هل أنّ الجيش والنظرية الأمنية الإسرائيلية اعتمدا بشكل فائض على الحداثة والتكنولوجيا؟

هل أنّ الجيش والنظرية الأمنية الإسرائيلية
اعتمدا بشكل فائض على الحداثة والتكنولوجيا؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ترجمة وإعداد: حسن سليمان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكلام عن أنّ الجيش "منوّم مغناطيسياً" بالتكنولوجيات الحديثة ويستخدمها على حساب الاحترافية العسكرية، ليس بجديد. التزوّد بتكنولوجيات عالية التقنية عموماً، والتكنولوجيات الدفاعية خصوصاً، اتّهم مراراً وتكراراً بحرف الجيش عن الطريق المباشر العسكري. شكاوى من هذا النوع أثيرت وما زالت تثار خصوصاً بشأن الاستثمار بالتكنولوجيات الدفاعية.
المشترك بين كلّ المنتقدين هو ضبابيّتهم بشأن البدائل. هل كان على حكومات إسرائيل أن تعرّض مواطني الدولة للقصف الصاروخي من غزة، وتعوّدهم على مراسم دفن القتلى الجماعية في مدن إسرائيل، خلال حرب هجومية لا تهدأ وضمن تخلّ عن الاقتصاد ورفاهية المواطنين؟
مقدّمة
كلّ هزيمة عسكرية وسياسية يعقبها سيل عارم من النقد الذاتي في مسألة "بماذا فشلنا؟ هذا ما حصل في الماضي بعد حرب يوم الغفران وهزائم أقلّ شدّة مثل حرب لبنان الثانية. الهزيمة النكراء التي ألحقتها حماس بإسرائيل يوم السبت الأسود في 07/10/2023، هي هزيمة لا يتصوّرها العقل من مصدر عدّته القيادتين السياسية والعسكرية في إسرائيل، وبما لا يقلّ عن ذلك أيضاً الرأي العام في إسرائيل، عامل قلق لكنّه هامشي- أعقبها فوراً (وبحق) سيل من النقد الذاتي بشدّة لم نعهدها حتى الآن.
حتى كتابة هذه الكلمات، ما زالت الحرب التي شنّتها حماس في ذاك " السبت الأسود" بعيدة من النهاية، وربّما لم تبلغ بعد ذروتها. نتائجها سترسم ملامح دولة إسرائيل للأجيال القادمة من ناحية النظام، من ناحية عسكرية، من ناحية اقتصادية ومن ناحية اجتماعية. أثناء كتابة هذه السطور، بعد ثلاثة أسابيع من اندلاعها، نحن بعيدون من فهم تفصيل حتمي "بماذا فشلنا"، والنقد الذاتي يمتدّ من إلقاء التبعات على سياسة وإجراءات حكومة نتنياهو الحالية وسابقاتها، مروراً باتهام جهات استخبارية، وصولاً إلى إلقاء التبعات على سياسات بناء القوة في الجيش. هذا المقال، كما يتبدّى في عنوانه، يتناول القضية الأخيرة: هل بناء القوة اعتمد أكثر من اللازم على وسائل تكنولوجية بثمن إهمال الخبرات العسكرية الأساسية لدى الجيش؟.
الدفاع عند حدود غزة
حسبما نعرف من مصادر علنية، حماية حدود غزة ارتكزت على الدمج بين عائق فيزيائي، وسائل إنذار واتصال بالقيادات والقوات في عمق الدولة. العائق الفيزيائي يتألّف من طبقتين أو مجموعتين: الأولى تحت الأرض والثانية فوق الأرض. المجموعة التحت أرضية ليست عميقة وصلبة وهي تضمّ أجهزة تحسّس يبدو أنّها خصّصت لرصد الإشارات الصوتية لعمليات حفر تحت أرضية. هذه المجموعة تمّ التخطيط لها نتيجة عِبَر عملية "الجرف الصلب"، لإحباط قدرة حماس على إقامة منظومة أنفاق تخترق الأراضي الإسرائيلية لتدخل عبرها وحدات كوماندوس تتوغّل داخل مناطق غلاف غزة. المجموعة الفوق أرضية، تألّفت من عائق خفيف نسبياً، ومنظومة رصد ومواقع إطلاق نيران في الجانب الإسرائيلي. يبدو أنّ الهدف من هذه المجموعة كان إحباط عمليات تسلّل ودخول جماعي لمتظاهرين غير مسلّحين، كما كان يحصل في "مسيرات العودة" وربّما أيضاً إحباط دخول مجموعات كوماندوس مسلّحة، فوق الأرض.
