سياساتُ الغربِ كنتيجةٍ للتّعِصب الثّقافي الغربي (نقد فكر العقل الغربي المؤسس)
نبيل علي صالح

سياساتُ الغربِ كنتيجةٍ للتّعِصب الثّقافي الغربي
(نقد فكر العقل الغربي المؤسس)
نبيل علي صالح
كاتب وباحث سوري
ما زال كثير من الناس عندنا يستغربون أن يدعم الغرب الرسمي والمؤسسي (وفي بعض الأحيان الاجتماعي المدني) الكيان الصهيوني في حربه الدموية الهمجية على فلسطين والفلسطينيين (وعلى عموم العرب والمسلمين)، متناسينَ – على ما يبدو - أن الغرب ما زال (في عمق تفكيره ووعيه للشرق العربي والإسلامي) عنصرياً بامتياز..
وحتى في كتابات وأدبيات كثير من مستشرقي هذا الغرب نقرأ محاولاتهم وصم هذا العالم الشرقي وبالأخص منه عالمنا العربي بالتخلُّف البنيوي والعقم الحضاري، وفي الوقت نفسه ينسبون كل نتاجات الحضارة الغربية (المعنوية والمادية) فقط للحضارة اليونانية أو ما يسمى بالمعجزة اليونانية أو الإغريقية.
طبعاً ليس من الجديد القول إن الحضارات كلها شاركت في نهر الحضارة الإنسانية الكبير.. وليس فقط الحضارة اليونانية لوحدها.. وقناعة كثير من القوى الحضارية والنخب الفلسفية والفكرية والسياسية في هذا العالم البشري الفسيح، بعدم تفرّد وأصالة الحضارة اليونانية، ووجود شواهد وقرائن مادية على وجود تأثيرات حضارية نوعية كبرى لحضارات الشرق القديم على حضارة اليونان، لم يمنع الحضارة الغربية - التي تفجرتْ حداثتُها الفكرية والعلمية قبل نحو قرنين من الزمن - من تأسيس ذاتِها على قاعدةِ الانتماء النّهائي للجوهـر العقلي اليوناني أو ما أسماه الوعي الأوروبي بـــــ "المعجزة اليونانية"، بل اعتبرت نفسها وريثة وحيدة ونهائية لهذا الجوهر، وامتداداً جديداً (إعادة إنتاج وقولبة) لتلك اللحظة العقلية اليونانية (بمواريثها ونتاجاتها) التي صاغت مقدمات الحضارة الكونية وأسسها الذاتية دونما وجود أي تأثير ودور واضح لبقية حضارات العالم الأخرى في ادّعاء ثقافوي نخبوي وصل حدود العنصرية الثقافية والعقلية.
والخطورة الأكبر في هذا الادّعاء التّاريخي، أن تلك النظرة الفوقية الاستعلائية للغرب الحديث باتت – من جهة أولى - هويةً مفاهيمية قارّة لدى الغرب السياسي والثقافي، ثبتّت في الذهنية العامة – وليس فقط النخبوية - خصائصَ ومميزات عرقية وحضارية خاصة بالهوية الغربية جاعلةً منها ثقافة متعالية، متمحورة حول نفسها، قوامها النظر إلى الآخر (خاصة الشرقي) نظرة دونية منذ أيام الفلسفة الإغريقية إلى الآن؛ وشكّلت - من جهة ثانية - محرّضاً ودافعاً قوياً للتبشير والاستشراق الغربي، وبالتالي تمهيد الطريق لولادة عصر الاستعمار الغربي الحديث بكافة أشكاله وألوانه، في توجُّهِهِ لاحتلال دول ونهب مقدرات شعوب واستغلال مواردها، وتحويلها لأسواق ضخمة بهدف استهلاك وابتلاع منتجاته وسلعه، ولاحقاً التحكم في وجودها ومستقبلها ومنع تطورها وازدهارها، على الرغم من شعارات التنوير الظاهري التي يطرحها الغرب، وأنه يؤدي مهمة حضارية "أخلاقية" لتحرير الشعوب الأخرى من الهمجية والتوحش.
