روسيا تنسحب من اتفاقية تصدير الحبوب: الغرب أخل بالتزاماته
ابتسام الشامي

روسيا تنسحب من اتفاقية تصدير الحبوب: الغرب أخل بالتزاماته
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابتسام الشامي
ــــــــــــــــــــــــــــ
بإعلانها الانسحاب من اتفاقية الحبوب عبر البحر الأسود، تكون روسيا قد فعّلت واحدة من أدوات الضغط القوية ضد الدول الغربية على خلفية تجاهل ما التزمت به حيالها ضمن الاتفاقية، وهي إذ أرفقت انسحابها بإنذار السفن المتجهة نحو الموانئ الأوكرانية، بالتعامل معها، على أنها تنقل شحنات عسكرية، سارعت إلى التصدي للاتهامات الغربية بتهديد الأمن الغذائي للدول الفقيرة، في ما بدا أنه معركة جديدة تفتح على هامش الصراع الكبير.
ما هو اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية؟
في ما ترتفع سخونة ميدان الصراع الروسي الأطلسي فوق الأراضي الأوكرانية، شهدت جبهة الأمن الغذائي العالمي تطوراً أثار قلقاً دولياً، بعد إصابته بشظايا الصراع المتعاظم. فقد أعلنت روسيا رسمياً انسحابها من اتفاقية الحبوب التي حافظت على انتظام تدفق القمح من أوكرانيا إلى تركيا ومنها إلى دول العالم، الأمر الذي احتوى عملياً انفجاراً كان متوقعاً في أسعار الغذاء الأول للبشرية وخفّض منسوب القلق بشأن استمرار وصوله إلى الأسواق العالمية.
ومنذ انطلاق العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا في الرابع والعشرين من شباط عام 2022، تشعبت مستويات القلق عالمياً حيال القمح من زراعته إلى جودته وصولاً إلى استمرار تدفقه وارتفاع أسعاره، ولاحت في الأفق مخاوف جدية من مجاعة مقبلة قد تصيب العالم، وتترك أثارها الكارثية على الدول الفقيرة، والسبب أن أوكرانيا وروسيا تتصدران قائمة الدول المنتجة للقمح والحبوب، ومن شأن الحرب المندلعة أن تؤثر في الانتاج الزراعي وإمداداته.
ودرءاً لهذه المخاوف التي رفعت بشكل تلقائي أسعار القمح عالمياً، أعلن في الثاني والعشرين من تموز من العام الماضي، عن اتفاق ثلاثي بين روسيا وأوكرانيا وتركيا، عرف باسم اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية، أو مبادرة البحر الأسود. وهدف الاتفاق الذي رعته الأمم المتحدة، إلى عودة حجم صادرات الحبوب الأوكرانية إلى مستوى ما قبل بداية العملية العسكرية الروسية، أي تصدير 5 ملايين طن متري شهرياً، من القمح المنتج في أوكرانيا، علماً أن اندلاع الصراع في شباط من العام الماضي سرعان ما ترك تأثيراته المباشرة على تدفّق القمح، فقد تسبّب إغلاق الموانئ الأوكرانية، في ترك 20 مليون طن من الحبوب عالقة في الصوامع، ما أدى إلى ارتفاع أسعارها عالمياً.
شروط الاتفاق وبنوده
الاتفاق الذي أدى إلى تهدئة المخاوف العالمية حيال المادة الأساسية في غذاء البشرية، نص على مجموعة بنود لضمان سلامة تطبيقه، وفي مقدمها تفتيش السفن المشاركة في تصدير الحبوب الأوكرانية عند الدخول والخروج من البحر الأسود للتأكد من عدم حمل أسلحة على متنها. وكذلك حدد الاتفاق ثلاثة موانئ بحرية للتصدير هي أوديسا، ووچورنوموركس، ويوزهنو. وفي حين ضمن الاتفاق مروراً آمناً من وإلى الموانئ الأوكرانية المنصوص عليها في بنود الاتفاق وصولاً إلى مضيق البوسفور التركي، فإنه نص على إنشاء مركز قيادة مشترك للإشراف على عمليات الملاحة البحرية الخاصة بالسفن التي تحمل صادرات الحبوب من أوكرانيا خلال مرورها داخل البحر الأسود. وإلى وظيفة التنسيق المشار إليها، يهدف المركز المشترك أيضاً إلى حلِّ الخلافات الوارد حدوثها أثناء عمليات الملاحة البحرية بما يضمن عدم حمل سفن الشحن لأفراد محظورين أو أسلحة.
روسيا تعلق مشاركتها في الاتفاق
وعلى الرغم من المدة الزمنية القصيرة له، والمحدّدة عند لحظة التوصّل إليه بمئة وعشرين يوماً قابلة للتجديد، كان واضحاً أن اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية يواجه تحديات جدية من شأنها أن تؤثر في فرص استمراره أو تجديده، وهو ما عبّرت عنه روسيا على شكل اعتراض صارخ بتعليق العمل به في التاسع والعشرين من تشرين الأول الماضي، وذلك على خلفية اتهامها أوكرانيا بتفجير جسر القرم. ووفق ما توصلت إليه التحقيقات الروسية، فإن "المتفجرات كانت محمولة في إحدى شاحنات الحبوب الأوكرانية".
