إعرف عدوك

هل المطلوب مفهوم أمني جديد بعد حدث 7 تشرين الأول؟ ظاهرة الحرب الطويلة

ترجمة وإعداد: حسن سليمان

لقد أثارت كارثة 7 تشرين الأول شعوراً بأن المفهوم قد فشل وأن على إسرائيل أن تتبنى مفهوماً جديداً يقضي بضرورة هزيمة العدو بالنصر الكامل حتى لا يعود يشكل تهديداً. إلى حد ما، حرب السيوف الحديدية هي محاولة للوصول إلى القضاء النهائي على تهديد حماس في غزة، وربما بعد ذلك القضاء على تهديد حزب الله أيضاً.

يصف المقال المفهوم الكلاسيكي للأمن، ويحاول إعطاء إشارات للمفهوم الجديد، ودراسة ما إذا كان هجوم حماس يتطلب تغييراً، وما إذا كان المفهوم الجديد عملياً. فهل تتمكن إسرائيل، التي لم تتمكن من القضاء على أيٍّ من أعدائها بشكل كامل، على الرغم من أنها تسببت في تحول بعضهم إلى طريق السلام، من القضاء على حماس (وحزب الله)؟ فهل الثمن الذي سيتطلبه مثل هذه الحرب الطويلة عملي؟ هل سينجو المجتمع والاقتصاد والدولة من مثل هذا المفهوم الأمني أم أن الفشل في الاستعداد والدفاع في 7 تشرين الأول هو تذكير مؤلم بالواقع الأمني لإسرائيل والإجابة تكمن في تطبيق أفضل للمفهوم الأصلي؟.

لقد كسرت كارثة 7 تشرين الأول العديد من المعتقدات والمفاهيم في المجتمع الإسرائيلي، والحرب التي تخوضها إسرائيل منذ ذلك الحين تختلف عن الحروب الماضية. ولكن هل فشل مفهوم الأمن وأصبح هناك حاجة إلى مفهوم جديد أم أن تحقيق المفهوم فشل في ذلك السبت، بل وأكثر من ذلك منذ ذلك الحين؟.

رأى بن غوريون وجابوتنسكي أن جولات الحرب التي يسحق فيها العدو على الجدار الحديدي، ستجعل دول المنطقة تتصالح في نهاية المطاف مع وجود إسرائيل، وتغير إستراتيجيتها وتختار طريق السلام، كما فعل السادات والملك حسين من بعده. إن الفهم بأن نهاية الصراع لا يمكن فرضها، ولا يمكن تطوير البلاد خلال حرب مستمرة، هو ما دفع بن غوريون إلى مفهوم الأمن، الذي تحقق حتى 7 تشرين الأول 2023.

تطلب المفهوم الأمني الإسرائيلي معالجة مشكلة أساسية: إسرائيل موجودة في منطقة معادية لا تقبل مجرد وجودها، لكنها غير قادرة على الاحتفاظ بجيش كبير بما فيه الكفاية على أساس يومي، كما أنها لا تستطيع أن تتطور اقتصادياً واجتماعياً. الحل لهذا الوضع حتى تشرين الأول 2023 هو أن يكون هناك جيش نظامي صغير يوفر الحل للمشاكل الأمنية المستمرة؛ ومحاولة تأجيل الحروب من خلال تثبيط الأعداء عن ممارسة مقاومتهم الأساسية؛ وأن يرتكز على جيش احتياطي كبير ونشط يتم تعبئته بناءً على إنذار استخباراتي. وبما أن تعبئة الجيش تشل نشاط الاقتصاد الإسرائيلي، فقد كان مفهوم الأمن يدعو إلى حروب قصيرة.

