خطة طرد الفلسطينيين من غزة استمرار للتطهير العرقي في فلسطين
توفيق المديني

خطة طرد الفلسطينيين من غزة استمرار للتطهير العرقي في فلسطين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
توفيق المديني
ـــــــــــــــــــــ
ليس خافياً على أحد من أنَّ المخطط الأمريكي - الصهيوني يستهدف من خلال حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، تهجير سكانها إلى صحراء سيناء، وتهويد كامل فلسطين، لكنَّ صمود المقاومة الفلسطينية في مواجهة آلة الحرب الجهنمية الأمريكية – الإسرائيلية..
جعل العديد من المراقبين يؤكدون على المكاسب التي حققتها عملية طوفان الأقصى التي قادتها حركة حماس منذ 7 أكتوبر 2023، والتي تجسدت فيما يلي:
لأول مرَّة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني يسقط لدى "إسرائيل" أكثر من 2500 قتيل، ويتم أسر أكثر من 250 من عناصر الجيش الإسرائيلي بينهم رتب كبيرة جداً، وتهجير نصف مليون من المستوطنين الصهاينة، والحصول على كنز معلومات جهاز الموساد الإسرائيلي العسكري والمدني، وإسقاط مقولة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر إلى غير رجعة، وكشف خيانة الغرب لمشروعه الحضاري الذي يدّعي الإنسانية، وإسقاط مخطط التطبيع.. وما يسمى بالإبراهيمية، وإسقاط المخطط المعروف بصفقة القرن وتهجير أهل غزة، وإعادة قضية فلسطين إلى مكانتها المحورية كقضية مركزية للأمة.
في حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني لاقتلاعه من قطاع غزة، وإلقائه في صحراء سيناء، يمثل موقف الكاتب "الإسرائيلي" ايلان بابيه من سياسة التطهير العرقي في فلسطين المحتلة، شجاعةً تحرس نقاء الضمير وإنسانية الموقف. فهو رجل الاستقامة المبدئية الذي ينظر إلى جريمة حرب غزة بمنظور جرائم التطهير العرقي التي مارسها الكيان الصهيوني منذ نشأته في عام 1948.
الكيان الصهيوني والتطهير العرقي في فلسطين
يشير مصطلح التطهير العرقي إلى الإزالة المنظّمة والقسرية لمجموعات عرقية أو دينية من المناطق التي يعيشون فيها. وفيما يتعلق بالتطهير العرقي في فلسطين، فإنَّه بدأ منذ نشأة الكيان الصهيوني في عام 1948، الذي قام بإخلاء السكان الفلسطينيين من أراضيهم عن طريق القتل الجماعي والتهجير القسري، ومحو وإزالة كل ما يثبت الوجود الجسدي والتاريخي والثقافي للشعب الفلسطيني المهجر، وبالتالي محو تاريخهم الثقافي من المنطقة.
وينقض الكاتب إيلان بابيه الرواية الإسرائيلية عن حرب 1948 ليؤكد أن طرد الفلسطينيين لم يكن مجرد هروب جماعي وطوعي للسكان بل خطة مفصلة جرى وضع اللمسات النهائية عليها في اجتماع عقده دافيد بن غوريون في تل أبيب يوم 10/3/1948 بحضور عشرة من القادة الصهيونيين، وتضمنت أوامر صريحة لوحدات الهاغاناه باستخدام شتى الأساليب لتنفيذ "الخطة دال" التي وضعتها "إسرائيل" سنة، 1948، وتحتوي على سلسلة منظمة من وسائل التطهير، التي يتطابق كل منها مع الوسائل الواردة في تعريف الأمم المتحدة للتطهير العرقي، كما أنها تشكّل الخلفية للمذابح التي رافقت مرحلة التخطيط إلى مرحلة التنفيذ النهائية، يشكل حسب هذه التعريفات، حالة تطهير عرقي ثابتة.
وتتمثل هذه الخطة في إثارة الرعب، وقصف القرى والمراكز السكنية، وحرق المنازل، وهدم البيوت، وزرع الألغام في الأنقاض لمنع المطرودين من العودة إلى منازلهم. وقد استغرق تنفيذ تلك الخطة ستة أشهر. ومع اكتمال التنفيذ كان نحو 800 ألف فلسطيني قد أُرغموا على الهجرة إلى الدول المجاورة، ودمرت 531 قرية، وأخلي أحد عشر حياً مدنياً من سكانه. وهذه الخطة، بحسب ما يصفها إيلان بـابـيه، تعتبر، من وجهة نظر القانون الدولي، "جريمة ضد الإنسانية"
الدكتور إيلان بابيه إنسان مثير جداً لا يعرف الخوف ويعتقد أن المؤرخ يجب أن يأخذ موقفاً أخلاقياً وأيديولوجياً، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالتطهير العرقي والعنصرية واقتلاع شعوب من أوطانها. إن الرصانة الأكاديمية، في نظره، ترتبط بكشف الحقيقة عبر بحث تفصيلي موثَّق ولكن الرصانة الأكاديمية لا تعني أن يكون الباحث كلب صيد عند المؤسسة السياسية والعسكرية لبلاده ومحامياً عن جرائم دولته.
