الإبادة الإسرائيلية في غزة تحرج الدول الداعمة..

احتجاجات دبلوماسية واعلامية، ومطالبات بوقف العدوان فوراً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ابتسام الشامي

ــــــــــــــــــــــــــــ

بعد أكثر من أربعين يوماً على العدوان الهمجي على قطاع غزة، لم يحصل العدو الإسرائيلي على صورة النصر التي يحتاجها. هالة القوة التي هشّمها طوفان الأقصى صبيحة السابع من تشرين الأول الماضي، لم يقو جيشه على استعادتها بعد..

وحدها صور مجازره بحق الأطفال وتدميره المراكز التربوية والصحية وكل ذي صلة بالحياة، باتت تحاصره وتضغط على داعميه وشركائه في حرب الإبادة التي ينفذها ضد القطاع المحاصر منذ نحو عقدين من الزمن.

احتجاجات أمريكية متنامية

لم يكن اقتحام جيش العدو مجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة، سوى ترجمة عملية لطبيعته العدوانية التي خبرتها فلسطين ومعها دول المنطقة منذ تأسيس الكيان الغاصب، وهي عدوانية وجدت تعبيراتها في الكثير من المجازر التي نفذتها العصابات الصهيونية، ومن ثم الجيش الذي شكّلت تلك العصابات نواته، داخل فلسطين المحتلة وخارجها. ولئن حظيت جرائم العدو بحق الفلسطينيين وشعوب دول المنطقة على الدوام بتغطية غربية بزعم "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، فإن عدم محاسبة العدو على ارتكاباته شجعته على المزيد منها وتطويرها حرباً بعد أخرى، وما يجري في قطاع غزة اليوم ليس سوى النسخة المطورة من الإرهاب الإسرائيلي، المتفلت من أي ضوابط أو قوانين دولية. على أن إمعانه في الإجرام هذه المرة، وتجاوزه للكثير من الخطوط الحمر المتعارف عليها في الحروب، في محاولة استعادة الردع وتيئيس الفلسطينيين ودفع أهل غزة إلى الهجرة من القطاع، بات يرتد عليه سلباً، ويهشِّم صورة "إسرائيل" التي صنعتها لها الدعاية الغربية، ويحرج داعميها على امتداد العالم بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها. وهو ما تظهره بعض المواقف والتحركات الدبلوماسية والقرارات السياسية لحكومات عدد من الدول الغربية. ولعل البارز على هذا الصعيد، ما يجري في أروقة الدبلوماسية الأمريكية، وما يحكى عن حالة امتعاض متنامية من التطورات الجارية في قطاع غزة، لناحية استمرار الحكومة الإسرائيلية في حربها المعلنة على القطاع. وفي هذا السياق قدّم عدد من موظفي وزارة الخارجية الأمريكية مذكرات احتجاج لرؤسائهم، يطالبونهم فيها بممارسة ضغوط جدية على "إسرائيل" من أجل وقف إطلاق النار، وتقديم خطة "لاتفاق سلام" طويل الأمد بين الإسرائيليين والفلسطينيين، تنتهي بإقامة دولة فلسطينية. وقد وصل الاحتجاج الاعتراضي على السياسية الأمريكية إزاء ما يجري إلى استقالة مدير الشؤون العامة والكونغرس في مكتب الشؤون السياسية والعسكرية في الوزارة، جوش بول، قبل أن تسرب الصحف الأمريكية فحوى رسالة مفتوحة، بعث بها، أكثر من ألف موظف في "الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية"، إلى وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، تضمنت دعوة البيت الأبيض للدفع نحو "وقف فوري لإطلاق النار" في قطاع غزة، وأعرب الموقعون على الرسالة⁽¹⁾، ومن بينهم أكثر من 200 يعملون لدى البعثات الدبلوماسية والإنسانية الأمريكية في كل من الأردن، ومصر، والضفة، وغزة، عن "قلقهم وخيبة أملهم حيال الانتهاكات العديدة للقانون الدولي، تلك المتعلّقة بحماية المدنيين، والأطقم الطبية، والإعلامية، إضافة إلى المدارس، والمستشفيات، ودور العبادة".

وفي السياق الاعتراضي ذاته على السياسة الأمريكية، اتهمت مذكرة موقعة من عشرات الموظفين في الخارجية، الرئيس الأمريكي جو بايدن بنشر معلومات مضللة عن الحرب على غزة، والتواطؤ في "الإبادة الجماعية" الجارية في غزة. وإلى ما تقدم كشفت الصحف الغربية ايضا عن تقديم أكثر من اربعمئة موظف في وكالات حكومية أمريكية، رسائل احتجاج على خلفية استمرار دعم الإدارة الأمريكية تل أبيب في حربها.

مشهد الاعتراض المتنامي على الأداء الأمريكي، ما ضمر منه وما خرج إلى العلن من خلال التسريبات الصحافية، دفع وزير الخارجية إلى محاولة احتواء الموقف عبر رسالة بعث بها بلينكن إلى مرؤوسيه في مختلف أقسام الوزارة والبعثات الدبلوماسية الأمريكية في المنطقة وموظفي وكالة التنمية الأمريكية. وفي الرسالة يعترف رأس الدبلوماسية الأمريكية بوجود اتجاهات أمريكية معارضة للسياسية الرسمية المعتمدة من قبل واشنطن. وكتب بلينكن في الرسالة المسربة عبر صحيفة نيويورك تايمز: "أعلم أنه بالنسبة إلى كثيرين منكم، فإن المعاناة الناجمة عن هذه الأزمة لها أثر شخصي كبير، وإن الألم الذي يصاحب رؤية الصور اليومية للرضّع والأطفال وكبار السن والنساء وغيرهم من المدنيين الذين يعانون في هذه الأزمة أمر مؤلم". وأضاف: "بعض الأشخاص في الوزارة قد يختلفون مع الأساليب التي نتّبعها أو لديهم وجهات نظر حول ما يمكننا القيام به بشكل أفضل". ولم يمض وقت على تسريب الرسالة حتى كشف الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية، ماثيو ميلر، عن لقاء بلينكن عدداً "من الموظفين من جميع الرتب ومن مكاتب مختلفة في الوزارة، للاستماع بالضبط إلى ما يفكرون فيه في شأن سياستنا سواء في ما يتعلق بإسرائيل وصراعها مع حركة حماس، أو في ما يتصل بالمنظمات الأخرى".

