القضية الفلسطينية في سياسات دول أمريكا اللاتينية ماضياً وحاضراً دعم متنام شعبياً وسياسياً
ابتسام الشامي

في الوقت الذي تتجنّد فيه الدول الغربية خلف الكيان المؤقت في حربه الهمجية على قطاع غزة المحاصر، أبدت عدد من دول أمريكا اللاتينية انحيازها للقضية الفلسطينية، وهي في رفضها العدوان المتواصل على القطاع، اتخذت قرارات بقطع العلاقات مع تل أبيب واستدعاء سفرائها منها، في ما فضلت دول أخرى تقديم أداء وضعته تحت سقف "التوازن خدمة لأولوية وقف العدوان".
مواقف داعمة
لم تتأخر دول في أمريكا اللاتينية عن مناصرة غزة ورفض العدوان عليها. البث الحي عبر شاشات التلفزة العالمية لمشاهد مجازر العدو بحق النساء والأطفال من الفلسطينيين، دفعت الجماهير الغاضبة إلى الشوارع، ملوحين بأعلام بفلسطين ورافعين صور الأطفال الذين خطفت آلة الحرب الاسرائيلية أنفاسهم وقطّعت أوصالهم. حال شعوب أمريكا اللاتينية في تفاعلها مع تداعيات العدوان الهمجي على قطاع غزة، كحال الكثير من الشعوب الأخرى على امتداد العالم بما فيه على المستوى العربي والإسلامي، لكن ما ميز التضامن في أمريكا اللاتينية مع مظلومية الشعب الفلسطيني، إقرانه بفعل سياسي، عبّر عن نفسه باستدعاء عدد من الدول سفراءها من الكيان المؤقت، وإعلان أخرى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع تل أبيب. ولئن كان هذا الأداء الرسمي وكذلك الشعبي متوقعاً من دول أقدمت على خطوات مماثلة إبان الاعتداءات الإسرائيلية السابقة على لبنان أو قطاع غزة، فإن ما يجري في ساحة أمريكا اللاتينية يقاس أولاً بمدى تغير "المزاج السياسي" بعد انحسار المد اليمني، واستعادة اليسار أنفاسه، ويقاس ثانياً بالموقف الرسمي العربي المتخاذل لعدد من الأنظمة التي اغمضت أعينها عما يجري، وفضلت الاستمرار بأجندتها السياسية "الترفيهية" وكأن لا شيء يجري على أرض فلسطين من شأنه أن يغيّر وجه المنطقة والعالم.
وعلى خلفية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، اتخذ قادة دول عدة في أمريكا اللاتينية، مواقف سياسية لافتة مما يجري، وإجراءات عملية في إطار "الرد الديبلوماسي" على العدوان. وفي هذا السياق أعلنت دولة بوليفيا الثلاثاء الماضي قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان المؤقت بسبب "القصف الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة. وبالتزامن مع ذلك، استدعت كل من كولومبيا وتشيلي سفيريهما في تل أبيب للتشاور بسبب "التصعيد المستمر". وكذلك فعلت حكومة البيرو، والسلفادور، والبرازيل.
وإلى الإجراءات المشار إليها، كانت مواقف عدد من قادة دول أمريكا اللاتينية لافتة وقوية اللهجة اتجاه العدو الإسرائيلي وجرائمه، وتصدّر المشهد في هذا الإطار الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو. ولئن اعتادت فلسطين مواقف الرجل المناصر قضيتها منذ زمن طويل، إلا أن موقعه السياسي يعطي مواقفه قيمة مضافة. اليساري الذي يترأّس اليوم نظام دولة كان توصف بأنها "اسرائيل أمريكا اللاتينية" نظراً لعمق علاقاتها مع الغرب ودولة الاحتلال، اتخذ من منصة X ساحة لتوجيه النقد اللاذع للعدو وجرائمه في قطاع غزة. وفي إحدى تغريداته التي أثارت غضب تل أبيب، قارن بيترو الوضع في غزة بما يسمى معسكرات الاعتقال لليهود زمن النازية، مشبِّهاً الجيش الإسرائيلي بالنازيين. ومن خلال حسابه الرسمي على المنصة المذكورة، شارك صوراً ومقاطع فيديو لفلسطينيين استشهدوا في الاعتداءات الإسرائيلية على القطاع. معلناً فتح سفارة في مدينة رام الله الفلسطينية، رداً على العدوان.