يبدو في هذه الحالة أنّ تهديد الصلة الذي واجه واضعي مخطط حماية حدود القطاع، كان دخول "فوق أرضي" لوحدات كوماندوس من حماس. يمكن أن نفترض أنّ تهديد اقتحام بري جماعي متزامن ومنسّق لبضعة آلاف من المسلّحين المدرّبين جيّداً، لم يرد ضمن المخطط. موضوع حماية الحدود كان أحد المواضيع التي شغلت قيادة الأركان في العقود الأخيرة. قبل ثلاث سنوات تماماً، في تشرين الأوّل 2020، نشر قائد المنطقة الجنوبية حينها (وقائد الأركان الحالي) هرتسي هليفي، مقالاً تحت عنوان "دفاع متعدد الأبعاد"، من جملة ما كتب فيه: "أعداؤنا اليوم، ولا سيّما حماس وحزب الله، يخطّطون لعمليات هجومية - برية إلى داخل أراضينا. وهذه لا تهدف إلى الاحتفاظ بمنطقة ما فترة طويلة بل هي أعمال هدفها إلحاق ضرر، أسر أشخاص، وأكثر من هذا، إحداث أثر وعي قاسي لدى الجمهور الإسرائيلي وصدى إعلامي بأنّ أمراً لا مثيل له قد حصل. إرهاب هدفه إثارة الرعب، لا يتطلّع إلى الانتصار بالمعنى الكلاسيكي للكلمة وفي هذه الحالة، إحداث نوع من عدم سيطرة الدولة على مجالها الإقليمي، بثّ الخوف والرعب وعدم الاستقرار- هذا هو إنجازه".
على الرغم من أنّ اللواء هرتسي هليفي أشار إلى حزب الله كما إلى حماس باعتبارهما تهديداً من هذا النوع، يمكن أن نفترض أنّه حين كتابة هذه السطور، كان اللواء هليفي ما زال تحت تأثير كشف أنفاق حزب الله قبل عام من ذلك. أكثر من هذا: فيما تحدّث أمين عام حزب الله عدّة مرات في هذا الشأن وقال إنّ أحد أهدافه، في الحرب المقبلة سيكون "احتلال الجليل"، فإنّ قيادة حماس لم تهدّد أبدا باحتلال أجزاء من إسرائيل (على الأقل ليس بصوت عال). منطقي إذا أن اللواء هرتسي هليفي كان يقصد في كلامه خصوصاً، خطراً من جانب حزب الله.
كلام اللواء هليفي يثير، من جهة، يثير ذهولاً ودهشة بتنبّؤاته، كما لو كان قائد الأسطول الأمريكي يتنبأ بهجوم بيرل هاربر قبل ثلاث سنوات من حصوله. ومن جهة ثانية، من المناسب التنبّه إلى ما لم يقله اللواء: كيف سيتمّ تنفيذ عمل من هذا النوع: من الأنفاق؟ فوق الأرض؟ من الجوّ؟ لا ندري، لكن يمكن أن نفترض أنّ تهديد الصلة الذي كان نصب عينيه عن علم أو عن غير علم، افترض اجتياحاً عن طريق الأنفاق، لأنّ العدوّ، ببساطة، سواء حماس أو حزب الله، بذل جهداً وافراً في إعداد أنفاق بأعداد وأحجام تسمع بتوغّل قوات بأعداد كبيرة إلى إسرائيل. يبدو أنّ قيادة الجيش، على الرغم من هذا التحليل الألمعي والقدرة على التنبّؤ، لم تتمكنّ من السير خطوة إضافية وتحليل الطريقة التي تستطيع فيها حماس وحزب الله تحقيق نبوءة احتلال منطقة في إسرائيل.
