إقليميات

هل تراجعت الحرب الشاملة بعد ردِّ حزب الله؟

بقلم توفيق المديني

هذا فضلاً عن مقر قيادة للوحدة 8200، الخاصة بالاغتيالات، والذي سبقه ضرب حوالي 100 طائرة حربية إسرائيلية عشرات المواقع المشتبه بها لإطلاق الصواريخ في جميع أنحاء جنوب لبنان، كان هذا الردُّ بمنزلة أكبر تبادل للضربات بين الجانبين منذ حرب تموز 2006.

كلاهما حزب الله والعدو الصهيوني لا يريدان الدخول في حرب مفتوحة إلا أنَّهما يريدان الحفاظ على قوة الردع. فقد قال وزير الحرب الصهيوني يوآف غالانت: إنَّ “إسرائيل” لا تريد “تصعيداً إقليمياً”. وبالمقابل قال زعيم حزب الله السيد حسن نصر الله إنَّ الحزب لا يزال يقيّم تأثير القصف الذي استهدف المواقع العسكرية والاستخباراتية الصهيونية. لكنَّه قال إنَّه إذا اعتبرنا ذلك نجاحاً، “فسوف نعتبر أن عملية الردِّ انتهت”.

غير أنَّه ما دامت الاشتباكات المتبادلة على الحدود مستمرة، فإِنَّها تحمل في سيرورتها مخاطر عالية للتصعيد العسكري، حيث سيستمر كل من حزب الله والاحتلال الصهيوني في دفع حدود الأهداف المقبولة لمحاولة صياغة قواعد اشتباك جديدة بين الجانبين. ويعتقد المراقبون أنَّ الحرب لا تزال قائمة، بسبب الضغوطات الداخلية في كلا الجانبين. فالحكومة الصهيونية الفاشية بقيادة نتنياهو تتعرض للضغوطات الداخلية من جراء التهجير القسري لحوالي 80000 مستوطن صهيوني، الذين تم إجلاؤهم من شمال فلسطين المحتلة، والذين لم يتمكنوا من العودة إلى ديارهم لمدة 10 أشهر بسبب استمرار الحرب بين المقاومة اللبنانية وجيش الاحتلال الصهيوني. ويعم الإحباط في صفوف المستوطنين الصهاينة، لم يزج بكل قواته العسكرية في الحرب مع حزب الله، ومع دخول السنة الدراسية الجديدة خلال شهر أيلول/سبتمبر المقبل، بدأ هؤلاء المستوطنون يتحدثون عن مغادرة المنطقة إلى الأبد، بعد 11 شهراً من الحرب.

أمَّا حزب الله، وعلى الرغم من نجاحه غير المسبوق في تهجير عشرات الآلاف من المستوطنين الصهاينة بقوة السلاح، فإِنَّه تعرّض أيضاً لخسائر على صعيد استشهاد العشرات من مقاتليه وكوادره وبعض من قياداته الكبيرة، ولعل أبرزها الشهيد القائد فؤاد شكر، إضافة إلى تدمير القصف الإسرائيلي الأهداف المدنية والأراضي الزراعية وآبار المياه في جنوب لبنان، الأمر الذي أضعف بعض القدرات المادية والبشرية لحزب الله.

أنصار حزب الله في لبنان وفي كل البلدان العربية يعتقدون أنَّ حزب الله أصبح الآن في ظل الاستسلام الرسمي العربي الذي يركض وراء التطبيع مع الكيان الصهيوني، القوة العربية الطليعية في المواجهة مع العدو الصهيوني، والحال هذه يجب أن يستمر في ردع هذا العدو، وتدفيعه الثمن الباهظ. فالتصعيد العسكري ضد جيش الاحتلال الصهيوني من شأنه أن يساعد في تحقيق الردع المطلوب، إذْ يحتاج حزب الله إلى بذل المزيد من الجهود لجعل العدو الصهيوني يخشى من ضرب الضاحية مرَّة أخرى.

حزب الله وحرب الاستنزاف المتدرجة

بعد الردِّ الذي نفذه حزب الله ضد الاحتلال الصهيوني، بدأ المحللون الصهاينة يتحدثون عن احتمالية الحرب الوشيكة، فها هو الخبير الأمني والمسؤول السابق في جهاز “الشاباك” موشيه فوزايلوف، ينشر مقالاً في صحيفة “معاريف” الإسرائيلية حمل عنوان “الحرب على الأبواب: إلى أين يتجه الصراع بين إسرائيل وحزب الله؟”، يقول فيه إنَّ ما يجري هو “حالة حرب متدرجة”. وتابع بالقول: “يختبر كل جانب حدود تحمل الجانب الآخر. إذا واصلت “إسرائيل” العمل بنموذج الهجمات الوقائية المحددة، مع الحفاظ على التنسيق السياسي مع الولايات المتحدة والناتو، فهناك فرصة جيدة لتجنب حرب شاملة”. وبحسب المسؤول الإسرائيلي السابق، فإنَّ “الوضع الأمني المتوتر بين إسرائيل وحزب الله يقترب من تصعيد قد يتطور إلى حربٍ شاملة”.

