التدخل الأمريكي الاستثنائي في المسائل الداخلية الإسرائيلية: موقف إشكالي، لكنه يستوجب مقاربة موزونة

ترجمة وإعداد: حسن سليمان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في مقابلة مع فريد زكريا على شاشة الـ CNN (9 تموز 2023) تطرق الرئيس جو بايدن – من دون لغة دبلوماسية غير ضرورية – إلى موقف الولايات المتحدة من مسائل تتعلق بالنظام السياسي وإجراءات الحكم في إسرائيل.
فقد وصف الحكومة الحالية بأنها الأكثر تطرفاً، مشيراً إلى أنه كان على اطلاع بما يحدث في إسرائيل منذ أيام غولدا مائير (عندما زار البلاد عندما كان سيناتوراً شاباً...). في نفس الوقت، بوصف أكثر إيجابية، وصف نتنياهو بأنه شخص يحاول التعامل مع اتجاهات معينة في حكومته. وبخصوص مسألة دعوة رئيس الحكومة إلى واشنطن، ذكر بايدن زيارة الرئيس إسحاق هرتسوغ كدليل ضمني على أن الولايات المتحدة لا تزال ملتزمة تجاه إسرائيل، حتى لو كانت متحفظة من تشكيل حكومتها الحالية.
في غضون ذلك، في بيان هيئة الأمن القومي في البيت الأبيض بمناسبة "يوم التشويش" (في 11 تموز) والاحتجاج في إسرائيل، وقفت الولايات المتحدة بشكل واضح إلى جانب حقِّ الاحتجاج ودعت إلى السماح بإجرائها وتجنب استخدام القوة. مرة أخرى، في نفس السياق، فإن الحاجة، التي أشارت إليها الإدارة على وجه التحديد عدة مرات في الأشهر الأخيرة، لتعزيز التغييرات في الجهاز القضائي فقط على أساس إجماع واسع بين الجمهور الإسرائيلي، وهو موقف يعكس أيضاً دعم مساعي التقريب للرئيس هرتسوغ وانتقاد استمرار العملية التشريعية. ليس من المستغرب ظهور أعلام الولايات المتحدة مؤخراً في المظاهرات.
كل هذا، إلى جانب ظهور استياء أمريكي عميق تجاه مواقف المسؤولين الحكوميين من القضية الفلسطينية، سواء على المستوى المبدئي (إنكار إمكانية حل الدولتين) وفيما يتعلق بما يحدث على الأرض: مواصلة البناء في المستوطنات، وما اعتبر فقدان علاج مناسب لأحداث العنف ضد الفلسطينيين. الهجوم على قرية ترمسعيا، التي أغلب سكانها يحملون الجنسية الأمريكية، ترك أثراً قاسياً بشكل خاص وسط المستوى العامل في العقدة الإسرائيلية الفلسطينية. في نفس الوقت منحت الإدارة الأمريكية الدعم لعملية الجيش الإسرائيلي في جنين ولدوافعها.
ما الذي يدفع الإدارة إلى تشديد رسائلها؟
كما ذكرنا المسألة الأساسية التي توجه إدارة بايدن – على الرغم من أنه يحاول الحفاظ على موقف أساسي تقليدي لدعم إسرائيل، في مواجهة ضغوط المتطرفين الراديكاليين للحزب الديمقراطي - هي الطموح التقليدي والثابت بأنه يجب إبقاء فتحة محتملة لحل الدولتين. في مقابلة مع CNN، عاد بايدن وعكس الموقف المبدئي الذي اتخذته إدارة أوباما أيضاً بشأن هذه القضية، والذي يعتبر هذا الحل ضرورياً لمستقبل دولة إسرائيل وحتى لأمنها. وتعتبر التحركات الحكومية الأخيرة، والتأكيد على توسيع البناء في المستوطنة، بمثابة تهديد لهذا الاحتمال، ومخالفة للالتزامات التي قبلتها إسرائيل كجزء من عملية العقبة.