والواقع التاريخي للغرب الحديث أكد أنه لا يمكن الفصل بالمطلق بين التبشير والاستعمار والنهب الاستعماري، مهما حاول الباحثُ أن يكون حيادياً وموضوعياً.. حيث أكّدت وأثبتت معظم الدِّراسات النوعية المعمّقة وجود حالة تَعانق وتآزر بين مجمل الحركات الاستعماريَّة والحركات التَّبشيريَّة الّتي كانت تُبارك الفتوحات وتبيح القتل خدمةً للإله أو للرب..!!. وباستقراء حركة الكشوف الجغرافيَّة التي قادها الإسبان والبرتغاليّون يُعثر على أوامر بابويَّة (صادرة عن الكرسي الرسولي في الفاتيكان آنذاك) تمنح للجيوش الحق في استغلال أراضي الكفرة (المتوحشين = الهمج)، والتَّصدي لهم في حالة الرَّفض والمُقاومة (التصدي يعني القتل!). وهذا يعني أن إمكانيَّة التَّواجد الأحاديِّ مسألةٌ غير عقلانيةٍ بالنِّسبة إلى الفكر الغربيّ؛ فالدِّين والغرب شيئان متناظران ومتساويان، حيث إنَّ الغرب أنشأ الدين وعاش تحت عقده وعقيدته، وهو (أي الغرب) الذي أثار القضايا الميتافيزيقيَّة، وحاول فهم العالم وتكيَّف مع الكيانات المتخيَّلة من (آلهة وأرواح وشياطين)، وبارتباط مفهوم الغرب بالجذور الأسطوريَّة للحضارة الإغريقيَّة والرُّومانيَّة؛ فإنَّه يمنح نفسه قوَّة المَعرفة وسُلطتها، وبانتمائه للدّيانتين اليهوديَّة والمسيحيَّة، فإنَّه يُضفي على وجوده طابع القداسة[1].
مع أنّ العقل الذي خلقه الله تعالى وأودعه في الإنسان (أي إنسان) وميزه به (ومن خلاله) عن بقية الكائنات الحية في تكريمٍ وجودي عظيم، بقي هو هو في جوهره وحقيقته، سواء عند إنسان حضارات الشرق القديم أو عند إنسان حضارة اليونان وغيرهم؛ ولكنه في الوعي الغربي بات هناك عقلان، عقل متخلف شرقي لا يتطور، وعقل آخر غربي (يوناني) هو أبو التطور والحداثة.. وهذا سبّبه التعصب الأوروبي للذات العقلية الغربية، ونظرة الغرب العنصرية لباقي حضارات العالم ومجتمعاته؛ وهي نظرة ما زالت تتغذى من عقلية التفوق اليوناني (ما يسمى بالمعجزة اليونانية)، عقلية الرجل الأبيض المبدع والمنتج والخلاق بطبيعته، والرافضة للآخر الذي هو متخلف وهمجي (بربري)، وعاجز بيولوجياً عن تحقيق أي تطور والوصول إلى أي تَحَضُّر. إن البيولوجيا والعلم الحديث يؤكد أن البشرية واحدة[2]، وأنّ العقل واحد لا يتغيّر، (وما يتغير هو الظروف والتربة والدوافع والاستخدامات)؛ وهذا العقل هو الذي استخدمته الأمم الشرقية في الماضي السّحيق، فاستحدثت به (ومن خلال إبداعاته التطبيقية) الصّناعات والعلوم والفنون ولقّنتها لليونان، فأغنتهم عن بذل الجهد والوقت في استكشافها بأنفسهم؛ وفضلاً عن الفنون والعلوم نجد عند الأمم الشرقية القديمة قصصاً دينية وأفكاراً في العالم والحياة إذا اعتبرنا موضوعها ومغزاها رأيناها حقيقة تسمى فلسفية؛ فقد نظروا في أسمى المسائل مثل الوجود والتّغير، الخير والشر والأصل والمصير، فكان التوحيد والشرك، وكانت الثنائية الفارسية، وكانت وحدة الوجود عند الهنود، وكان غير ذلك؛ ولم تخرج الفلسفة فيما بعد عن هذه النظريات الكبرى، بل قد نستطيع أن نجد لكل فكرة يونانية مثيلة شرقية تقدَّمتها أو أصلاً قد تكون نشأت أو نبتت منه[3].
.. وإذا رجعنا إلى اليونانيين أنفسهم فإننا نجدُ لديهم – في بعض متونهم وشروحاتهم الفكرية والمفاهيمية الأساسية المهمة التي وصلتنا - اعترافات واضحة بأسبقية حضارات الشرق القديم وأهمية إنجازاتهم الحضارية المادية والمعنية في شتى أشكال الصنائع والاختراعات والآداب والفنون..