يفترض هذا المفهوم أن إسرائيل لا تستطيع فرض نهاية الصراع على الجانب الآخر، لأنها صغيرة جداً بالنسبة للعالم العربي والإسلامي. هذه هي الوصية الأولى لمفهوم الأمن. لقد خلق هذا النهج ديناميكيات جولات الحرب. إن إسرائيل مقدر لها أن تحشد قواها لحرب كبيرة مرة كل بضع سنوات، لكي تهزم العدو في حرب قصيرة وقوية، وبالتالي تكسب بضع سنوات من السلام النسبي. لقد استخدمت إسرائيل السلام والممتلكات التي اكتسبتها في الحرب (الوقت، الأراضي، الردع، الاستقرار الاستراتيجي) للتحول من دولة فتية صغيرة إلى قوة إقليمية عسكرياً واقتصادياً. والفترات الفاصلة بين جولات الحرب، وهي الحالة الروتينية للمفهوم الأمني، ليست هادئة من الناحية الأمنية. في الواقع، منذ قيام دولة إسرائيل، لا يمر شهر دون وقوع حادث أمني في إحدى مناطق النزاع. – الروتين – هذا هو اسم الوضع الروتيني في الأمن الإسرائيلي، إنه روتين المواجهة المحدودة.

طوال تاريخها القصير، لم تتمكن إسرائيل قط من القضاء على أي تهديد أمني. وبعد عشرة أيام من النصر الأعظم في حرب الأيام الستة، وتفكك الجيش المصري، جددت مصر النار. وحتى النجاح الاستراتيجي، مثل طرد منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان في أعقاب حرب لبنان، لم يُزِلْ العداء الفلسطيني من لبنان، وبالتأكيد لم يُزِلْ تطور وتسريع القوة التي اكتسبها حزب الله. عملية “السور الواقي” واستبدال عرفات بأبو مازن، الذي غير سياسة سلفه في دعم الإرهاب، لم تسفر عن القضاء على الإرهاب الفلسطيني أيضاً. حتى يومنا هذا، يتعين على الجيش الإسرائيلي أن يقوم بعمليات كل ليلة تقريباً لمحاربة الإرهاب الفلسطيني في الضفة الغربية.

لقد استغلت إسرائيل فترات الحياة الطبيعية بشكل جيد وتحولت من دولة صغيرة وضعيفة وفقيرة بالموارد إلى قوة إقليمية في كافة النواحي. وبالإضافة إلى التعزيز الاقتصادي، تعززت إسرائيل عسكرياً أيضاً، فضربت أعدائها مراراً وتكراراً، وكانت الضربة شديدة أحياناً أدّت إلى إضعاف بعضهم وتغيرهم. ولكن، كما كان متوقعاً، فشلت إسرائيل في فرض نهاية للصراع على أعدائها، وكما قال بن غوريون: “لا يمكن أن نخوض معركة نهائية”.

يمكن الاعتقاد أنه إذا كان مقدراً لإسرائيل أن تخوض حرباً من وقت لآخر، فإن كل النشاط الأمني العبثي خلال الفترة العادية غير ضروري ولا يأتي بنتائج، لأنه في النهاية هناك حرب. لكن الوضع الأمني الدفاعي والهجومي المستمر يجعل من الممكن تأجيل الحرب، والحفاظ على مستوى مقبول من العنف خلال الفترة الروتينية.

لماذا تسمح إسرائيل للطرف الآخر بتسليح نفسه أكثر مما يفترض أن يكون مريحاً لها؟ لماذا لا تتحرك قبل أن يتسلح الجانب الآخر؟ الجواب واضح: إسرائيل تستخدم الفترات الطبيعية للبناء والتطوير. ربما كانت الحروب المتكررة قد جعلت من الصعب على أعدائها تعزيز قوتهم، لكنها كانت ستعطي الاستراتيجية الإسرائيلية التي بنيت من فترات الروتين.

إن “إدمان الهدوء” كما يطلق على الرغبة الإسرائيلية في تمديد فترات الروتين أحياناً، عند معارضي مفهوم بن غوريون للأمن، ليس علامة ضعف، بل هو تطبيق لمفهوم الأمن.