من وجهة نظر الإدارة الأمريكية - وآخرين في واشنطن، بما في ذلك الأصدقاء التقليديون لإسرائيل في الكونغرس - هناك علاقة مباشرة بين هذا العنصر والقضايا الداخلية المتميزة الناشئة عن الصراع على الإصلاح القضائي. كما تمّ التعبير عنه بالفعل خلال "أزمة غالانت"، فإن الأمريكيين يعترفون بوجود صدع داخلي يتخطى الحكومة الحالية، ويعكس أيضاً التوتر بين أجزاء معينة من المستوى السياسي المنتخب والمستوى المهني الرفيع. من وجهة نظرهم، هناك قدر كبير من التوافق بين المواقف التي يتخذها طرفا النزاع -ومن ناحية أخرى، حول القضايا المتعلقة بالفلسطينيين (الموقف من عملية العقبة ؛ الدعم الاقتصادي للسلطة الفلسطينية؛ رد الفعل على أحداث عنف من جانب اليهود في الضفة الغربية، كتعبير واضح عن هذا التوتر، ومن جانب آخر بخصوص الدفع قدماً بالتشريع القضائي، من بين جملة أمور بسبب حساسية المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وجهات كبيرة من المستوى السياسي المتجانسون معها ومع قلقها، تجاه تداعيات تنامي التوترات في الداخل والطريقة التي يؤثر بها الانقسام الداخلي على صورة إسرائيل الرادعة.
من هنا تأتي الرغبة في الإدلاء بتصريحات صريحة وحتى فظّة، كما يجب تفسير كلام الرئيس بهذه الروح لأنه يتوقع أن يتعامل نتنياهو مع الاتجاهات الإشكالية في حكومته - من حيث الانحياز في النقاش الداخلي داخل صفوف الحكومة، كما يتم تصويره في واشنطن (وليس بالضرورة انحيازاً لقادة المعارضة كما ادعى مسؤولون في الحكومة الإسرائيلية) -. هناك سبب لافتراض أنه حتى الآن - كما حدث، من بين أمور أخرى، خلال أيام الانتفاضة في أواخر الثمانينيات - يتأثر موقف الادارة أيضاً بالرسائل القادمة من شخصيات بارزة في يهود أمريكا، الذين ينصت الرئيس بايدن لقلقهم. من وجهة نظرهم، إسرائيل تتواجد في خطر ((على حد تعبير السفير في القدس، توم نيدس، الذي أنهى فترة ولايته) من "الخروج عن السكة".
يشير مقال كاتب العمود المؤثر في صحيفة "نيويورك تايمز" توم فريدمان إلى احتمالات أكثر خطورة، تحت عنوان "إعادة التقييم" (المألوف منذ أيام نزاع 1975 بين إدارة فورد وإدارة رابين الأول): على ما يبدو ليس في المجال الأمني والاستخباري، بل في جوانب أخرى تدين فيهم الولايات المتحدة اليوم إسرائيل، مثل المنتديات الدولية. مع ذلك، يجب توخي الحذر في تقييماته، والتي غالباً ما تستند إلى وجهة نظره الشخصية أكثر من كونها تستند إلى معلومات محددة.
كيف نرد على التدخل الأمريكي؟
بطبيعة الحال، تثير الرسائل الأمريكية المعارضة في إسرائيل، بل وأكثر من ذلك بين أولئك الذين تم تصنيفهم على أنهم الهدف الرئيسي لانتقادات الإدارة الأمريكية القاسية. إن الاستياء من التدخل السافر في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة أمر مشروع في حد ذاته، ومترسخ في قواعد النظام السياسي العالمي منذ صلح فستفاليا عام 1648، وحتى في ميثاق الأمم المتحدة. إلا انهم في إسرائيل بحاجة إلى توخي الحذر الشديد، على وجه التحديد بسبب الدعم الذي ما زالت تتمتع به بين أصدقائها وأنصارها في الجمهور وفي الكونغرس. ليس هذا هو الوقت المناسب للاشتباك مع الإدارة الأمريكية وإبداء تعليقات غاضبة وحتى متعالية تجاه رؤسائها، من النوع الذي يصدر من حين لآخر من أفواه كبار المسؤولين في الحكومة الاسرائيلية. على جدول الأعمال اليوم مقابل واشنطن هناك قضايا استراتيجية، أولاها طريقة التعامل مع إيران، عندما يبدو أن فرص التسوية بينها وبين الغرب تتضاءل. من المهم التركيز على هذه الأسئلة وعدم الانغماس في المشاحنات، خصوصاً عندما تكون الحملة الانتخابية في الولايات المتحدة قد بدأت بالفعل، ويجب على إسرائيل تجنب تحديد هوية حزبية واضحة.