وعلى هذا فقد تحدّث المؤرخ اليوناني "هيرودوت" في القرن الخامس قبل الميلاد، عن عظمة حضارة المصريين القدماء، وتفوقها على حضارة بلاده (اليونان) في كثير من الصّناعات والمجالات والفنون العملية، وذكَرَ ما يدينُ به فلاسفة اليونان وعلماؤهم[4].. بما يعني أن لا مركزية ولا تمركزاً عرقياً بل هو تواصلٌ حضاري وتفاعلٌ عقلي بشري خلّاق ومنتج.. والواقع أنّ التّأكيد على المنابع الشرقية للحضارة اليونانية القديمة لا يُعدُّ بحالٍ من الأحوال تقليلاً أو تصغيراً من قيمة هذه الحضارة ودورها في بناء هيكل الحضارة الإنسانية ككل. فنحن لا نقلّل ولا ننتقص من قيمة حضاراتنا الشرقية وبالذات حضارتنا العربية الإسلامية عندما نعترفُ بتأثرها وتفاعلها الخصب مع بقية حضارات الأمم الأخرى شرقاً وغرباً على السّواء، وفي مقدمتها الحضارة اليونانية القديمة، والتي غدا علماؤها وفلاسفتها أكثر شهرة في العالم العربي والإسلامي، مما كانوا عليه حتى في الغرب الأوربي والعالم البيزنطي في العصور الوسطى[5].. وإذا ما كانَ الوفاءُ واحترام الآخر والاعتراف بالجميل قيماً إنسانية رفيعة في العلاقات الاجتماعية، فإنها تشكّل شرطاً أساسياً لقيام حوار جاد بين الحضارات. ولهذا فإن نظرية "المعجزة اليونانية" تتناقض مع حقائق التاريخ والعلم والعقل، مع حقائق الإنسانية المفكّرة.
واليوم، يمكننا أن نعثر في الغرب على بعض الباحثين والمفكرين الرافضين لمقولة المعجزة اليونانية (وأسبقية العقل اليوناني)، بل يمكن القول بوجود تيار فكري قوي يمضي اليوم في اتجاه إعادة النظر في ما يسمى بـ(المعجزة اليونانية). وهناك محاولات مهمة لكشف الحقيقة، والتي تتصف بالطابع العلمي في تفنيد نظرية المعجزة اليونانية وإثبات المصدر المصري خاصة والشرقيّ عامة، تتمثل فيما كتبه المؤرخ الفرنسي (ألبار يوفتن) والفيلسوف (ألبار بونان) والطبيب (جون برنارد بولاي) والعلاّمة (ماير) و(دنكر) و(روبرتسون )، وغيرهم من المهتمين بالموضوع، فقد رأى (ماير) مثلاً أن المدنية اليونانية لم تبدأ في الرقيّ الحقيقيّ إلا بعد أن احتكّتْ بالشرق في (أيوليا) و(أيونيا) بآسيا الصغرى، بينما ذهب (دنكر) إلى الرأي نفسه حين قرر أنه لم يبق من شيء في مدنية اليونان لم يلحق به تأثير الشرق في آسيا الصغرى، ولا يستثنى من ذلك الدين اليونانيّ الذي اقتبس كثيراً من المعتقدات والأفكار الشرقية. أما (روبرتسون) فيقول في كتابه (تاريخ حرية الفكر) إننا مهما قلبنا وجوه الرأي وأمعنا في البحث، فلن نعثر على مدنية يونانية أصيلة بريئة من التأثر بالحضارات الشرقية، غير أنَّ الإعجابَ الشّديد باليونانيين هو الذي جعلَ جمهرة من أصحاب الرأي تصر على إنكار تأثر حضارة اليونان بحضارات الشرق. وهناك مفكرون آخرون ينتمون إلى هذا التيار الذي لم يؤمن بنظرية المعجزة اليونانية، منهم (جلاديش) و(روث) والبيرفور وجورج سارتون وروجيه جارودي وغيرهم"[6].
لكن ما يحزّ في النفس للأسف، أنه وعلى الرغم من كل نتاجات العقل الإنساني، وتوفُّر إمكانات هائلة للنفاذ إلى حقائق التاريخ والجغرافيا، وبرغم كل تلك الاعترافات لكبار شخصيات الغرب بأهمية الحضارات الشرقية ومدى تأثيرها على الحضارات الأخرى بما فيها حضارة اليونان، ما زال العقل الغربي مرتهناً لأسطورة التّكوين والبدايات بشكل بنيوي خلاصي عميق. فالغرب في بنته العقلية ما زال هو الغرب المجبول بفكرة المعجزة وهو العقل الناتج عن معجزة عقلية وفلسفية عملية لليونان القديم، ولفكرة الإنسانيّة الّتي ظهرت في الحضارة الرّومانيّة، ولأخلاقيّات الكتاب المقدّس والتّجديد البابويّ في القرنين الحادي عشر والثّالث عشر.. وهذا الكلام نلمسه في كثير من الدراسات الفكرية لبعض أقلام الغرب المهمة التي ما زالت تكرس في ذهنية الناس تلك الأفكار النمطية لنقاء الغرب وأصالة حضارته وعدم اقترانها مع أية مؤثرات أجنبية[7]..!!.