إذا كانت إسرائيل غير قادرة على فرض إنهاء الصراع على أعدائها، ومن بين أعدائها من يرغب في العمل ضدها بالعنف، فما الذي يمنعهم من العمل طوال الوقت وتكثيفه بلا حدود؟. إذا كانت إسرائيل غير قادرة على إبقاء جيشها بأكمله معبأً ونشطاً، ويجب عليها الاكتفاء بنواة نظامية صغيرة، فما الذي يمنع أعداءها من مهاجمتها في كل يوم لا يكون فيه الجيش معبئاً؟ لماذا لم يكن كل يوم 7 تشرين الأول؟.

هنا يأتي دور الردع والتحذير

أعداء إسرائيل عادة ما يرتدعون عن شن حرب قوية ضدها، لأن إسرائيل أثبتت لهم أنها أقوى منهم، والحرب القوية ستضرهم أكثر مما هم على استعداد لتحمله. إن الردع يبعد الحروب ويحافظ على مستوى مقبول من العنف الروتيني. لكن الردع ليس من المفترض، وليس من المتوقع أن يمنع الحرب إلى الأبد، ولا حتى يمنع العنف المعتاد بشكل كامل. ووفقاً للمفهوم الأمني فإن الردع ينتهي دائماً بالفشل. وتحاول إسرائيل تعزيز الردع لإبعاد الحرب على أساس أن الحرب ستندلع. وفي الوقت نفسه، تستثمر إسرائيل جهداً متواصلاً في مجال الدفاع، الذي يتمثل دوره في منع الطرف الآخر من إلحاق الضرر بها أثناء الروتين. ومن الواضح أن الدفاع لا يمنع العنف بشكل كامل.

تبذل إسرائيل جهداً كبيراً في مجال الاستخبارات، والغرض الأول منها هو التحذير من نية العدو الذهاب إلى الحرب. وبما أنه من الواضح أنه قد يكون هناك فشل تحذيري، تقوم إسرائيل ببناء نظام دفاع روتيني دوره هو وقف الهجوم حتى في حالة الفشل في التحذير.

يجب على الدفاع الرد على التهديدات القادمة من الحدود والإرهاب في الفترات الروتينية. هذا الدور المزدوج – الحماية ضد أعمال عنف منخفضة الحدة و”بوليصة تأمين” في حالة فشل التحذير – قد يخلق خطأً في فهم مهمة الدفاع وحتى في السيناريو الذي يتم إعداد هذا الدفاع من أجله.

يبدو أن هذا ما حدث يوم 7 تشرين الأول. فشل الجيش الإسرائيلي في إدراك احتمال قيام حماس بغارة كبيرة على المستوطنات المحيطة. ويستعد الجيش الإسرائيلي بشكل روتيني لمنع التسلل، وليس الغزو. وسواء كان الفشل في فهم المعلومات الاستخباراتية، أو في فهم درجة الحماية التي يوفرها الجدار الجديد المبني حول غزة، فإن استعدادات الجيش الإسرائيلي لم تأخذ في الاعتبار اختراق الجدار وحجم الغارة الواسعة.. ولم يكن الجيش مستعداً لهذه الحالة ولم يعدّ الأوامر والإجراءات الروتينية لمثل هذه الحالة. ولم تبنِ (أمان – شعبة الاستخبارات العسكرية) نموذجاً تحذيرياً من مثل هذه الخطوة، وبالتالي لم تحذّر أيضاً. الإعداد الضعيف، وعدم الاستعداد للرد في حالة المفاجأة، سمح لحماس باختراق الحدود وتنفيذ هجوم 7 تشرين الأول بنتائجه الرهيبة. ولكن هل كانت هناك عناصر في هجوم حماس لم يكن لدى إسرائيل القدرة على الدفاع ضدها؟ فهل اكتشفت حماس أدوات عملية لا يمكن لإسرائيل أن يكون لديها رد دفاعي ضدها؟ فهل تم إعداد حماس بطريقة لم تتمكن أمان من اكتشافها؟ المصيبة هي لا!.