كما يستنتج من إجراءات العقوبات الأخيرة التي اتخذتها بريطانيا وأحداث الاحتكاك في الخليج العربي ومنافذها بين الأسطول الخامس الأمريكي والحرس الثوري الإيراني، فإن التوتر بين واشنطن وطهران يتصاعد مرة أخرى. إن إبعاد روب مالي عن منصبه كرئيس للفريق المفاوض - سواء كان بسبب أو نتيجة الصعوبات التي نشأت في طريق إلى الاتفاق على "أقل مقابل أقل" بشأن القضية النووية - يخلق بالفعل فرصة سانحة لإسرائيل أن تشدد الحوار والتفاهمات مع الولايات المتحدة. يجب ألا تضيع هذه الفرصة بسبب شجار صاخب لا يفيدها (لإسرائيل). وكما أوضح رئيس الحكومة في خطابه في 3 تموز، فإن الولايات المتحدة بالنسبة لإسرائيل، وحتى اليوم، حليف "مستحيل بدونها وليس لها بديل" - Indispensable and irreplaceable.
ماذا يمكن أن نفعل؟
بكل ما يتعلق بالتعاون العسكري والاستخباري، المصلحة المشتركة (ما زالت!) تستوجب تعميق وتوسيع أهدافهما، مع التركيز على التحدي الإيراني وعواقبه. إن قنوات الاتصال المنتظمة والمناسبة بين المؤسسات الأمنية واجهزة الاستخبارات لها وستظل لها وزن حاسم في استقرار العلاقة.
على الصعيد السياسي، فإن العودة إلى مخطط العقبة أمر مهم، مع التركيز على معايير "إدارة الصراع" والتوضيح المطلوب للإدارة بأن "تسوية النزاع" في اتفاق دائم ليست على أجندة القيادة الحالية. من الناحية العملية، يدرك بايدن ذلك جيداً؛ وتحدث في المقابلة عن "فقدان مصداقية السلطة الفلسطينية"، وأشار إلى أن متاعبها لا تنجم فقط عن أفعال إسرائيل ولكن أيضاً وبصورة رئيسية عن ضعفها، أي سوء الإدارة والفساد. لذلك يجب على إسرائيل العمل مع الولايات المتحدة لتعزيز المساعدة، ولكن في نفس الوقت تضع مطالب مشتركة من السلطة الفلسطينية. سيساعد ذلك في إدارة الصراع و "الحد منه" وفي تحسين الحوكمة والقدرة على الاستجابة للاحتياجات اليومية.
في القضية المشحونة (أيضاً في نظر الكثيرين من اليهود الأمريكيين) لأحداث العنف ضد الفلسطينيين في السلطة الفلسطينية، وتحديداً كما ذكر في ترمسعيا، خطورة الموضوع من وجهة نظر أمريكية، والتوقعات في واشنطن هي كشف ومعاقبة من شارك فيها.
في مجموعة معقدة من الاعتبارات القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تحدد التوازن المطلوب في الصراع الداخلي - في مكان ما بين التعجيل بالتشريع ووقفه نهائياً - يجب إعطاء مساحة، على الرغم من الاستياء، لتداعيات الموقف الأمريكي وتوقعه أن يتم إحراز تقدم مستمر بالتوافق.
في غضون ذلك، في الظروف التي تشكت من المهم أكثر من أي وقت تعميق العلاقة الجارية، على المستوى السياسي الأعلى، مع جهات أساسية في يهود الولايات المتحدة، عبر أوسع نطاق ممكن (بطبيعة الحال، يوجد حالياً في صفوفها من يفضل تجنب هذا النوع من الحوار) من خلال تجنب تأثير "لوحة الصوت" للاستماع إلى أولئك الذين تكون آراؤهم قريبة بالفعل من آراء الحكومة الحالية.
معهد القدس للاستراتيجية والامن – العقيد المتقاعد الدكتور عيران ليرمان (نائب رئيس معهد القدس للاستراتيجية والامن)