الغرب يراجع اولوياته.. غزة تتقدم على أوكرانيا
ابتسام الشامي

الغرب يراجع اولوياته.. غزة تتقدم على أوكرانيا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابتسام الشامي
ــــــــــــــــــــــــــــ
فرضت عملية طوفان الأقصى حضورها القوي على الأجندة الدولية، وزاحمت في خطورة مؤشراتها والتداعيات المترتبة عليها، الصراع الروسي الأطلسي المفتوح في أوكرانيا.
وبينما يتجند الغرب لدعم الكيان المؤقت في عدوانه الهمجي على قطاع غزة بمختلف أشكال الدعم، يرتفع في الدول الغربية ذاتها، منسوب التضامن الشعبي مع الفلسطينيين في مواجهة ما يتعرضون له من إبادة جماعية إسرائيلية.
أمريكا وسؤال اليوم التالي في غزة
بعد مضي أكثر من شهر على بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، لا تزال الولايات المتحدة الأمريكية على موقفها الداعي إلى استمرار الحرب حتى تحقيق أهدافها المتمثلة بتغيير "الواقع السياسي القائم" في القطاع، وهي الترجمة العملية بالمعنى السياسي للكلمة، للهدف الإسرائيلي المعلن للحرب وهو القضاء على حركة حماس، وبعدما بدا أن جيش العدو عاجز حتى الآن، أو بعيد عن تحقيق الهدف المشار إليه، تتحرك "الدبلوماسية" الأمريكية على خط تحقيق ما عجزت الحرب عن تحقيقه، متبنية مشاريع حكومة العدو، سواء في تهجير الفلسطينيين، أو تغيير الإدارة السياسية للقطاع بعدما أسقط صمود أهل غزة ومقاومتها المشروع الأول.
السؤال عن اليوم التالي، يحدّد لأي حرب مسارها، ويضع التصور النظري لكيفية إنهائها، وهو سؤال من المفترض أن يجيب عنه صانع قرار الحرب وهو حكومة العدو في حالة العدوان على غزة، لكن بما أن الولايات المتحدة الأمريكية، أكدت منذ بداية العدوان أنها فاعلة أساسية فيه، من خلال ثقلها العسكري والسياسي، فإن "دبلوماسيتها العسكرية" تتصرف اليوم على قاعدة أنها معنية بالإجابة عن سؤال اليوم التالي، عبر محاولة فرض مشاريع تحدّد المستقبل السياسي لقطاع غزة مقابل وفق إطلاق النار، وهو ما حمله وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن في جولته على دول المنطقة، وقمة مجموعة السبع الكبرى التي استضافتها اليابان. ووفقاً لصحيفة "أساهي" اليابانية فإن وزراء خارجية "مجموعة السبع" ناقشوا أثناء اجتماعهم في طوكيو، "كيفية تنشيط جهود السلام في الشرق الأوسط، واليوم التالي في قطاع غزة بمجرد انحسار الصراع هناك". يأتي ذلك متزامناً مع تصريحات مسؤولين إسرائيليين حول التصور الإسرائيلي لوضع قطاع غزة مستقبلاً، لاسيما ما قاله رئيس وزراء العدو بنيامين نتانياهو من أن "إسرائيل ستسعى إلى تولي المسؤولية الأمنية في غزة لأجل غير مسمى". في حين أوضح وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين في حديث لصحيفة وول ستريت جورنال، أن تل أبيب "تريد أن تكون المنطقة تحت إشراف تحالف دولي يضم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول ذات الأغلبية المسلمة أو أن يديرها قادة سياسيون محليون في غزة". علماً أن وكالة رويترز كانت قد ذكرت في وقت سابق من هذا الشهر، أن المناقشات المتعلقة بما بعد العدوان، تشمل "نشر قوة متعددة الجنسيات في غزة بعد الصراع وتشكيل إدارة مؤقتة بقيادة فلسطينية تستبعد ساسة حماس ودوراً مؤقتاً في الأمن للدول العربية المجاورة وإشرافاً مؤقتاً للأمم المتحدة على القطاع".
