق تصوراته المعرفية وأوامره الاعتقادية الدينية لمفهوم التعايش السلمي الحضاري واحترام الآخر المختلف والمغاير، (واعتبار هذا الفكر التعايشي من الأساسيات والإلزامات الفكرية والاعتقادية)، لما عاشت كل تلك الحضارات والأديان والتنوعات الاجتماعية الهائلة في عالم الإسلام وحضاراته الإنسانية التي امتدت لتشمل حتى يومنا هذا أكثر من مليار ونصف المليار إنسان ممن ينتمون لقوميات وهويات اجتماعية بشرية كثيرة.. حيث ظلوا يعيشون ويتفاعلون ويتعاونون مع اختلافهم في الهويات والثقافات والتقاليد.. ومفهوم التَّعايُش يعني العيش المشترك المبني على التفاعل الخلاق المبدع، والتعاون والتكامل والتشارك..
وبالعودة لمصادر التراث الإسلامي التي تحدثت عن مفاهيم التعايش والتشارك الإنساني، فإننا نجد أن هناك آيات كثيرة تحدّثت عن ثقافة التعايش ومفهوم التسامح مع الآخر المختلف.. مع أن لفظ أو كلمة "التعايش" أو "العيش المشترك" لم تكن متداولة ولا مستخدمة في العهد الإسلامي الباكر، بالمعنى المراد منها حالياً.. لأن المجتمع آنذاك لم يكن يعاني من مشكلات الهويات المتعددة، وصراعات السياسة والسياسيين والأحزاب والجماعات الدينية والسياسية، حيث كانت اليهودية والمسيحية – على سبيل المثال - تتعايشان مع الإسلام في المكان والمجتمع ذاته وتحت ظل قيمه واعتقاداته.. أي أن الناس وقتها (زمن الإسلام الباكر) لم يكونوا منشغلين بقضايا الاختلاف حتى على صعيد العقائد، إذ أن لكلٍ عقيدته ودينه وتوجهه الفكري والمذهبي، وهو يتحمل مسؤولية قناعاته أمام ربه في الآخرة.. يقول تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾(البقرة/256)، ﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾(الكهف/29) على أنَّنا نجد في القرآن الكريم تشديداً على ضرورة التنوُّع والاختلاف، وأنهما قانون وسُنَّة إلهيَّة لا تتبدَّل باختلاف الزَّمان والـمكان، كما أنَّ الاختلافَ في الـخَلْق سُنَّة كونية بصريح القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾(الروم/22)..
وبطبيعة الحال فقد انتقل الإيمان العقدي بمفهوم العيش والتعايش، إلى ساحة الفقه والتراث الديني الفقهي والكلامي وغيره، حيث تمَّ تخصيص الكثير من الأحكام الدينية لقضايا الاختلاف الفكري والديني والحضاري والاجتماعي العملي.. وتغصّ كتب التراث الإسلامي بالكثير الكثير من الأفكار والإشارات والاجتهادات حول تلك القضية الفكرية والاجتماعية المهمة.
وعلى الرغم من أن تاريخنا العربي والإسلامي لم يشهد الكثير من التناقضات المجتمعية حول قضايا الهوية والاختلاف والتعدُّد الثقافي والمجتمعي، فإنّ العرب منذ عدّة قرون وبالأخص منذ بدايات القرن العشرين، وبعد تدخلات الدول الاستعمارية، ما فتئوا يعانون أشد المعاناة من وطأة الانقسامات الأفقية والعمودية في واقعهم السياسي والحضاري، ورفض بعضهم بعضاً، ودخولهم في حروب وصراعات مكلفة مادية ومعنوية مع أنفسهم ومع غيرهم.
إن تغذية روح الانقسام الديني والحضاري، في بلادنا العربية والإٍسلامية، وتفجير معاني التعايش ليس فقط بين المختلفين، بل بين المؤتلفين أنفسهم من مذاهب الدين ذاته، كان عملاً استعمارياً بامتياز، ساعدت عليه الانهيارات المجتمعية التي شهدتها تلك البلدان نتيجة استبداد نخبها وحكامها وهيمنة عقلية الأنا والاستفراد بالحكم والثروة عليهم.. ورفضهم لتحرر مجتمعاتهم وناسهم وعدم إعطائهم حقوقهم.
وهذه النخب كونها وشكلها وسلمها الاستعمارُ الغربي مقاليدَ الحكم، وأنشأ لها دولاً كانت بمثابة هدايا (خناجر) مسمومة من قبله لعموم مجتمعاتنا وبلداننا.. حيث عمل بدأبٍ كبير كي يترك السيطرة في منطقتنا في أيدي نخبٍ فاسدة وعميلة مرتبطة به، وتعمل من أجل مصالحه بعد رحيله إلى أيامنا هذه..!!.