خطة هجوم حماس
الفكرة التأسيسية لعملية "طوفان الأقصى" كانت اقتحاماً جماعياً من فوق الأرض تنفّذه ثلاثة ألوية "النخبة" في حماس. الخطة ارتكزت على الجمع بين التضليل الإستراتيجي والمفاجآت على الصعيد الاستراتيجي كما على الصعيد التكتيكي، وكانت أسسها:
أ. تضليل استراتيجي: تشجيع القيادتين العسكرية والمدنية في إسرائيل على الاعتقاد بأنّ حماس "تعقّلت" وبما أنّها لم تحقّق إنجازات حقيقية في جولاتها التصعيدية (كما في حارس الأسوار) أو في مساراتها "الأهلية" (مثل مسيرات العودة) فهي تكتفي ببسط سيطرتها على قطاع غزة وتشجيع عمليات ضدّ إسرائيل في يهودا والسامرة. كلّ مشعوذ أو محتال يعرف أن الطريق إلى تضليل الضحية هو أن يقول لها ما تريد سماعه. القيادتان العسكرية والمدنية في إسرائيل - وبما لا يقلّ عنها وسائل الإعلام، بما فيها الإعلام الأكثر انتقاداً للحكومة الحالية - كان يريحها أن تصدّق هذا. عدم مشاركة حماس في جولتي التصعيد الأخيرتين ضدّ الجهاد الإسلامي بدت وكأنّها "دليل" على اعتدال حماس. لقد بثّت حماس إشارات اعتدال. دولة إسرائيل كلّها - يتعذّر بالنسبة لي التفكير بما يشذّ عن هذا السياق -اُفتتنت بتصديق هذه القصة لأنّ هذا كان يناسبها.
ب. مفاجأة استراتيجية: نجحت حماس في المحافظة على سرية عمليّتها حتى الدقيقة الأخيرة، عبر منع تسرّب معلومات أو عبر تمويه التحضيرات العلنية على الأرض مثل إجراء تدريبات أو استعدادات لاستئناف "مسيرات العودة".
ج. مفاجأة تكتيكية: ربّما استطاعت منظومات الرصد التي نصبها الجيش على حدود غزة، أن تنذر بشأن تحرّكات مشبوهة في عمق الأراضي الغزاوية. لو كانت تحرّكات لوحدات "النخبة"، كُشفت في عمق أراضي غزة، لربّما كان الجيش تلقّى تحذيراً كافياً لينتقل إلى اليقظة ويحبط، على الأقل، جزءاً من الهجوم. من أجل ضمان أقصر وقت ممكن بين كشف تحرّك القوة الغازية وبين الإنذار، استخدمت حماس أنفاق وصلت قريباً جداً من السياج (من دون أن تجتازه)، بحيث أنّها حين تُكشف أيضاً لا يبقى أمام الجيش متّسع لينتظم دفاعياً. ولا يقلّ أهمية عن هذا أنّ حماس قطعت أجهزة الكشف، وسائل إطلاق النيران الأوتوماتيكية وأجهزة الاتصال التي كانت على الحدود، بمساعدة محلّقة تجارية ألقت عبوات ناسفة.