ومن الاحتجاج الدبلوماسي إلى الاحتجاج الإعلامي، حيث كشفت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية أن "750 صحفياً وقّعوا رسالة تنتقد تغطية وسائل الإعلام الغربية للحرب على غزة، وتدين قتل إسرائيل للصحفيين". وبحسب الصحيفة فإن الرسالة تكشف "الانقسامات والإحباط داخل غرف الأخبار الأمريكية بشأن كيفية تغطية الصراع في غزة". مشيرة إلى أن غرف الأخبار مسؤولة عن الخطاب غير الإنساني الذي يسوغ التطهير العرقي للفلسطينيين.

وفي الدول الأوروبية ايضاً

الدول الغربية التي فضّلت الانسياق الأعمى خلف الكيان المؤقت وتقديم كافة أشكال الدعم السياسي والاستخباري والعسكري له، بما يجعلها شريكة فعلية في العدوان على غزة وفي سفك دماء الأطفال، بدت هي الأخرى مضطرة إلى إعادة النظر في مقاربتها لما يجري في غزة أمام هول ما يرتكبه العدو من مجازر يندى لها جبين الإنسانية، وأمام الحراك الشعبي المتنامي رفضاً لسياستها المنحازة للعدو. في هذا السياق حاول الرئيس الفرنسي بعد شهر من العدوان التمايز في مواقفه، وخلال "المؤتمر الإنساني حول غزة"، الذي استضافته  باريس، في التاسع من الشهر الجاري دعا الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، المسؤولين الإسرائيليين إلى "احترام القانون وحماية المدنيين في غزة، لأنه لا يمكن أن تكون هناك معايير مزدوجة في ما يتعلق بحماية الأرواح البشرية" لكنه في المقابل أعاد التأكيد، مجدداً، أمام المشاركين في المؤتمر على ما سماه "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، مع وصفه فكرة تهجير سكان شمال غزة إلى مناطق جنوب القطاع بالسيئة". ماكرون الذي سبق وأن زار تل ابيب متضامناً بعد أيام قليلة على عملية طوفان الأقصى، وجال في المنطقة مسوّقاً طرح إنشاء تحالف دولي للقضاء على حماس على غرار التحالف ضد داعش، سرعان ما اتصل بنظيره الإسرائيلي موضحاً مواقف أطلقها في مقابلة مع شبكة بي بي سي البريطانية. ونفى الرئيس الفرنسي في اتصال مع نظيره الإسرائيلي اسحاق هرتسوغ، أن يكون قد اتهم "إسرائيل" بإيذاء المدنيين عمداً في غزة. وقد لاقى "توضيحه" هذا ترحيب هرتسوغ.

أما في بريطانيا التي تشهد شوارعها احتجاجات قوية تطالب بوقف الحرب، فقد اضطر رئيس الوزراء ريشي سوناك إلى إقالة وزيرة الداخلية سويلا بريفرمان من منصبها، إثر انتقادها للطريقة التي تعاملت بها شرطة العاصمة لندن مع مسيرة مؤيدة للفلسطينيين.

ومنذ بداية العدوان على غزة تشهد عطلات الأسابيع في بريطانيا، خروج مسيرات ضخمة في ميادين لندن للتنديد بالحرب وقتل المدنيين. وكانت أكبر المسيرات، تلك التي خرجت في الحادي عشر من تشرين الثاني، المصادف ليوم تكريم ذكرى الجنود البريطانيين الراحلين خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية. وقد شارك في تلك المسيرة مئات الآلاف من المتظاهرين.

وبحسب شبكة بي بي سي البريطانية، فقد اتخذ رئيس الوزراء خطوة إقالة بريفرمان مدفوعاً بضغوط متزايدة، بعد مقالة للأخيرة نشرتها صحيفة التايمز في الثامن من الجاري، قارنت فيها بريفرمان بين المسيرات في لندن وبين مسيرات طائفية شهدتها أيرلندا الشمالية أواخر القرن العشرين في أوج صراع قومي عُرف بصراع "المشاكل". واصفة مسيرات لندن بأنها محاولة "لتأكيد الهيمنة من جانب مجموعة بعينها - لا سيما الإسلاميين - من ذلك النوع الذي اعتدنا أكثر على رؤيته في أيرلندا الشمالية".

خاتمة

بعد أكثر من أربعين يوماً على عدوانها الوحشي، التأييد الدولي لدولة الاحتلال على المحك، صحيح أن الاحتجاج على عدوانها لم يرق إلى المستويات السياسية الفاعلة والمقررة في الغرب، لكن الحكومات الغربية باتت محرجة أمام شعوبها، بعدما تبين أن تل أبيب تجاوزت "رد الفعل" على عملية طوفان الأقصى وذهبت نحو تنفيذ إبادة جماعية بحق سكان القطاع، وتطبيق خطة لتهجير من تبقى منهم.

1. جريدة الاخبار، "انقسامات متنامية داخل الإدارة | بلينكن يقرّ: "رمال غزة تغرقنا"، الأربعاء 15 تشرين الثاني 2023.