هل قام أحد في إسرائيل بتقدير أن وجهة حماس هي نحو السلام؟ فهل فاجأت أحد حقيقة أن حماس لا تزال تعارض إسرائيل وتؤمن بالمقاومة العنيفة؟ هل اعتقد أحد في إسرائيل أن إسرائيل قادرة على ردع حماس إلى حد إجبارها على إنهاء الصراع، خلافاً للوصية الأولى لمفهوم الأمن؟. إن الأضرار الجسيمة التي لحقت بالمدنيين، ومئات المختطفين، وظهور فقدان القوة الإسرائيلية، دفعت إسرائيل إلى خوض الحرب، وفي نهايتها سيكون من الواضح أن حماس ارتكبت خطأ، من أجل تجديد التموضع الاستراتيجي الإسرائيلي في الساحة. ولكن هل حجم الضربة التي تلقتها إسرائيل جعلها فجأة أكثر قدرة مما كانت تعتقد قبل الحرب؟ فهل الفشل الذريع في الدفاع والتحذير جعل إسرائيل قوية إلى الحد الذي يجعلها قادرة على إجبار أعدائها على إنهاء الصراع؟ هل أدى هجوم حماس بفظائعه إلى جعل الجيش الإسرائيلي أقوى حتى يتمكن من القضاء على تهديد حماس من غزة، مع التذكير أن إسرائيل لم تكن قادرة قط على القضاء على التهديدات المحيطة بها؟ هل أدى الضرر الكبير الذي لحق بالمستوطنات المحيطة إلى جعل الاقتصاد الإسرائيلي والمجتمع في إسرائيل قويين إلى الحد الذي يجعل إسرائيل الآن قادرة فجأة على شن حرب طويلة وقوية؟.

لقد دفعت الصدمة والشعور بالتمزق العديد من الناس إلى الاعتقاد بأن هجوم حماس قد حطّم تصور إسرائيل للأمن. أسلوب الردع فشل، ويبدو أن حماس لم تردع. فشل التنبيه. ومن هنا فإن الافتراض القائل بأن إسرائيل لا تستطيع خوض معركة نهائية لم يعد صحيحاً – فمن الممكن خوض حرب للقضاء على حماس، حرب مرة واحدة وإلى الأبد، حرب نهائية، نصر كامل -.

سنحاول صياغة مفهوم بديل للأمن، وهو مفهوم 8 تشرين الأول. ووفقاً لوجهة النظر البديلة، لا يمكن لإسرائيل أن تتجاهل التهديدات الموجهة ضدها. وعليها أن تتحرك بشكل حاسم ومستمر من أجل القضاء التام على أعدائها واستبدالهم بعناصر سياسية تقبل سياساتها وأهدافها الوطنية. وعلى هذا فإن هدف الحرب في غزة لا بد أن يكون القضاء التام على القوة العسكرية لحماس وحل حكمها المدني في القطاع، إلى أن يصبح من الممكن التأكد من أنها لم تعد تشكل تهديداً للمستوطنات المحيطة. ولنتجاهل للحظة العواقب التي لا نهاية لها لهذا المفهوم عند التفكير في تطبيقه على لبنان وعلى الساحات الأخرى. غزة مساحة جغرافية محدودة، وتضاريس تدعم المناورة، كيف يبدو النصر الكامل على غزة؟ السيطرة الكاملة والطويلة في هذا المجال، على الأقل كما هو الحال في الضفة الغربية.

