انقلاب الغابون: النفوذ الفرنسي في القارة الأفريقية أمام تحد جديد
ابتسام الشامي

انقلاب الغابون: النفوذ الفرنسي في القارة الأفريقية أمام تحد جديد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابتسام الشامي
ــــــــــــــــــــــــــــ
في ما لا تزال تتخبط في التعامل مع الانقلاب العسكري في النيجر، وجهت الغابون صفعة قوية لفرنسا بانقلاب مماثل أطاح بحكم علي بونغو، سليل الأسرة الحاكمة للبلاد منذ مطلع ستينيات القرن الماضي، في مؤشر جديد على تقلص دائرة النفوذ الفرنسي في القارة الأفريقية.
أسرة بونغو
يدخل الانقلاب العسكري في الغابون البلاد في مرحلة جديدة، لم تعهدها من قبل وهي التي اعتادت وجهة سياسية محددة، بحكم دورانها في الفلك الفرنسي، واستئثار عائلة واحدة بالسلطة. فقبل إطاحة الانقلاب بالرئيس علي بونغو، عرفت الغابون رئيسين قبله فقط منذ استقلالها عام 1960، أحدهما والده عمر، والآخر ليون مبا. بونغو الأب الذي خلف أول رئيس للبلاد، حاز لقب صاحب أطول فترة حكم في أفريقيا مع احتفاظه بالسلطة مدة اثنين وأربعين عاماً متواصلة، عمل خلالها على تمتين علاقاته بفرنسا، التي وفرت الحماية لنظامه، وأمنت انتقالاً سلساً للسلطة إلى ابنه عقب وفاته عام 2009. وعلى خطى الأب سار الأبن معمقاً إرث التحالف مع الدولة الفرنسية، التي أنهت استعمارها البلد الأفريقي ظاهراً، وأبقت عليه مستتراً، متحكمة بإرادته السياسية وموارده الاقتصادية، وهو ما فسر عملياً طول المدة الزمنية لحكم أسرة بونغو، وبنجاح الانقلاب العسكري في الإطاحة بالرئيس فاحش الثراء، تكون فرنسا قد خسرت موقعاً استراتيجياً آخر في القارة السمراء، كان مرتكزاً لهيمنتها، ومصدراً لرفاه شعبها.
ماذا نعرف عن الغابون
الحديث عن أسرة بونغو وارتباطها بالمستعمر الفرنسي يعد مدخلاً طبيعياً لفهم خلفيات الانقلاب العسكري وكذلك القيمة الاستراتيجية للغابون وما يتمتع به هذا البلد الأفريقي من أهمية نابعة من موقعه الجغرافي وثرواته الطبيعية. تقع الجمهورية الغابونية في غرب وسط أفريقيا، يحدها من الغرب خليج غينيا ومن الشمال الغربي غينيا الاستوائية، أما من الشمال فتحدها دولة الكاميرون، في حين تحدها الكونغو من الشرق والجنوب.
كحال الكثير من دول القارة السمراء، كانت الغابون مستعمرة فرنسية، حتى عام 1960، عندما نالت "استقلالها" لتخضع بعد ذلك لحكم ديكتاتوري عمل على الترويج للمصالح الفرنسية وخدمتها "بأمانة"، ليكون الاستقلال مجرد تعبير لفظي عن حالة سياسية فارغة من معاني السيادة والحرية الحقيقية، وإنما يعود ذلك كما أشرنا آنفاً إلى وقوع البلاد في قلب خريطة الثروات العالمية، إذ تعتبر من ضمن أكبر 5 منتجين للنفط الخام في جنوب الصحراء الأفريقية، وفق بيانات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، وذلك منذ اكتشاف العديد من رواسب النفط في المناطق المجاورة للعاصمة ليبرفيل القرن الماضي، ما أهلها لدخول نادي الدول المنتجة للنفط "أوبك"، الذي عادت إليه عام 2016، بعد تعليق عضويتها بسبب ارتفاع الرسوم السنوية المتوجبة على الدول الأعضاء. وتمتلك جمهورية الغابون وهي إحدى الدول الأفريقية الأكثر ثراء لناحية الناتج الإجمالي المحلي للفرد الواحد المقدر بنحو 8,820 دولاراً عام 2022، احتياطيات كبيرة من الغاز الطبيعي، وقد زاد إنتاجها بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، وبلغ 454 مليون متر مكعب بنهاية عام 2021، مقارنة بـ 80 مليون متر مكعب فقط عام 2010، وفق ما أشار إليه تقرير سنوي صادر عن أوبك.