يجب أن نعطي العدوّ العلامة التي يستحقّها: هذه الخطة كانت باهرة في أنّها كشفت ضعفاً بنيوياً لدى إسرائيل كـ "قوة راضية"، تجلّى في رغبتها بتفسير الواقع بطريقة تناسبها -تطلّع لرؤية واقع هكذا يناسب "مجال الراحة" ولا يستدعي تغييرات. هذا التطلّع، أو ما يشبه التخدير الذاتي، كان مشتركاً بين الجمهور، الحكومة والجيش. خطة حماس لمعت أيضاً في المحافظة على سرّيتها حتى اللحظة الأخيرة كما في المفاجأة التكتيكية بتقصير وقت انكشاف القوات لمواقع رصد الجيش.
مع هذا، بين مكوّنات الخطة الثلاثة، شكّلت أساساً المحافظة على سرية العملية حتى اللحظة الأخيرة. القوة العسكرية التابعة لحماس التي اقتحمت إلى إسرائيل يوم "السبت الأسود" لم تكن قوّة مدرّعات، وكان يمكن استهدافها بسلاح خفيف، فضلاً عن المدفعية أو نيران من الجوّ. يبدو أنّ الخطة لو انكشفت مسبقاً - لنفترض قبل عدة أيام - لكانت قوة مناسبة من الجيش انتظرت بتنظيم نفسها والمواجهة، قلّلت عدد الخسائر بل نجحت في دفع القوات المهاجمة إلى الهروب. يمكن أن نفترض أنّه لو كان وصل إنذار قبل عدة ساعات، كان يمكن نشر مجموعات التأهّب بشكل أفضل وبالتالي التخفيف نوعاً ما من حدّة هجوم حماس.
أين يكمن الفشل الإسرائيلي
فشل إسرائيل كان إذًا، قبل أي شيء آخر، فشل استخباري. لو كانت وصلت معلومات استخبارية ولو قبل بضعة أيام، لكانت أطاحت بالمفاجأة التكتيكية أو التضليل الاستراتيجي من ناحية العدوّ. في مقال نشر مؤخراً قال رئيس الاستخبارات السابق اللواء احتياط "عامي أيلون": "أعتقد أنّ كلّ أجهزة الاستخبارات فشلت. أنا أقدّر أنّ المصادر البشرية لم توفّر البضاعة. يبدو أنّنا لم نكن عميقاً داخل ذراع حماس العسكري، في أماكن كان ينبغي أن نكون فيها، لنفهم ما يحصل. وبشأن استخبارات الإشارة - وهو الانترنت، الهواتف وكلّ ما يمرّ بالشبكة - ينبغي القول إنّ هذه الجماعة(حماس) تستحقّ منا التنويه في الجانب الاحترافي، ولا سيّما قدرة محافظتها على السرّ".
"يجب أن نفهم أنّنا عرفنا كلّ الأمور النقطوية. تحدّثنا عن سيناريو اجتياح كيبوتسات وأخذ أسرى. تحدّثنا عن كلّ سيناريو بشكل منفصل، لكنّنا لم نرَ الصورة الكاملة. لم يكن لدينا علم بشأن الخطة ومؤكّداً لم نفهم التوقيت، لأنّهم على ما يبدو فعلوا هذا من دون استخدام إشارات الكترونية. كانت مفاجأة".