بعد عشرة أشهر من الحرب، احتل الجيش معظم قطاع غزة ودمر عدداً لا يحصى من المباني والبنية التحتية والأنفاق الإرهابية. ولا تزال حماس موجودة وتعمل، على الرغم من أنها غير قادرة على شنّ عمليات عسكرية كبيرة. ولكن من المحتمل أن الطريقة التي استخدم بها الجيش الإسرائيلي قوته كانت خاطئة. وحتى لو تصرف الجيش الإسرائيلي بطريقة مختلفة، فليس من الواضح كيف يمكن القضاء على مقاتلي حماس عندما يقررون الانسحاب والاندماج بين عامة السكان. فكيف يمكن القضاء على جميع مقاتلي حماس وهم الذين يختارون القتال أو الاندماج. وينطبق الشيء نفسه على المباني والبنية التحتية. ولم يشفق الجيش الإسرائيلي على المباني والأنفاق في غزة ولم يرحمها، فقد تم استخدام الأسلحة الجوية والمتفجرات على الأرض بشكل غير مسبوق، وعدد المنازل التي تم تدميرها هائل. وعلى الرغم من الادعاءات بأن الأمريكيين منعوا الأسلحة عن الجيش الإسرائيلي، فقد زودوا إسرائيل أيضاً بعشرات الآلاف من القنابل التي لم تكن بحوزتها في بداية الحرب. هل كان من الممكن تدمير المزيد من البنية التحتية؟.

هل سيتفاجأ أحد إذا ما بعد تحقيق النصر الكامل في غزة وهزيمة حماس، سيستمر التهديد الإرهابي من غزة، وخصوصاً الصواريخ التي سيتم إطلاقها من وقت لآخر؟ هل يمكن منع هذا؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فما فائدة استمرار الحرب بلا نهاية؟.

لقد كان الجيش الإسرائيلي في حالة حرب بمستويات متفاوتة من الشدة لمدة عشرة أشهر. ويقاتل الجنود النظاميون بشكل شبه مستمر، وقد دخلت قوات الاحتياط بالفعل الجولة الثالثة من نشاطها. – المعدات والأدوات تحمل حمولة تتجاوز بكثير ما تم التخطيط له وفقاً للخطط الحربية للجيش – هل من الممكن تقدير أنه من الممكن مواصلة هذا الجهد دون كفى؟ هل هناك حد لمحرك وساعات تشغيل آلة الجيش الإسرائيلي؟ هل هناك علاقة بين إطالة أمد الحرب في غزة وإشكالية الوضع الاستراتيجي في الشمال؟.

يدّعي أنصار الرأي البديل أن وجهة نظر بن غوريون لم تعد توفّر الأمن. ووفقاً لهم، فإن تجنب النصر الكامل ينبع أولاً وقبل كل شيء من الضعف. فهل المفهوم الجديد ممكن من حيث الوسائل والدعم الدولي أم يتم تجاهل الواقع هنا. عندما يُطرح السؤال حول ما يجب فعله حيال نقص السلاح، فإن الجواب مرات عديدة هو أنه كان على إسرائيل تحقيق الاستقلال الميداني. فكيف يمكن شن حرب الآن بأسلحة كان ينبغي لنا أن ننتجها ولكن لا نملكها؟ وكذلك تجاهل الحاجة إلى المساعدات العسكرية والسياسية الأمريكية. هل تستطيع إسرائيل أن تقف وحدها في وجه كل التهديدات المحيطة بنا، العسكرية والسياسية والاقتصادية. فهل ستتمكن إسرائيل من البقاء من دون الدعم الأميركي في الأمم المتحدة؟ هل ستتمكن إسرائيل من النجاة من المقاطعة العالمية؟.

هناك من يُظهر إحساساً رومانسياً بالمصاعب التي تعرّض لها مؤسسو الدولة في حرب التحرير – ثم وقفنا وحدنا -، قليل في مواجهة الكثير. ولكن بعد فترة الهدوء الأولى في حرب التحرير، تمكن الجيش الإسرائيلي الشاب من تعزيز نفسه والوقوف بقوة مساوية بل وأفضل ضد الجيوش المصرية والقوات القادمة من الشمال. وبالمناسبة، لم يتمكن الجيش في الغالب من صد الجيش الأردني المجهز والمنظم. وعلى الرغم من أن إسرائيل انتصرت في حرب التحرير، إلا أنها كانت بعيدة كل البعد عن هزيمة أعدائها وتحقيق النصر الكامل. إن العزم والإيمان مهمان في الحرب، لكنهما لا يضمنان الإنجازات العسكرية. يمكنك أن تشتاق الى صعوبات الماضي، لكن الصعوبات ليست ضمانة للنجاح.