مخطط بن غوريون للتطهير العرقي
إنَّ استراتيجية الجيش "الإسرائيلي" خلال حرب 1948، كانت تنفيذاً للخطة التي وضعها دافيد بن غوريون و18 من كبار مساعديه السياسيين والعسكريين. وقد كتب بن غوريون الوثيقة بيده في 10/3/1948 قبل بدء الحرب. وشملت الخطة توزيع فلسطين إلى مناطق جغرافية وأوكل لقادة الهاغاناه مهمة تنفيذها عندما تبدأ الحرب. ولخّص بن غوريون الخطة بكل صراحة، عندما قال: يجب استحواذ الجيش اليهودي على أكبر مساحة من أرض فلسطين مع أقل ما يمكن من الفلسطينيين. وكان واضحاً، أن الاحتلال يجب أن يرافقه الطرد الجماعي للفلسطينيين المحليين، مع أعمال قتل لدفع الناس للرحيل، خوفاً على حياتهم.
ركز بن غوريون عمله على تنفيذ خطة التطهير العرقي ومقاومة المحاولات العربية لمنع اليهود من الاستيلاء على فلسطين، معتمداً على قدرة القوات اليهودية، بدأ تنفيذ خطة تطهير فلسطين من سكانها - الخطة (د) - أوائل شهر نيسان/أبريل من عام 1948م. وقد حددت الأوامر العسكرية لتنفيذ الخطة وهي تدمير القرى العربية وطرد سكانها كي يصبحوا عبئاً اقتصادياً على القوات العربية العامة.
فالقوات البريطانية وقفت تتفرج على أعمال القتل الجماعي والتدمير في مدن حيفا ويافا وصفد وطبرية". في الحقيقة، امتنع البريطانيون عن القيام بأي تدخل جدي منذ تشرين أول / أكتوبر 1947، ولم يحركوا ساكناً بوجه محاولات القوات اليهودية للسيطرة على المخافر الأمامية، كما لم يحاولوا إيقاف تسلل متطوعين عرب بأعداد قليلة. لقد سمحت بريطانيا بحدوث تطهير عرقي جرى تحت سمع وبصر جنودها وموظفيها.. كما أعاقت جهود الأمم المتحدة للتدخل بطريقة كان من الممكن أن تؤدي إلى إنقاذ كثير من الفلسطينيين. أما الأمم المتحدة فلا يمكن تبرئتها من ذنب التخلي بعد 15 أيار عن الشعب الذي قررت تقسيم أرضه وسلمت أرواحه وأرزاقه إلى اليهود، الذين كانوا منذ القرن التاسع عشر يريدون اقتلاعه والحلول مكانه في البلد الذي اعتقدوا أنه ملك لهم.
الحركة الصهيونية وخطة طرد الفلسطينيين من أرضهم
لعب هرتزل دوراً مهماً في بلورة سياسة التطهير العرقي وتهجير السكان الأصليين، إِذْ أنه كان من المعجبين بنيتشيه الفيلسوف الألماني، وتبنى فكرة الرجل الخارق، وربطهما بالعقيدة اليهودية التي تقول: "إنَّ اليهود هم شعب الله المختار"، وحولها إلى فكرة الأمة السوبر أي الخارقة. وكان هرتزل يرى أن الشرط الجوهري لبلوغ الدولة الصهيونية هو استخدام قوة السلاح. وتكشف كتابات هيرتزل النظرية عن تمسكه الشديد بالعنف والقوة. وتشير هذه الكتابات إلى تطور مزدوج للطرفين الصهيوني والعربي، طرف صهيوني سيعتمد على السلاح والعنف الجماعي المنظم، وطرف عربي سيكون "قطيعاً من الوحوش علاجه الوحيد هو الإبادة الجماعية". يقول هرتزل، فمثلاً إذا وجدنا في موقف يتطلب منا تطهير بلد من الوحوش الضارية، طبعاً لن نحمل القوس والرمح ونذهب فرادى بل سننظم حملة جماعية ضخمة ومجهزة ونجمع الحيوانات ونرمي في وسطها قنبلة شديدة الانفجار".
إنَّ الطرد كان من أهداف الحرب، وليس من نتائجها، فقط! ثم إنَّ مذبحة قرية ناصر الدين (قرب طبريا) كانت لدفع عرب طبريا للرحيل، كما كانت مذبحة عين الزيتون (قرب صفد) مقدمة لرحيل عرب صفد، وكما كانت مذبحة دير ياسين قرب القدس مقدمة لترحيل أكثر ما يمكن من عرب القدس.
