روسيا تعود إلى أفريقيا.. شراكة استراتيجية مع دول القارة
ابتسام الشامي

روسيا تعود إلى أفريقيا.. شراكة استراتيجية مع دول القارة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابتسام الشامي
ــــــــــــــــــــــــــــ
مسنودة إلى التاريخ السوفييتي فيها، تسجل روسيا حضوراً متزايداً في القارة الأفريقية، وتبني مع دولها جسوراً من التواصل الاقتصادي والعسكري والسياسي، بات يثير حفيظة الدول الغربية ويرفع من حدة الصراع الدائر على القارة السمراء وفيها.
هكذا تنظر روسيا إلى أفريقيا
من يقرأ رسالة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمناسبة انعقاد القمة الثانية الروسية الأفريقية، وكذلك خطابه في افتتاح القمة، يدرك مقدار اهتمام موسكو بتطوير علاقاتها مع دول القارة الأفريقية، في وقت تتعرض فيه لحرب غربية معلنة، وعزلة دولية فرضتها العقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية على خلفية عمليتها العسكرية في أوكرانيا.
القمّة التي التأمت بحضور ممثلين عن تسع وأربعين دولة، وسبعة عشر رئيساً أفريقيا، استبقها بوتين بنشر رسالة على الموقع الرسمي للكرملين، أكد فيها عزمه تكثيف العمل مع الدول الأفريقية في مجالات عديدة، بما فيها التكنولوجيا والطاقة والاستكشاف الجيولوجي، إضافة إلى النووي والصناعات الكيمياوية واستثمار المناجم والمواصلات. وإذ وعد "بتوسيع شبكة السفارات والمكاتب التجارية" الروسية في أفريقيا، فإنه حرص على إظهار الدعم الروسي لتطوير المكانة الدولية للقارة ودولها، معلناً في هذا السياق تأييد بلاده "ضم الاتحاد الأفريقي إلى عمل المنظمات الدولية". وخلال لقائه رئيس الاتحاد الأفريقي، غزالي عثماني، ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، موسى فقي محمد، ذكّر بوتين بأن "روسيا كانت من أوائل الدول التي استجابت إيجابياً لمبادرة منح الاتحاد الأفريقي العضوية الكاملة في مجموعة العشرين". وأضاف "نعوّل على أن يُتخذ هذا القرار في أيلول خلال قمة مجموعة العشرين في نيودلهي". مشيراً إلى أن روسيا تنظر إلى الاتحاد الأفريقي "كمنظمة إقليمية رائدة تشكل بنية أمنية حديثة في القارة وتهيئ الظروف لضمان مكانة لائقة لأفريقيا في نظام العلاقات الاقتصادية العالمية". ولعل أهم ما قاله الرئيس الروسي لضيوفه من الرؤساء والقادة الأفريقيين، أن بلاده "مستعدة للمساعدة بكل الطرق الممكنة في تعزيز سيادة الدول الأفريقية، والمساعدة في جعل أفريقيا أحد الشركاء الرئيسيين في نظام العالم متعدد الأقطاب الجديد".
عودة روسية إلى أفريقيا
ولئن حرصت روسيا على إنجاح القمة الروسية الأفريقية الثانية، واتخاذها معبراً لتطوير علاقاتها مع دول القارة الأفريقية، فمن الجدير ذكره هنا، أن الحضور الروسي ليس وليد ساعته في القارة السمراء، وإنما يعود إلى عقود مضت نجحت فيها موسكو "السوفييتية" في إنشاء بنية تحتية من العلاقات المتينة مع عدد من الدول الأفريقية، بدأت في أربعينيات القرن الماضي وتنامت لاحقاً، لاسيما في عهد الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف، وقد صاغ الكرملين استراتيجية وخطة عمل طويلة الأمد للتعامل مع أفريقيا، ما أتاح حضوراً فاعلاً للاتحاد السوفياتي، جرى "استثماره" في محاولة تقويض النفوذ الغربي في القارة الأفريقية في إطار الحرب الباردة، التي أرخت بثقلها على العالم، نحو خمسة عقود من الزمن.
الحضور الروسي في أفريقيا
ومع انهيار الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات القرن الماضي، سُجِّل انكفاءٌ روسيٌّ عن القارة الأفريقية فرضه انشغال روسيا في إعادة ترتيب وضعها الداخلي، قبل أن يعاود بوتين خلال ولايته الثانية، الالتفات إلى أفريقيا وإعادة وصل من انقطع معها. ومنذ عام 2014، فعّلت موسكو دبلوماسيتها اتجاه القارة السمراء، وقام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بزيارات عدة إلى دولها، لتعود روسيا من جديد لاعباً على مسرحها السياسي في حلبة صراع متنام على النفوذ فيها. وفي مؤشّر على نجاح الدبلوماسية الروسية في القارة السمراء، امتنعت نحو 20 دولة في آذار من عام 2022 من التصويت لمصلحة قرار أممي يدعو روسيا إلى سحب قواتها العسكرية من أوكرانيا، الأمر الذي رفع في موسكو مكانة العلاقات مع العالم الأفريقي، والاستثمار بتلك العلاقات، في مواجهة ما تعتبره روسيا حربا غربية مفروضة عليها.