هناك أيضاً أيديولوجية في محاولة تغيير النظرة إلى الأمن. اليمين الإسرائيلي لا يؤمن بالتوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين وليس مهتماً بدولة ثنائية القومية. تجنّب التسوية يعني اختيار حرب لا نهاية لها. وبحسب الوزير سموتريتش، تحتاج إسرائيل إلى مفهوم أمني يتضمن حرباً متواصلة ضد الفلسطينيين حتى هزيمتهم. ومن حيث هذه الأيديولوجية، هناك ميزة لحرب لا نهاية لها هدفها القضاء على التهديد الفلسطيني لإسرائيل.

لقد حدّد المستوى السياسي هدفاً مستحيلاً وفقاً لمفهوم بن غوريون للأمن، وشرع الجيش الإسرائيلي في تحقيقه من دون خطة ومن دون إطار زمني ووسائل. لقد شرع الجيش الإسرائيلي في حرب السيوف الحديدية دون خطة واضحة لما كان يحاول تحقيقه عسكرياً، وكيف، وقبل كل شيء، إلى متى وما هي الوسائل المتاحة له لتحقيق الخطة غير المحددة؟. يجب أن تعتمد الخطة العسكرية على الموارد الموجودة تحت تصرفك، ويجب ألا تخطط على قدرات ومعدات ووقت غير محدد ليس تحت تصرفك.

إن دخول حزب الله إلى الحرب، بالطريقة التي اختارها نصر الله، يوضح عبثية الطريقة التي تدار بها الحرب. يتم إخلاء منطقة بأكملها وهجرها إلى أجل غير مسمى، لأن الجيش الإسرائيلي منخرط في غزة ولا يستطيع تخصيص الموارد اللازمة للساحة الشمالية.

كيف سيكون الوضع الاستراتيجي لإسرائيل إذا انتهت الحرب في غزة الآن باتفاق رهائن ومن دون “ترحيل” حكومة حماس إلى تونس؟ هل سيترك الثمن الباهظ الذي دفعته غزة سبباً للمزيد لدى حماس وبقية أعداء إسرائيل بعد الابتهاج بالانتصار على إطلاق سراح الأسرى وانتهاء “الصمود”. أو أن الثمن الذي سيتحمله قطاع غزة، وربما منع إعادة تأهيلها ما دامت حماس في السلطة، سيكون كافياً لإعادة وضع إسرائيل كقوة عسكرية إقليمية.

هل هناك حاجة فعلاً لمفهوم جديد للأمن؟ مفهوم يتم فيه تدمير كل تهديد خارجي في حرب لا هوادة فيها حتى القضاء عليه؟ يبدو أن القضاء على حماس سيتطلب تسعة أشهر على الأقل. كم من الوقت وكم من الأسلحة والمعدات العسكرية سيستغرق القضاء على حزب الله؟ وبعد حزب الله، ما الذي سيمنع القوات المدعومة من إيران في سوريا والعراق واليمن من مواصلة القتال؟ كيف يبدو القضاء عليهم عسكرياً؟ وأخيراً.. ما الذي يحتاجه الجيش الإسرائيلي للتغلب على إيران وجعلها شريكة في اتفاقيات أبراهام؟.

وفقاً للمفهوم الجديد، لا يمكن الاعتماد على الردع الذي يفشل دائماً. كما أنه لا فائدة من حرب قصيرة لا تقضي على العدو بشكل كامل. وإذا كان هدف الحرب هو النصر الكامل، فمن الضروري بناء القوة لدعم مثل هذا الجهد. كم عدد أيام الحرب التي يجب أن تكون المستودعات جاهزة لها؟ أسابيع أشهر أم سنوات؟.