وعملت الصهيونية على نشر أخبار هذه المذابح، لتصل إلى الفلسطينيين في كل المناطق للتعجيل في الهلع الإنساني من الحرب والقتل، وللرحيل أسرع ما يمكن. وما كان الصهاينة يفكرون به ويخططون له، هو إقامة دولة لهم في فلسطين، للهروب من تاريخ من الاضطهاد في الغرب، وكان السبيل إلى ذلك، هو الاستناد إلى مزاعم توراتية.
وتمتد جذور فكرة التطهير العرقي في فلسطين إلى ولادة الحركة الصهيونية التي ظهرت في ثمانينيات القرن التاسع عشر في أوروبا الوسطى والشرقية كحركة إحياء قومي، أثارها الضغط المتنامي على اليهود في تلك المناطق. وفي بداية القرن العشرين ربط معظم زعماء الحركة الصهيونية بين الإحياء القومي وبين استعمار فلسطين. وكان آخرون، ولاسيما مؤسس الحركة، تيودور هرتزل، أكثر تأرجحاً، ولكن، بعد موته سنة 1904 كان التوجه نحو فلسطين ثابتاً ويحظى بقبول زعماء الحركة.
ولكي يجعل المفكرون الصهاينة مشروعهم يؤتي أكله، ادّعوا ملكية المناطق التوراتية وأعادوا خلقها، بل اخترعوها كمهد لحركتهم القومية الجديدة. وكانوا يعتبرون فلسطين محتلة من قبل "الغرباء" وأنه يجب إعادة امتلاكها. ومعنى "الغرباء" هنا، كل من ليس يهودياً، وكان يعيش في فلسطين منذ العهد الروماني، بل إن فلسطين في نظر العديد من الصهاينة لم تكن حتى أرضاً "محتلة" عندما جاؤوا إليها أول مرة سنة، 1882 بل أرضاً "خالية" وكان الفلسطينيون المحليون الذين يقطنونها غير مرئيين بالنسبة إليهم، وإن رأوهم، فما هم إلا جزء من العقبات الطبيعية التي يجب التغلب عليها وإزالتها، ولم يكن شيء لا الصخور ولا الفلسطينيون ليقف في طريق "استرداد" الأرض التي تشتهيها الحركة الصهيونية.
إن اللحظة التي منح فيها وزير الخارجية البريطاني اللورد بلفور الحركة الصهيونية وعده سنة 1917 بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، قد فتحت الباب على مصراعيه لصراع لا ينتهي، سرعان ما عصف بالبلاد وأهلها.. ولم يكن بالإمكان تحقيق المشروع الصهيوني إلا من خلال خلق دولة لهم خالصة في فلسطين، كملاذ آمن لهم من الاضطهاد. وكمهد لقومية جديدة، وكان لا بد لمثل تلك الدولة أن تكون يهودية حصراً، لا في تركيبها الاجتماعي السياسي وحسب، بل في تركيبها العرقي كذلك.
خاتمة
في مواجهة سياسة التطهير العرقي في فلسطين المحتلة التي تمارس منذ تأسيس الكيان الصهيوني سنة 1948 ولغاية حرب غزة الحالية، لا خيار للشعب الفلسطيني سوى الإصرار على الخيار الاستراتيجي للمقاومة الفلسطينية والعربية، والإبقاء على الأمة حية تقاوم، وتطالب بحقها الطبيعي والقانوني والتاريخي والديني في أرض فلسطين. إنَّه المحور الذي أبقى القضية الفلسطينية حية. أما خيار التسوية بشروط "إسرائيل" و الولايات المتحدة الأمريكية، فهو الهزيمة بعينها للأمة.
في الواقع العربي، هناك خياران يتصارعان، خيار المقاومة وبناء ذات الأمة الديمقراطية بالمعني العصري لهذه الكلمة، وخيار التسوية الذي يرجع عند البعض من العرب والفلسطينيين، أن ينتج حلاً تقبل به الشرعية الدولية. خيار التسوية هذا، لم يعط للشعب الفلسطيني سوى أوسلو، حتى أن كل المشاريع الأخرى للسلام، بما فيها المبادرة العربية تدور حول هذا المحور.
"إسرائيل" لن تقبل السلام، لأن السلام هو النقيض التاريخي لوجودها كبنيية مجتمعية إيديولوجية وسياسية وعسكرية تقوم بدور وظيفي في منطقة الشرق الأوسط.
إن "إسرائيل" كانت مصلحة إستراتيجية أمريكية بامتياز ولا تزال، وستظل كذلك في منطقة الشرق الوسط. ويكمن مصدر قوة هذه الإستراتيجية، في قدرة "إسرائيل" على كسب حروبها مع العرب في السابق. بيد أن استراتيجية المقاومة الفلسطينية بقيادة حماس وحزب الله وكل محور المقاومة كشفت خيانة الأنظمة العربية المستسلمة والتابعة للولايات المتحدة الأمريكية للقضية الفلسطينية، وأكدت أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تغير من موقفها المنحاز بإطلاقية "لإسرائيل" إلا إذا أصبح العرب قادرين على تحرير أرضهم عن طريق المقاومة وبناء ذات الأمة على أسس حديثة.