وإلى الغاز والنفط الذي منحها لقب "عملاق النفط" الأفريقي، تحتوي الغابون أيضاً على موارد طبيعية أخرى تؤدي دوراً مهما في تعزيز الاقتصاد وتنميته، فهي غنية بالمعادن والثروة السمكية، والغابات، التي تغطي نحو 85% من مساحة البلاد البالغة 268 ألف كيلومتر مربع، وتشتهر بأعشاب السافانا وأشجار المانغروف، وبانتشار البحيرات والشواطئ الساحرة، وتعتبر البيئة مثالية في الغابون في مواجهة التغييرات المناخية، إذ يصف البنك الدولي البلد الأفريقي الصغير، بأنه "ممتص كبير للكربون ورائد في مبادرات صافي الانبعاثات الصفرية"، وذلك نتيجة الجهود المبذولة لتخفيض الانبعاثات، والحفاظ على غابته الاستوائية الكبرى.
الانقلاب وتداعياته
حتى إعلان العسكر صباح الأربعاء في الثلاثين من آب الماضي "إنهاء النظام القائم"، في اعقاب صدور النتائج الرسمية للانتخابات الرئاسية، وفوز الرئيس علي بونغو بولاية ثالثة، تمتعت الغابون باستقرار سياسي، ونمو اقتصادي، وفرته العلاقات المتينة والخدمات المتبادلة بين السلطة الحاكمة والدولة الفرنسية، وبإطاحة علي بونغو الذي ناشد العالم التدخل لإنقاذه، تكون فرنسا قد تلقت صفعة قوية في القارة الأفريقية، بعد شهر واربعة ايام فقط من صفعة مماثلة أتتها من النيجر. وفي ما كانت تحث منظمة "ايكواس" على التدخل العسكري لإعادة "النصاب الدستوري" للبلاد هناك، تسارعت المؤشرات الاقتصادية المقلقة من الغابون، وهي العمود الفقري لما يسمى بأفريقيا الفرنسية، المصطلح المستخدم لوصف نظام العلاقات السياسية والتجارية القائمة بين باريس ومستعمراتها السابقة في القارة السمراء. وفي سياق الحديث عن التداعيات الاقتصادية لانقلاب الغابون التي تعدّ سوقاً رئيسية للشركات الفرنسية في أفريقيا، تراجعت الأسهم المتداولة في بورصة باريس عقب إعلان الانقلاب العسكري، وإعلان شركة التعدين الفرنسية إراميت، التي تملك وحدة Comilog لإنتاج المنغنيز عالي الجودة في الغابون، تعليق جميع عملياتها في البلاد، في أعقاب التطورات المتسارعة، وهو ما أدى عملياً إلى انخفاض سهمها بنسبة عالية بلغت 18% مع وصوله إلى 62.45 يورو.
وبعيداً عن التأثيرات الاقتصادية للانقلاب على المصالح الفرنسية، فإن التأثيرات السياسية، توازيها أو تتقدم عليها، فخسارة فرنسا الغابون بعد مالي والنيجر يوضح رقعة النفوذ الفرنسي الآخذة بالانحسار في القارة الأفريقية، في ذروة الصراع الجيوسياسي على القارة السمراء ومن خلفها على المكانة في النظام العالمي الجديد. وكما فعلت مع النيجر قبل التوثب العسكري لاستعادة ما فقدته، سارعت باريس إلى إدانة الانقلاب، وأعلن الناطق باسم الحكومة الفرنسية أوليفييه فيران، أن بلاده تدين الانقلاب العسكري في الغابون، مشيراً إلى أن فرنسا "تراقب بانتباه شديد تطورات الوضع". وقال فيران، خلال مؤتمر صحافي في ختام اجتماع مجلس الوزراء، إن باريس تؤكد رغبتها بأن يجري احترام نتيجة الانتخابات.
خاتمة
لم تضح بشكل جلي صورة الوضع في الغابون، وباستثناء نجاح العسكريين في إزاحة بونغو ووضعه في الإقامة الجبرية، فإن فرص نجاحهم في تثبيت الوقائع لمصلحتهم غير مضمونة في ظل ترقب الخطوات الأخرى، خصوصاً وأن الانقلاب جرى في بلاد مستقرة أمنياً ومزدهرة اقتصادياً في وسط أفريقي مضطرب، لكن الشيء الأكيد أن لحظة تنصيب العسكر قائد الحرس الجمهوري برايس أوليغي نغويما رئيساً للبلاد، كانت لحظة تحد لفرنسا، ومؤشراً على تراجع نفوذها.