وفقاً لـ “ظاهرة الحرب الطويلة” يجب على الجيش الإسرائيلي أن يقوم بإعداد وتجهيز القوات لحرب السنوات. فهل سيصمد الاقتصاد الإسرائيلي أمام ذلك؟ هل سيكون قادراً على دعم “أكبر جيش في الشرق الأوسط” (كما حدث بعد حرب يوم الغفران)؟ فهل سيقف المجتمع الإسرائيلي الذي يحمل الاقتصاد على ظهره ويخدم في الاحتياط أمام ذلك؟ فهل ستظل إسرائيل بمثابة “قبلة” للمستثمرين في ظل مثل هذا الهيكل الاقتصادي؟ هل سيتعين على أعداء إسرائيل أن يقوموا بهجوم 7 تشرين الأول آخر أم ينتظرون فقط حتى تنهار ثمار مفهوم بن غوريون إلى الداخل. سيتم تدمير “معجزة” إسرائيل من الداخل. ربما تمتلك إسرائيل جيشاً مجهزاً تجهيزاً جيداً، ولكن ماذا سيحدث للدولة التي تعتمد عليه؟.

حتى لا ننهي الحديث بتصريح غامض مفاده أن مفهوم الحرب الطويلة من أجل النصر الكامل والقضاء التام على التهديد أمر مستحيل وغير واقعي، سنبحث ما كان بوسع إسرائيل، وربما لا زال، أن تفعله وفقاً للمفهوم القديم.

لو كانت هناك حرب سيوف حديدية تدار وفق مفهوم الأمن، فيمكن التفكير في الاستراتيجية التالية (على سبيل التوضيح): سيكتفي الجيش الإسرائيلي بضرب حماس بشدة، وليس كامل أراضي قطاع غزة. مع إنشاء منطقة منزوعة السلاح بالكامل في شمال قطاع غزة. وهي المنطقة التي ستصبح فيما بعد قلب تشكيل حكومة بديلة. كانت إسرائيل ستتوصل مبكراً إلى اتفاق المختطفين مقابل ثمن باهظ يتمثل في إطلاق سراح القتلة وبقاء بعض قادة حماس، ولكن أيضاً تصميم منطقة حدودية جديدة وعائق من شأنه أن يوفر الأمن لعودة السكان إلى المستوطنات المحيطة. وستحافظ إسرائيل على الدعم الدولي وربما تشارك في إنشاء تحالف إقليمي مع المملكة العربية السعودية. كان سيُترك للجيش الإسرائيلي إمكانات كافية ضد حزب الله كان من الممكن أن تمنع الحرب وتساعد في التسوية التي كان من الممكن أن تعيد سكان الشمال.

صحيح أن هذا الحل لا يصف النصر الكامل، وفي النهاية ستستمر حماس في الوجود. لكن الظروف كانت ستتهيأ لتشكيل حكومة بديلة، على الأقل في شمال قطاع غزة، في منطقة ستبدأ بالتعافي بينما سيبقى جنوب القطاع في حالة خراب. من الممكن أن يكون الجيش الإسرائيلي مطلوباً لجولة أخرى من الحرب في جنوب قطاع غزة، ولكن هذه هي أبدية إسرائيل – هكذا كان، وسيكون كذلك -. ومن المحتمل أن ينهار حكم حماس في قطاع غزة المدمر نصفه. والوضع في جنوب قطاع غزة سيوفر لإسرائيل الردع على الأقل حتى الجولة التالية. حرب قصيرة، مجرد جولة أخرى، لكنها عودة إلى الحياة الطبيعية التي كانت ستجعل من الممكن إعادة التأهيل وإعادة الترميم.

تشير الأشهر التسعة الأخيرة إلى أن الألم الشديد ليس ضماناً للقدرة المتخيلة. إسرائيل دولة جزيرة تعتمد على جيش احتياطي. إن الحرب الطويلة ليست حلاً لمشكلة أمنية. ليس من الممكن تحقيق النصر الكامل، ولكنك قد تصل إلى الفشل الكامل إذا سعيت لتحقيق النصر لفترة طويلة دون النظر إلى حدود القوة والاقتصاد والمجتمع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *