حاكم.. حالمْ..هائمْ!!!
غسان عبد الله

أول الكلام
حاكم.. حالمْ..هائمْ!!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غسان عبد الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعد أن أعياه التعب تائهاً، عرّج على مكان مجهول، ألقى بجسده تحت شجرة هرمة، متّخذاً من جذعها المتخشّب المتحجّر وسادةً له، وغطّ في نوم عميق. أيقظهُ الجوعُ من غفوته، فراح يجوبُ المكان، باحثاً عن ثمرٍ يقتاتُ منه، أو عشبٍ يؤكل يسدُّ رمَقَ جوعه. تراءت له نخلة، تحتها رُطَبٌ متساقطة، وهداه نظره إلى ساقية شحيحة، فغسل الثمر اليابس، أكل، وحمد الله على نعمته...
دبت طاقة الحيوية في جسده، فهب واقفاً منتصباً يستظلُّ بفروع النخلة الوارفة، وفجأة بدأ يخطبُ ويعلو صوته، معلناً أنه الحاكم!!.. وقد أصدرَ الفرمانَ الأولَ لسلطته، وهو يرغي ويزبد، ويضرب الأرض بقدميه، ثم قال: "اليوم جحافلُ الغزاة يشقّها الغيظ، من مشهد إمبراطوريةٍ عظيمةٍ بنيتُها بمفردي، في الوقتِ الذي عجزتِ الأممُ عن بناءٍ مثيلٍ لها، وقد زينتها بشعاراتِ السلامِ والعطاءِ، وبقوانينَ تحمي هذا المنجزِ العظيم، وتبعدُ عنه خبثَ المتربِّصين الساعينَ إلى إجهاضِ تطورنا وازدهارِ صرحنا الحضاري العظيم...".
وفي حومةِ الخطاب، سقطِ على رأسهِ شيءٌ ما، فزَاغَ بصرُهُ، وتشابكتِ الصورُ أمام عينيه، لكنه تمالك نفسه، ورفعَ يدهُ اليمنى في الهواء، كزعيمٍ يقودُ أمةٍ، وبحماسةِ المتحدي، أكمل هتافه: "إن ساعةَ النصرِ آتيةٌ لا ريبَ في ذلك، وها هو عدونا يبدأ غاراتِه علينا، يقصفنا بالقنابل المسيلة للدموع، وينشر الغازات السامة ساعياً إلى تدمير ثراوتنا ـ مشيراً إلى الساقية الفقيرة ـ ولحرق أرضنا المعطاءة"!!.
يتابع رسْمَ سياسةِ مملكتهِ ويعلنُ تقسيمَ الجيشِ إلى صفوفٍ... وهكذا راحَ يرسُمُ ملامحَ إمبراطوريّتهِ الوليدة، وقد أخذَ على عاتقهِ تنظيم أمور المملكة والرعية، مستعداً لمواجهة عدوٍّ شرس يملك السلاح الأقوى والمتفوّق. ولم ينس أن ينهي خطابه بإعلان تحدي القوات الغازية، متوعداً أن يلحق شعبه بهم أشد العقاب.
عاد إلى الشجرة الهرمة، فاتخذ من جذعها المترهل مسنداً لظهره، وأخذ يضرب أسداساً بأخماس، شعر أن المسؤولية التي التزم بها فوق احتماله، باحثاً عن وسيلة يتملص من وعوده وقراراته.
بعد تفكير طويل لم يجد أفضل من إشاعة أن هناك عدواً آخر يريد الإطاحة بإرادة صموده، ليشغل الناس بمواجهة عدوين في وقت واحد، وبذلك ينقسمون فيما بينهم، كلٌّ يفكر بأيهما العدو الذي يهدد وجود مملكتهم. لكنه بقي حائراً لا يدري صواب رأيه، مرتبكاً لا يعرف كيف ستقوده حكمته إلى قرار ينجيه من مسؤولية الحساب.
وهو في حاله هذا، حل موسم عودة الطيور المهاجرة إلى مساقطها، فجاءت رفوفاً، تُسَّاقِطُ مخلفاتها فوق رأسه، فخُيّل إليه وهو في حالة السرحان والتوهان، أن هناك عدواً آخر يهاجمه بسلاح كيماوي أو غازيّ غريب يكاد يكتم أنفاسه، ما زاد في ارتباكه ونشر الفوضى حوله، في مواجهة تكاثرت عليه من كل حدب وصوب، فأيها سيواجه أولاً؟.. وهو المنكر أصلاً لحقيقة ما يجري، بعد أن أقام بناء مملكته على وهم خادع..
حلّ المساء وغابت الشمس، كان صاحبنا قد استغرق في النوم، وبعد أن هدأ الصخب، واسترخت خلاياه المتعبة، نهض فَزِعاً، وحاول أن يتمالك ويفكر بأمر نفسه، وسرعان ما تحوّل من حاكم على إمبراطورية وهمية، إلى حالم ليس له من الحلم غير خيالات عابرة، ينظُم ويُنْشِدُ ما يشبه قصيدةً متناثرةً شظاياها على مرمى العبثية، بلا معنى ولا سجع، بل كلمات متقاطعة لا رابط بينها ولا فكرة ولا قيمة.. فأنشد:
أشتاق إلى زاد أمي.. وإلى بيت أمي.. أسمع هديراً خلف الأسوار.. هاتفاً، بالروح.. بالدم نفدي المستحيلَ الحالم... لِمْ... لِمْ.....لِمْ... (...)، وما زال حتى هذه اللحظة يضرب في شتات الأرض تائهاً، وينشد أيضاً ما يوازي توهان خطواته.