وفي بوليفيا، أعرب الرئيس السابق إيفو موراليس، دعمه فلسطين. وعلى الرغم من قرار الحكومة اليسارية قطع العلاقات الرسمية مع الكيان المؤقت، وجه انتقاداً مبطناً للسقف المنخفض برأيه للحكومة اليسارية حيال ما يجري، وكتب موراليس في حسابه على منصة X " لا يعكس بيان وزارة الخارجية البوليفية مشاعر التضامن من الشعب البوليفي تجاه فلسطين. سيدين الشعب البوليفي دائماً الاحتلال الإسرائيلي غير الشرعي للأراضي الفلسطينية". ووصف الرئيس البوليفي الأسبق، والمرشح الحالي للرئاسة، اعتداءات كيان العدو بحق الفلسطينيين بأنها "إمبريالية واستعمارية"، مؤكداً أن "التضامن بين الشعوب هو أساس مجتمع أكثر عدلاً وكرامة".
بدورها أعربت حكومة كوبا عن قلقها البالغ إزاء العدوان الاسرائيلي على غزة، ورأت أن ما يجري هو "نتيجة 75 عاماً من انتهاك حقوق الشعب الفلسطيني وسياسة إسرائيل العدوانية والتوسعية". ودعت هافانا مجلس الأمن إلى "القيام بمسؤولياته ووضع حد لإفلات إسرائيل من العقاب، وهي القوة المحتلة التي وقفت الولايات المتحدة إلى جانبها طوال التاريخ".
فنزويلا بدورها أدانت الجرائم الاسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني، وطالبت بإنهاء احتلال فلسطين، معتبرة أن ما يجري هو "نتيجة لعدم قدرة الشعب الفلسطيني على إيجاد مساحة في القانون الدولي للتأكيد على حقوقه التاريخية".
مواقف متذبذبة
وأمام المواقف المتقدمة لعدد من قادة دول أمريكا اللاتينية في الدفاع عن الشعب الفلسطيني، سجلت علامات استفهام حيال مواقف قادة آخرين، فضلوا الوقوف في الوسط، بين انتقاد العدوان على الشعب الفلسطيني وانتقاد عملية طوفان الاقصى. وهذا ما ينطبق على تشيلي. الدولة التي تضم أكبر شتات فلسطيني خارج العالم العربي، أصدر رئيسها غابرييل بوريك بياناً وصف بالدبلوماسي، أدان فيه حركة حماس على خلفية عملية طوفان الأقصى، قبل أن يدين ما وصفها "الهجمات العشوائية ضد المدنيين التي نفذتها قوات الجيش الإسرائيلي في غزة والاحتلال غير القانوني للأراضي الفلسطينية لعقود انتهاكاً للقانون الدولي". مشدداً على أن "هجمات" حماس لا يمكن أن تبرر "الوحشية التي ترتكبها دولة إسرائيل في غزة".
بدوره أدان الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا ما سماها "الهجمات على إسرائيل"، في إشارة إلى عملية طوفان الاقصى ورد المقاومة الفلسطينية على العدوان، لكنه دعا المجتمع الدولي إلى الضغط من أجل "حل للصراع يضمن وجود دولة فلسطينية حيوية اقتصاديا تعيش بسلام مع إسرائيل داخل حدود آمنة للطرفين".
وجود اليسار على رأس السلطة في الارجنتين لم يغير في العلاقات الارجنتينية الاسرائيلية. رئيس البلاد التي تضم جالية يهودية كبيرة في أمريكا اللاتينية، ألبرتو فرنانديز هاتف نظيره الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ في 7 تشرين الأول الماضي، ناقلاً اليه "تضامن الشعب والحكومة الأرجنتينيين". في ما أعربت وزارة الخارجية الأرجنتينية عن "أسفها" للهجمات المسلحة ضد ما اسمته "جنوب إسرائيل" ووصف بيان الخارجية عمليات حركة حماس "بالإرهابية"! في وقت اكتفت فيه نائبة الرئيس الأرجنتيني، كريستينا فرنانديز دي كيرشنر، بالدعوة إلى حل الدولتين.