وللأسف فقد نجحت تلك الأقلام في تكريس نمط واحد أو قراءة واحدة لحركة التاريخ بأحداثه ووقائعه ومختلف تحولاته وفاعلية الإنسان في مجرياته، وهي القراءة السائدة اليوم، والتي نراها محكومة في أغلب جوانبها بخلفيّة استكبارية ودوافع سياسيّة استعمارية عنصرية، يمكن أن نعتبرها اليوم امتداداً لحركة الاستشراق الغربي لعوالم الشرق بهدف استغلاله ونهبه والتحكم بموارده وعيشه.
على الرغم من استمرار محاولات كثير من نخب الغرب (في مواقع الثقافة والسياسة) – ومن ساعدهم من طبقات سياسيينا ومثقفينا المستغربين والملتحقين بثقافة الغرب دونما وعي ومسؤولية وانحياز لثقافة الأمة التاريخية - الإبقاء على تلك الفكرة الشريرة والمقولة العنصرية التي تناقض مسيرة الإنسان في حركته منذ فجر التاريخ، لا بد من التأكيد – أخيراً - على أن الحضارات البشرية التي عاشت في التاريخ لم تتفرّد أمة أو جماعة بشرية واحدة في صنعها وبنائها وتفجير طاقات أفرادها، بل كانت بمجملها حضارات متراكمة الخبرات والتجارب أسهم فيها الجميع (دون استثناء لأمة أو جماعة)، بما فيهم الحضارة العربية والإسلامية، (بكل ما فيها من مكونات ورؤى ونتاجات عقلية وعاطفية) التي احتوت وهضمت وأعادت إنتاج كثير من ذلك التراث اليوناني والروماني.. بما يجعلنا نقول إن العرب والمسلمين لم يكونوا مجرد وسطاء أو ناقلين لحضارات الآخرين (في الغرب أو في الشرق على السواء) بأفكارها ومعارفها ونتاجاتها؛ بل هم كانوا فاعلين ومؤثرين فيها من خلال ما قدموه من عطاءات جديدة وأيضاً عبر ما أعادوا قولبته وصياغته وهضمه من أفكار ومعارف ونتاجات الشعوب والأمم الأخرى.. وبما يدفعنا للقول إننا أمام تاريخ حضاري إنساني وكوني شامل يجسد – في وعينا له - إسهامات وتراثات كل الشعوب البشرية، ثقافياً وعلمياً.
[1] عبد الرّحمن حسن حنبكه الميدانيّ، أجنحة المكر الثّلاثة وخوافيها، التّبشير- الاستشراق- الاستعمار، دار القلم، دمشق، ط 8، 2000م + مكي سعد الله، مُصطلح "الغَرْب" بين النّشأة الأسطوريَّة والنّهاية الكوسموبوليتيَّة، موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود، الرابط: https://www.mominoun.com/articles، تاريخ المشاهدة 28 /10/ 2019م.
[2] لا يوجد أيّ أساس علمي لنظرية النقاء الحضاري، وقد انتقد كثير من المفكرين الغربيين هذه الفكرة العنصرية ومنهم "جون ام هوبون"، في كتابه "الجذور الشّرقيّة للحضارة الغربية، ترجمة: منال قابيل، مكتبة الشّروق الدّوليّة، 2006م"، ويذهب مؤلّف الكتاب إلى إثبات أنّ الغرب قد استفاد من موارد الشّرق البشريّة والفكريّة لإنشاء نهضته وحضارته.
[3] فارس كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، طبعة مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر/القاهرة، عام 2012م، ص7.
[4] الفلسفة والمدارس الفلسفية المحدثة، سلسلة رقم 19، إعداد الشيخ محمد كامل عويضة، دار الكتب العلمية، لبنان/بيروت، طبعة عام 1995م، ص40.
[5] عادل زيتون، تراث الشرق في حضارة اليونان، مجلة العربي، باب: تاريخ وتراث وأشخاص، العدد 595، حزيران 2008م، ص54.
[6] حسن طلب، أصل الفلسفة (حول نشأة الفلسفة في مصر القديمة وتهافت نظرية المعجزة اليونانية)، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، مصر/القاهرة طبعة عام 2003م، ص16.
[7] يراجع بهذا الخصوص كتاب "فيليب نيمو"، الصادر حديثاً:
Philippe Nemo, Qu'est ce que l'Occident, Editions, Puf, collection Quadrige, Paris, 2013.