هل فشل السبت الأسود نابع من أنّ الجيش عوّل أكثر من اللزوم على الحداثة التكنولوجية على حساب مبادئ عسكرية أساسية؟ من التحليل الذي أوردناه أعلاه يتبين أنّ الفشل، عموماً، لم ينبع من الاعتماد الفائض على الحداثة التكنولوجية. لا تكنولوجية العائق الفيزيائي ولا تكنولوجية الرصد والنيران الموجّهة عن بعد، كانت عامل السقوط، وإنّما الفشل الاستخباراتي الذي لا مثيل له تقريباً. تكنولوجيات العوائق الفيزيائية على حدود غزة معدّة للحماية إزاء توغّلات موضعية لمجموعات كوماندوس. وقد فشلت أمام تهديد مختلف تماماً لم يتمّ توقّعه مسبقاً - ونحن المذنبون. ما فشل عندنا كان المخيلة الإبداعية والقدرة على التكهّن والاستشراف. لنتجرّأ ونفترض أنّه لو جرى التنبّؤ سلفاً بشأن تهديد الاقتحام الجماعي، لما كان الردّ بزيادة سماكة العائق الفيزيائي أو بتحسينه تكنولوجيا، وإنّما بتعزيز الحدود بقوات الجيش، في حال وجود إنذار كاف مسبق. الفشل كان مزدوجاً إذًا: أوّلاً فشل في توقّع طريقة تنفيذ العمليات الهجومية - البرية الذي تحدّث عنه اللواء هرتسي هليفي، وثانياً فشل استخباري من الدرجة الأولى، تحدّث عنه اللواء احتياط، عامي أيلون. وإذا كان يوجد هنا عنصر فشل نتيجة تعويل على التكنولوجيا، فهو يرتبط باعتماد الاستخبارات اعتماداً كاملاً على استخبارات الإشارة ولم يخطر لها أنّ حماس (وليس فقط حماس) تستطيع خلال سنتين، أن تخطط، تتجهّز، تنظّم أمورها وتنفذ عملية عسكرية واسعة النطاق من دون استخدام إشارات الكترونية. قد يكون الجيش، المبني كلّه على اتصالات الكترونية، غير قادر وهو ألقى تبعة قيوده ومحدوديته على العدوّ.
بخصوص القسم الثاني من السؤال - هل الجيش تخلّى عن مبادئ عسكرية أساسية - يبدو أنّ الجواب عن هذا السؤال، إيجابي. الجيش - أو على الأقلّ قوّاته البرية - لم يتميّز أبداً بالانضباط والالتزام، وكلّ من جرّب خدمة الاحتياط، يعرف هذا جيّداً من تجربته الشخصية. نضيف إلى هذا الانتقادات الحادة من جانب اللواء احتياط إسحاق بريك، الذي تحدّث بإسهاب، عدّة مرّات، عن سلسلة الأنشطة الخاطئة في تحضير مخازن الطوارئ لدى الجيش. مع هذا، في هذه المرحلة وصولاً إلى الأمور التي ستتوضّح بالكامل في لجنة تحقيق مستقلّة، يصعب أن نرصد، من بين كل المبادئ العسكرية الأساسية التي انتهكت منذ القدم بفعل تدهور مديد السنوات للجيش من جيش إلى ميليشيا (على الأقلّ في المستويات الميدانية)، يصعب أن نرصد المبدأ العسكري الخاصّ جدّاً الذي شكّل مصدر وأساس إخفاق "السبت الأسود". يمكن أن نفترض أنّه في حال إجراء تحقيق أساسي لملابسات الإخفاق، سيكون ممكناً أن نكشف بدقة المبادئ العسكرية التي أهملت أو انتهكت. وإلى أن تنجلي الأمور يمكن القول بعمومية، إنّ أحد المبادئ العسكرية الأساسية التي اُنتهكت أنّه كان ممنوع الاستخفاف بالعدوّ.