التضامن الشعبي العالمي مع غزة يرتفع
وفي ما تواصل واشنطن ضغوطها المختلفة لتحقيق العدوان الإسرائيلي أهدافه العسكرية والسياسية المشار إليها آنفاً، يرتفع مستوى التضامن الشعبي العالمي مع قطاع غزة أمام ما يتعرض له سكان القطاع من مجازر وحشية تصل حد الإبادة الجماعية. وخلال الأيام الماضية، شهدت عواصم عدد من الدول الغربية تظاهرات كبرى دعماً لوقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، كان أبرزها التظاهرة الحاشدة في العاصمة الأمريكية، حيث ندد المشاركون فيها بالسياسات الداعمة للحكومة الإسرائيلية وبدور الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي وصفه متظاهرون بأنه "شريك في الإبادة". وسار المتظاهرون، في ما وصفته وكالة الصحافة الفرنسية بأكبر تظاهرة في العاصمة الأمريكية منذ بدء الحرب على غزة، في شوارع واشنطن ملوحين بالأعلام الفلسطينية، ورددوا هتافات من بينها "بايدن، بايدن لا يمكنك الاختباء، لقد اشتركت في الإبادة"، ثم تجمعوا عند ساحة الحرية على بعد خطوات من البيت الأبيض.
وفي ما تشهد العواصم الغربية تظاهرات حاشدة، كما في باريس ولندن، يتحدى فيها المتظاهرون قمع الشرطة وقوانين تجريم التلويح بالأعلام الفلسطينية والتضامن مع غزة، كان لافتاً للانتباه الانقسام الذي يشهده التيار اليساري الأوروبي حيال الموقف مما يجري في فلسطين المحتلة، وهو انقسام يهدد بتفكيك التيار المهدد أصلاً بتنامي المد اليميني في أوروبا. ففي بريطانيا استقال تسعة أعضاء من مجلس حزب العمل على خلفية موقف زعيمه، السير كير ستارمر، من الحرب في غزة، وهو الذي أثار عاصفة من الغضب داخل أكبر أحزاب المعارضة البريطانية، بعدما أجاب بنعم خلال مقابلة تلفزيونية، عن سؤال حول ما إذا كان يعتقد بأن الحصار على غزة له ما يبرره، متجاهلاً مواقف التكتلات العمالية والماركسية في قاعدة حزبه.
أما في فرنسا، فإن المرشح الرئاسي السابق وزعيم حزب فرنسا الأبية جان لوك ميلانشون بدا وحيداً في دعم غزة في ائتلاف "نوبيس" اليساري. الائتلاف الذي تشكل من أحزاب وتيارات اشتراكية وشيوعية إضافة إلى حزب الخضر لخوض الانتخابات البرلمانية العام الماضي، بدا على حافة الانهيار بعدما رفض ميلانشون وصف هجوم السابع من تشرين الأول، بالعمل الإرهابي، في بيان نوبيس. وكتب معلقاً: "أعتقد أننا قد وصلنا نقطة اللاعودة".
الانقسام ذاته انسحب أيضاً على اليسار في إسبانيا مع مسارعة القائم بأعمال رئيس وزراء البلاد، زعيم الحزب الاشتراكي بيدرو سانشيز، إلى إدانة عملية طوفان الأقصى، واصفاً هجوم حركة حماس على مستعمرات غلاف غزة بالإرهابي لكن الأمين العام للحزب الشيوعي الإسباني، والبرلماني عن تحالف "سومار اليساري" المتحالف مع سانشيز، انريكي سانتياغو، رفض بشدة وصف مجاهدي حركة حماس بالإرهابيين، مؤكداً "حق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه في مواجهة الاحتلال".
وإلى موقف سانتياغو، أدلى ثلاثة وزراء من أحزاب يسارية شريكة لسانشيز في حكومة تصريف الأعمال، بمواقف متضامنة مع الفلسطينيين أثارت غضب السفارة الإسرائيلية في مدريد، ما اضطر وزارة الخارجية الإسبانية، إلى الدفاع عن وزيرة الحقوق الاجتماعية، وزعيمة حزب "بوديموس"، أيون بيلارا، وزميلتها في الحزب، وزيرة المساواة بالوكالة إيرين مونتيرو، والقائم بأعمال وزير شؤون المستهلك، ألبرتو غارزون. واتهم بيان الخارجية الإسبانية، سفارة الكيان بنشر الأكاذيب، مطالباً إياها باحترام "حق السياسيين الإسبان في التعبير عن آرائهم".