ولا شك أن مجتمعاتنا وشعوبنا العربية والإسلامية تواقة لإصلاح حالها، ولإعادة العمل بهويتها الحضارية وتواقة أكثر للإصلاح والتغيير بالدرجة التي قد تفرض عليها أن تغض النظر عن مصدر التغيير وآلياته وأساليبه.. ويبدو أن انعدام التغيير الداخلي وفقدان الثقة بالنظم والحكومات القائمة في العالمين العربي والإسلامي (وهي كما قلنا تابعة وخاضعة ومستلبة)، هو الذي يدفع تلك الشعوب للأسف باتجاه قبول التغيير الخارجي حتى لو جاء بيد عمرو (الغرب وأمريكا)، مع ما لهذه القناعة السلبية من سلبيات وتكاليف باهظة..!!.
والواضح أمامنا – في هذا الاتجاه - أن هناك حقيقتين يعايشهما الناس في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، وقد انتقلت تأثيراتهما إلى البلدان الأخرى:
الأولى: الشعور العام المطبق بانعدام آفاق التغيير والإصلاح نتيجة السياسات الفوقية الظالمة التي طبقتها النخب السياسية والاقتصادية العربية والإسلامية الفاسدة عبر العقود الماضية، والتي كانت تحظى – حتى عهد قريب - برضى المصالح والسياسات الدولية المتصلة مع نظيرتها المحلية.
الثانية: تفشي ثقافة العنف والإقصاء (ورفض الآخر المختلف) على نطاقات واسعة، رغم أنَّ التراث الديني رافض لها كما قلنا سابقاً، الأمر الذي أسهم في نمو حركات العنف والتدمير في مناخ الترهل والفساد والاستبداد السياسي والتخلف الاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشه اجتماعنا السياسي والديني.
ويبدو لي أن ضغط هاتين الحقيقتين على مختلف مواقع الفعل والتأثير السياسي والحضاري المعاصر محلياً ودولياً، سيدفع هؤلاء جميعاً للعمل من أجل التعاون المثمر والهادف إلى تحقيق مجتمع تسوده قيم الحرية والحوار والعقل والعدل.. يحترم فيه الإنسان من حيث أنه سيد الوجود والحياة.. مجتمع يتحمل الناس فيه بعضهم البعض، وتسوده وجهات نظر مختلفة.. مجتمع يشعر فيه الإنسان عملياً بأنه سيد نفسه، ولا فرق بينه وبين قيادته إلا بتوزيع الأدوار وتعدد واختلاف المسؤوليات.. مجتمع يتبنى فكرة ومفهوم وثقافة التعايش وقبول الآخر، والانفتاح على فضيلة النقد والمحاسبة الذاتية الحضارية عنواناً لحركته وتطوره.
والمعيار الحقيقي الناظم لحركة النقد هنا هو الحرية، ولكن ليست الحرية المنفلتة من عقال قيم الوطن والمجتمع (والناس المكوّنين له) بقطع النظر عن معايير وضوابط وآليات السياسة التي تحكم وتدير وتنظم مختلف مواقع هذا البلد أو ذاك، وبغض النظر عن مشارب هؤلاء الناس المنتمين للوطن على اختلاف مذاهبهم وتوجهاتهم وانتماءاتهم الفكرية والدينية والأقوامية القائمة على التعايش والتسامح الفكري والعقدي كما قلنا.
فللحرية محددات وانتظامات تتركز أساساً في عدم إثارة دواخل ومشاعر الآخرين، وتقصُّد الإساءة إلى قناعاتهم ومعتقداتهم بقطع النظر عن صحتها وحقانيتها وفاعليتها الحضارية.
ثم إنَّ النقد لا يكون باتباع طرق وأساليب العنف الرمزي الفكري التشهيري والإقصائي المتعمد – في أحايين كثيرة - بحق أية شريحة أو مكون اجتماعي من مكونات اجتماعنا الحضاري الذي يضم بين جناحيه أدياناً ومذاهب وطوائف وتيارات وقوميات واتنيات متعددة تستظل بظل الوحدة الوطنية الطبيعية الطوعية – لا القسرية - التي ينعم مواطنونا فيها بقيم المحبة والتسامح والإخاء والتعاون لما فيه خير البلد ومصلحة الوطن بكل تنوعاته وتعددياته.
وفي النهاية لن يصح إلا الصحيح، فالقسر مهما طال وتلون وتغير وتنمّط، لا يدوم لأنه حالة استثنائية طارئة على ساحة الحياة والوجود الكوني والبشري.