نتائج القمة
نجاح الدبلوماسية الروسية في القارة الأفريقية ودولها، ارتكز بشكل أساسي إلى المصالح المشتركة، وطبيعة العلاقات التجارية الناشئة بين الجانبين، وكان في مقدمها الصفقات العسكرية، حيث تعتبر الصادرات العسكرية الروسية إلى أفريقيا، إحدى وسائل النفوذ الروسي في المنطقة، هذا فضلاً عن تأثير توسع رقعة انتشار قوات فاغنر في كل من أفريقيا الوسطى ومالي وموزمبيق والسودان وليبيا. وفي سياق متصل بالعلاقات العسكرية، يشير تقرير صادر عن معهد ستوكهولم الدولي للسلام، إلى ان روسيا كانت مصدر 44% من الأسلحة التي بيعت للدول الأفريقية بين عامي 2017 و2021.
وفي وقت يسعى فيه الاتحاد الروسي إلى تطوير علاقاته الاقتصادية وفي مجالات مختلفة مع الدول الأفريقية، فإنه لا يخفي رغبته في تطوير علاقاته العسكرية والتسليحية أيضاً، وهذا ما أشار إليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ختام القمة الروسية الأفريقية الثانية في سان بطرسبورغ، مؤكداً استعداد بلاده تزويد أفريقيا ببعض الأسلحة مجاناً لتعزيز الأمن في القارة.
وإلى تطوير العلاقات العسكرية، انتهت القمة الروسية الأفريقية بوعود تعزيز العلاقات الاقتصادية وإرسال شحنات مجانية من الحبوب إلى الدول الأفريقية، حيث تعهّد بوتين بمساعدة تلك الدول في مجالات عدة لتطوير قدراتها على صعيد ضمان الأمن الغذائي، وقال إن موسكو "سوف تعمل لكي تتمكن أفريقيا في المستقبل، من خلال تطبيق التقنيات الزراعية المناسبة والتنظيم المناسب للإنتاج الزراعي، ليس من إطعام نفسها وضمان أمنها الغذائي فحسب، بل لتصبح كذلك مصدرة لأنواع مختلفة من الغذاء، ولن تلاقي في ذلك سوى كل الدعم من جانب روسيا".
وتحدث بوتين أيضاً عن أشكال أخرى من الدعم منها قطاع التعليم، مؤكّداً "دعم الزملاء في أفريقيا ليس فقط فيما يتعلق بالتعليم العالي، ولكن كذلك في مؤسسات التعليم العام والثانوي وإعداد كوادر المعلمين... نحن نتطلع إلى تدريس اللغة الروسية في بعض الدول". وقال بوتين إن برامج التبادل ما بين الشباب في روسيا وأفريقيا تتسع باضطراد. وإذ شدد على ضرورة تعزيز التعاون في مجال المحتوى الإعلامي، أشار إلى وجود "خطط لافتتاح عدد من القنوات الروسية في أفريقيا".
أما في ما يتعلق بقطاع الطاقة، فقد سجل الرئيس الروسي، ازدياد صادرات النفط الخام والمنتجات البترولية والغاز الطبيعي المسال من بلاده إلى فريقيا بمقدار 2.6 مرة، كاشفاً عن وجود "أكثر من 30 مشروعاً واعداً للطاقة بمشاركة روسية في 16 دولة أفريقية بدرجات متفاوتة من التنمية". ولم ينس الرئيس الروسي حثّ الدول الأفريقية على توسيع تعاونها مع موسكو في مجال مواجهة تداعيات العقوبات الغربية، وقال إنه "من الضروري التحرك بنشاط أكبر في مجال التحول إلى التسويات المالية للمعاملات التجارية بالعملات الوطنية، بما في ذلك الروبل، من أجل زيادة توسيع النطاق الكامل للعلاقات التجارية والاقتصادية. ونحن، في هذا الصدد، على استعداد للعمل مع البلدان الأفريقية لتطوير بنيتها التحتية المالية، وربط المؤسسات المصرفية بالنظام الذي جرى إنشاؤه في روسيا لنقل الرسائل المالية، التي تسمح بالدفع عبر الحدود، بعيداً عن الأنظمة الغربية الحالية المقيدة".
خاتمة
تعود روسيا إلى القارة الأفريقية بمشاريع اقتصادية واعدة، وفي ظروف سياسية حساسة، لتكون القارة السمراء بمثابة بديل اقتصادي عن الدول الغربية التي امعنت في محاربتها ومعاداتها. وفي عالم منزاح نحو نظام جديد، لروسيا وكذلك للصين مصلحة أكيدة في مد يد التنمية لدول القارة الأفريقية ومساعداتها على التخلص من تداعيات الاستعمار الغربي الذي ما زال يفتك بمقدراتها وثرواتها، ويستخف بسيادتها وتطلعات شعوبها.