وإلى هذا السبب، أوردت موسكو سبباً عسكرياً آخر لقرارها تعليق العمل بالاتفاق، وهو استهداف سفنها بطائرات من دون طيار في ميناء سيفاستوبول، والتي كانت ضمن الأسطول المشارك في اتفاق نقل الحبوب. وقد توصلت التحقيقات الروسية آنذاك إلى أن تلك الطائرات المسيرة خرجت من أوديسا باتجاه القرم.
على أن تعليق المشاركة الروسية في الاتفاق لم تدم سوى أيام معدودات، قبل أن تتراجع موسكو عن قراراها في الثاني من الشهر التالي، استجابة لمباحثات أجرتها مع أنقرة، تضمّنت التوصل إلى رزمة جديدة من الضمانات بعدم التعرّض للأسطول الروسي أو المساس به، وقد أرسلت كييف تعهداً كتابياً للحكومة الروسية بعدم استخدام الممر الآمن في العمليات العسكرية.
وإلى استحقاق ضمان عدم الالتفاف على بنوده، واجه اتفاق تصدير الحبوب استحقاق تمديده أو التجديد له. وعلى هذا الصعيد سُجِّل حراك مكثف أممي تركي، استدعى زيارة الأمين العام للأمم المتحدة إلى أوكرانيا، في ما كانت تركيا تتوسط لدى روسيا لإقناعها بتمديد العمل بالاتفاق، وهو ما برزت نتائجه الإيجابية في الثالث عشر من آذار من 2023، بإعلان الخارجية الروسية موافقتها على تمديد الاتفاق، على أن ينتهي العمل بالاتفاق في شهر أيار من العام الجاري، بانتظار التوصل إلى اتفاقية تمديد جديدة تضمن التزام الأطراف المعنية بالشروط المتفق عليها.
انسحاب روسيا
ومع موافقتها على التمديد الأخير حذّرت روسيا من الانسحاب من الاتفاقية بحلول السابع عشر من تموز الجاري ما لم يجر الالتزام بالشروط المشار إليها. وفي التوقيت المحدد أعلنت بالفعل انسحابها احتجاجاً على عدم إيفاء الدول الغربية بوعودها ضمن اتفاق منفصل جرى التوصل إليه على هامش اتفاقية الحبوب، وينص على تسهيل شحنات المواد الغذائية والأسمدة الروسية، الذي لاقى تجاهلاً ونكراناً غربيَّيْن، تماماً كما جرى تجاهل المطالب الأخرى لروسيا في سياق الاتفاقية، وهي إعادة ربط البنك الزراعي الروسي بنظام سويفت المالي العالمي الذي عوقبت روسيا بالطرد منه على خلفية عمليتها العسكرية في أوكرانيا، إضافة إلى توريد قطع غيار لازمة للزراعة الروسية، وإلغاء حظر لوجستيات النقل والتأمين، وإعادة إحياء خط أنابيب الأمونيا المعروف باسم "تولياتي - أوديسا"، فضلاً عن إلغاء تجميد أصول الشركات الروسية.
وعلى خلفية عدم تلبية تلك الشروط، في وقت كانت تواصل فيه أوكرانيا تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، ذهبت روسيا إلى خطوتها التصعيدية المتمثلة بالانسحاب من الاتفاقية الأمر الذي من المتوقع أن تكون له تداعيات مباشرة على أوكرانيا والعالم. وفي هذا السياق تقدّر بعض التوقعات خسارة كييف نحو 500 مليون دولار شهرياً، مع الإشارة إلى أن الاتفاق كان قد ضمن للأخيرة استمرارها بتصدير الحبوب وفق تدفقات ما قبل الحرب. علماً أن أوكرانيا تنتج مواد غذائية قادرة على تغذية 400 مليون شخص، وتعتبر من أكبر دول العالم تصديراً للقمح وكذلك زيت عباد الشمس. وحتى انطلاق العملية العسكرية الروسية، كانت أوكرانيا تصدّر ما مجموعه 5 ملايين طن من الحبوب والبذور الزيتية خلال الشهر الواحد عبر البحر الأسود.
وفي سياق متصل بانسحاب روسيا من الاتفاقية، اشتعلت جبهة جديدة بينها وبين الغرب، ميدانها الدول المستفيدة من الاتفاقية. وإذ أعلنت الأمم المتحدة، أن كييف صدّرت 33 مليون طن من القمح الأوكراني حتى الشهر الجاري، ادّعت بريطانيا، أن 61% من هذه الكمية ذهبت للدول ذات الدخل المتوسط والمنخفض، في المقابل، تقول روسيا إن نسبة القمح التي ذهبت إلى الدول الفقيرة لا تتجاوز 4% والبقية تذهب للدول الغنية.
وبإعلانها هذا لا تشكك موسكو بالرواية البريطانية فحسب وإنما الأممية أيضاً. فقد أعلن برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة أنه اشترى 750 ألف طن من القمح الأوكراني وسلمها إلى دول فقيرة، مثل أفغانستان وإثيوبيا والصومال والسودان وجيبوتي.
خاتمة
بحسب بيانات الأمم المتحدة، ساهم اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية في خفض أسعار الحبوب في العالم بنسبة 20%، بعد أن بلغت مستويات قياسية بعد انطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ومن شأن انسحاب روسيا من الاتفاقية أن يعيد للأسعار تحليقها، طالما أن الأخيرة ترفض العودة إلى الاتفاقية، ما بقيت العقوبات مفروضة على صادراتها من السلع الغذائية، وعلى بنكها الزراعي وأصول الشركات الروسية العاملة في مجال تصدير المواد الغذائية والأسمدة وحسابتها مجمدة.