الادعاءات بأنّ الجيش "مخدّر" بتكنولوجيات الحداثة ويستخدمها على حساب الحرفية العسكرية، ليست جديدة. التعليقات بشأن "الارتهان لشاشات البلازما" شاعت أيضاً خلال حرب لبنان الثانية. التجهّز بالتكنولوجيات عالية التقنية عموماً، والتكنولوجيات الدفاعية خصوصاً، اتّهم غير مرة بحرف الجيش عن الطريق العسكري المستقيم. كلام من هذا القبيل طُرح وما زال يُطرح خصوصاً بشأن الاستثمارات في تكنولوجيات الدفاع. برأي كثيرين، الاهتمام بالدفاع - ونجاح الدفاع إلى حين إخفاق "السبت الأسود" - خفّفت ألقَ الروح القتالية لدى الجيش وحرّرت المستوى السياسي من إيجاد "حلّ حقيقي" للتهديد من غزة. بفضل الأمان الذي وفّرته له القبة الحديدة، أراح المستوى السياسي نفسه من إلحاحية تحديد سياسة واضحة مقابل غزة على أساس التزامات بتسويات بعيدة المدى"، يقول المراسل العسكري لإحدى الصحف المهمة في إسرائيل؛ ومؤخراً صرّح مهندس من فريق تطوير القبة الحديدية بقوله "لم نسلّم أنفسنا للقبة الحديدية فقط بل لكل السياسة الدفاعية - تماماً كما نبني سياجاً وننصب كاميرات وتكنولوجيا نوعية"؛ فيما حدد معلق سياسي مشهور قبل عدة أشهر، بعد عملية "درع وسهم" أنّه "بفضل القبة الحديدية، دولة إسرائيل فقدت الرغبة بالانتصار. المشترك بين كلّ هؤلاء المنتقدين هي عدم وضوح الرؤية لديهم بشأن البدائل. هل كان يوجد في الماضي أو هل يوجد الآن "حلّ حقيقي" للتهديد من غزة؟ هل كان يمكن التوصّل مع حماس إلى "تسويات طويلة الأمد؟" هل كان على حكومات إسرائيل أن تعرّض المواطنين للقصف الصاروخي من غزة، وأن يعتادوا على مراسم التشييع الجماعية للقتلى في مدن إسرائيل خلال حرب هجومية لا تتوقّف وضمن تخلّ عن الاقتصاد ورفاهية المواطنين؟.
لا شكّ بأنّ التكنولوجيا تصوغ ميدان المعركة وهي تنتصر في الحروب، هذا ما حصل منذ القدم مع اكتشاف القوس والنشّاب، البارود، الرادار والسلاح النووي. الجيش الذي يكرّس تكنولوجيات موجودة على حساب تكنولوجيات ووسائل قتالية متطوّرة، يشبه الفرسان البولنديين الذين حاولوا مواجهة فرق المدرّعات الألمانية. لا شكّ بأنّ استيعاب تكنولوجيات حديثة في كل جيش ترافقه آلام مخاض، وضرورة التكيّف مع أساليب قتالية جديدة والحاجة لأن يخرج من الخدمة وسائل قتالية وأساليب قتالية كانت ناجعة في الماضي. تغيير كبير كهذا، صعب خصوصاً على قدامى المنظومة الذين كانوا على رأس جيوش منتصرة قبل عشرات السنوات. فهل يمكن تصوّر أنّ جيش اليوم سيواصل استخدام دبابات شرمن، باتون وتسنتوريون من فترة حرب الأيّام الستة؟ وهل أجهزة الاتصال البدائية من تلك الفترة كان يمكن أن تكون ناجعة مثل منظومة "تسياد" الحالية؟.
السؤال الذي طُرح في افتتاحية هذا المقال: "هل أنّ الجيش والنظرية الأمنية الإسرائيلية اعتمدا بشكل فائض على الحداثة والتكنولوجيا على حساب مبادئ عسكرية أساسية" هو سؤال مغلوط من نوع "هل توقّفت عن الإساءة إلى عائلتك". لا تناقض بين الاعتماد على الحداثة والتكنولوجيا وبين المحافظة على مبادئ عسكرية أساسية. الانضباط، نسق تنظيمي، مستويات قيادة متخصصة ومتدرّبة، مبادرة، إبداع وعدم استخفاف بالعدو، كلّها غير مرتبطة بأي تكنولوجيا وهي قيم قديمة العهد لا يمكن لأي قوة عسكرية التصرّف من دونها في أي مرحلة زمنية. النصر، في نهاية المطاف، مرتبط بروح الفرد وكذا هي الهزيمة.
د. عوزي رابين (خبير في شؤون الصواريخ والدفاع الصاروخي) - معهد القدس للاستراتيجية والأمن