مقاربة تاريخية لعلاقات أمريكا اللاتينية بالكيان الغاصب
المواقف الصادرة عن قادة دول أمريكا اللاتينية والمعبرة عن سياستها اتجاه ما يجري في فلسطين المحتلة، لا يمكن فصلها عن جذورها التاريخية المرتبطة بعلاقات تلك الدول على حد سواء بالكيان الغاصب، وبالقضية الفلسطينية. فباستثناء كوبا صاحبة الدعم القوي لفلسطين المحتلة انسجاماً مع مبادئها وتعليمات قائدها ثورتها الخالدة فيديل كاسترو، كانت أمريكا اللاتينية تدور في الفلك الغربي على مدى عقود من الزمن، حتى أن دولة كالبرازيل كانت لها مساهمة في تأسيس الكيان المؤقت. ففي تشرين الأول من عام 1949، لعبت حكومة البرازيل، ممثلة برئيس وفدها، ورئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة آنذاك، أزوفالدو أرانا دوراً مهماً في مشروع تقسيم فلسطين، سواء عبر محاولات الدبلوماسي البرازيلي، وثيق الصلة بواشنطن والحركة الصهيونية، دفع الدول الأعضاء للتصويت على القرار، أو قيامه بتأجيل التصويت ثلاثة أيام من أجل إقراره. علماً أن قرار التقسيم، صدر بموافقة ثلاثة وثلاثين دولة، بينها ثلاث عشرة دولة من أمريكا اللاتينية. وفي ما أمتنعت ست دول فيها عن التصويت لمصلحة القرار، سجلت كوبا موقفها للتاريخ برفضها القرار.
وإلى هذا الدور التأسيسي، كان للسياسات المعتمدة من قبل دول أمريكا اللاتينية في الهيئات الأممية المختلفة دوراً في تثبيت أقدام الكيان، ومنها إلى إعطائه "شرعية" الوجود، منع إدانته على خلفية اعتداءاته ضد فلسطين الدول العربية، كما حصل بعد عدوان عام 1967، عندما دعمت غالبية دول أمريكا اللاتينية الكيان الغاصب، من خلال مشروع القرار المقدم للأمم المتحدة في العام نفسه، الذي وضع شرط قبول العرب بـ "إسرائيل" من أجل انسحابها من الأراضي المحتلة، متحدثاً عن الوجود الآمن لدولة الاحتلال.
على أن التحول النسبي الذي طرأ على الموقف اللاتيني من القضية الفلسطينية حصل بشكل محدود بعد حرب عام 1973، عندما ارتأت عدد من دول القارة الانضمام إلى حركة عدم الانحياز ما أدى إلى انزياح مواقفها للتوازن أكثر. حيث أيدت كل من شيلي، والأرجنتين، وبيرو، والإكوادور، قرارات الحركة وسياستها، المتمثلة في الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، وإدانة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، والدعوة إلى الانسحاب منها. أما التحول الأكبر الذي حصل في مواقف دول أمريكا اللاتينية من القضية الفلسطينية فقد تأخر إلى مطلع القرن الحادي والعشرين، مع صعود التيار اليساري، حيث سجلت مواقف جديدة من هذه القضية، مع التضامن غير المسبوق بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بين عامي 2008 و2009، تبعه اعتراف عدد كبير من دول أمريكا اللاتينية، بدولة فلسطين. بينما ذهبت دول أخرى وفي مقدمها فنزويلا وبوليفيا إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع تل ابيب، تلتهما نيكاراغوا عام 2010 رداً على الهجوم على أسطول الحرية. وفي إطار الرفض للعدوان الاسرائيلي على قطاع غزة عام 2014 الذي أسماه العدو الرصاص المصبوب، أطلق الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو حملته الشهيرة "أغيثوا فلسطين". فيما ألغت بوليفيا اتفاقية مع كيان العدو للإعفاء من تأشيرة الدخول، واصفة دولة الاحتلال بالدولة الارهابية.
وشهدت المواقف التضامنية من قبل رؤساء دول أمريكا اللاتينية، خلال تلك الفترة، زيارات تضامنية لفلسطين المحتلة، لكل من الرئيس البرازيلي لولا داسيلفا، ورئيس جمهورية الدومينيكان، ليونيل فرنانديز، بين عامي 2010 و2011. في وقت قررت فيه الأرجنتين وأوروغواي، فتح سفارات جديدة لها في رام الله.
خاتمة
تعد العودة إلى التاريخ مدخلاً مهماً لفهم الواقع والمستقبل، ومن العلاقات التاريخية لكيان العدو مع دول أمريكا اللاتينية، يمكن فهم التحول الحاصل في موقف القارة الجنوبية من القضية الفلسطينية، وهو تحول إيجابي يبنى عليه لتوسيع دائرة التضامن مع فلسطين. وعلى خلفية ما تمر بها القضية الفلسطينية اليوم، فإن التظاهرات التي تعمّ دول أمريكا اللاتينية، تشكل رافعة ضغط على حكومات الدول لمواقف أكثر تأييداً للشعب الفلسطيني وحقه في أرضه ووجوده.