أوكرانيا تتراجع إلى الخلف
الانشغال الغربي عموماً والأمريكي خصوصاً بما يجري في فلسطين المحتلة، دفع إلى الوراء بقضايا كانت حتى الأمس القريب في قائمة أولويات الغرب. فعشية السابع من تشرين الأول كانت قضية أوكرانيا لا تزال تتصدر الاهتمام الغربي، على الرغم من خيبة الأمل المتأتية من الأداء العسكري للقوات الأوكرانية، بعدما فشل هجومها المضاد في تحقيق إنجازات عسكرية كبرى من شأنها أن تقلب المعادلات السياسية كما راهنت واشنطن وعواصم أوروبية أخرى، لكن النتائج المتواضعة للهجوم، فرضت على الأجندة السياسية في تلك العواصم اعادة النظر في "المساعدات" العسكرية المقدمة إلى كييف، وهو ما تجلى في الميزانية الأمريكية التي استبعدت المزيد من التمويل العسكري لأوكرانيا، وإحالته إلى مشروع قانون منفصل. كان هذا هو الخيار الوحيد آنذاك لتجنُّب الإغلاق الحكومي بفعل الانقسامات في أوساط المشرعين الأمريكيين على خلفية إقرار حزم جديدة من المساعدات العسكرية لأوكرانيا مطلع شهر تشرين الأول الماضي، قبل أن يأتي طوفان الأقصى ليجرف معه المزيد من فرص الدعم الغربي للجمهورية السوفياتية السابقة. وخلال قمة الاتحاد الأوروبي في السادس والعشرين من الشهر الماضي، سجلت كل من المجر وسلوفاكيا تحفُّظهما العلني حيال تقديم أي دعم جديد إلى أوكرانيا، أو فرض عقوبات إضافية على روسيا. وهو ما شكل سداً منيعاً أمام تمرير المزيد من المساعدات لكون قرارات التكتل الدولي الأوروبي تؤخذ بالإجماع.
وتفيد بعض المؤشرات والتسريبات أن قادة الغرب، وجدوا في التطورات الجارية في فلسطين المحتلة، فرصة لإعادة رسم الأولويات الخارجية، التي من شأنها أن تطال الملف الأوكراني بعدما أرهق كاهل الاقتصاد الأوروبي. وفي هذا السياق، سرّبت شبكة "إن بي سي" نيوز الإخبارية الأمريكية(1)، أنباء عن "شروع مسؤولين أمريكيين وأوروبيين بالتشاور، من وراء الكواليس، مع نظام كييف في شأن حجم التنازلات التي ينبغي تقديمها إلى موسكو في إطار اتفاق سلام ينهي الصراع". ووفقاً للشبكة ذاتها فإن "جانباً من المحادثات في هذا الشأن جرى بالفعل في اجتماع عقد الشهر الماضي لمجموعة الاتصال للدفاع عن أوكرانيا، التي تضم نحو 50 دولة حليفة لأمريكا.... وإن مداولات ممثلي الحكومات عكست اعترافاً بوصول الحرب في أوكرانيا إلى طريق مسدود". مشيرة إلى وجود "ديناميات سياسية مستجدّة في الولايات المتحدة وأوروبا" تتوازى مع الجمود العسكري على الأرض. وتفيد الشبكة الأمريكية أن مسؤولين أمريكيين وأوروبيين تبادلوا وجهات النظر في شأن جدول زمني مقترح لتسوية الملف الأوكراني. ونقلت الشبكة عن مسؤولين أمريكيين، في أحاديث غير رسمية، قولهم إن "أمام أوكرانيا حتى نهاية العام أو بعد ذلك بوقت قصير قبل بدء ضغوط أكثر إلحاحاً" في شأن إطلاق مفاوضات السلام".
في مؤشر أكثر وضوحاً على تراجُع الدعم الغربي لأوكرانيا، مثّل صفعة قوية للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، مصادقة الكونغرس الأمريكي، على تشريع لتقديم مساعدات جديدة بقيمة 14 مليار دولار إلى الكيان المؤقت، من دون اعتماد أي تمويل إضافي لأوكرانيا.
خاتمة
فاضت نتائج عملية طوفان الاقصى حتى الآن عن الساحة الفلسطينية، وهي إذ تؤشر إلى مرحلة جديدة في المنطقة، فإنها ضربت بقوة الأجندة الدولية، وفرضت على القوى الغربية إعادة ترتيب جدول أولوياتها، وسط توقعات باستمرار تداعيات الطوفان في المدى المتوسط والبعيد، وهذا مرهون بما ستكون عليه المعركة الجارية في فلسطين المحتلة من اتساع أو انحسار.
1- جريدة الأخبار، غزة تشغل الغرب عن حروبه الأخرى: لا وقت لأوكرانيا وهمومها