وفي الوقت الذي تريد فيه معظم الأنظمة العربية، تصفية حركات المقاومة  الفلسطينية واللبنانية والحوثية والعراقية، وأن تجعل من التطبيع مع العدو الصهيوني الموهوم والاستسلام الفعلي بديلاً لكل معارك الوحدة والتحرير السياسي والاجتماعي، والمقاومة للاحتلال، وحوّلت التحرير والمقاومة إلى مشروع تسوية استسلامية، فأصبحت التسوية قضية كل العرب، وفوق كل مصالحهم وقضاياهم، بينما يستمر الكيان الصهيوني في استعراض جبروت قوته العسكرية والإفراط في شنِّ حرب الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ 11 شهرا، أشعل حزب الله جبهة الجنوب اللبناني عبر شنِّ حرب استنزاف حقيقية ضد جيش الاحتلال الصهيوني.

إنَّ ما أكدته حرب الاستنزاف هذه لحزب الله في هذا الزمن العربي الذي تبلورت فيه التسوية الاستسلامية، وهيمنتها على السياسة العربية الرسمية، هي أن قضية فلسطين ستظلّ قضية قومية عربية، لا قضية سورية أو فلسطينية. وهذا يعني أنَّ احتلال فلسطين، ليس اعتداءً على فلسطين حدود سايكس بيكو، ولا على سكان فلسطين الذين صورتهم خريطة الاحتلال الصهيوني، إنَّه اعتداءٌ على العالم العربي كله، إذا اعتبرنا العالم العربي واحداً، والأمة العربية واحدةً، وحدود سايكس بيكو وكل حدود الاحتلال الاستعماري.

وإذا كان الكيان الصهيوني قد تمكّن من حرق الأرض العربية متى شاء ذلك، وأن يُحيِّد من الدول العربية أكثرها، فإنَّه لم يستطع أن يصفي المقاومة الرافعة لواء التحرير ودحر الاحتلال في جنوب فلسطين بقيادة حركة حماس، وفي شمال فلسطين بقيادة حزب الله. فلا تزال المقاومة تشكل رافعة حقيقية حين توجه بنادقها ضدّ العدو القومي للأمة، ضد الاحتلال الاستيطاني الصهيوني لأرض فلسطين السليبة، وضد الاحتلال الأمريكي للأراضي العربية على اختلاف مسمياته.

وعلى الرغم من أنَّ الكيان الصهيوني ازداد قوة، بفعل ازدياد التغلغل الأمريكي وتوسعه في العالم العربي، إذ إنَّ سياسة الكيان الصهيوني، كما هي سياسة الإمبريالية الأمريكية، بقاء “إسرائيل” أكبر قوة في المنطقة، وكان هذا يتطلب دائماً: دوام التجزئة واستمرار التنافر بين الأقطار العربية، والتفتت داخل كل قطر، وتفجير الصراعات الطائفية بوصفها ضرورية لبقاء الكيان الصهيوني، فإنَّ المقاومة اللبنانية استطاعت أن تجبر الجيش الصهيوني الذي لا يقهر على الجلاء من دون ثمن.

وها هي المقاومة الفلسطينية الباسلة في غزَّة، والمقاومة اللبنانية التي آزرتها، تؤكدان مرّة تلو الأخرى أنَّ تعريب المقاومة ضد الاحتلال هو طريق التحرير، وبناء الأوطان، والدول المستقلة، ووأد الفتنة الطائفية التي تشكل أعظم فتكاً من الترسانة العسكرية الصهيونية ومعها الترسانة الأمريكية مجتمعتين.

لا تزال حرب الإبادة، التي يخوضها العدو الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني في غزة، هي بشكلها الحقيقي تهدف إلى سحق المقاومة الإسلامية ممثلة بحركة حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله في لبنان سحقاً نهائياً، غير أنَّ حزب الله بادر منذ اليوم الثامن لشهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي لخوض حرب استنزاف حقيقية في الجبهة الشمالية ضد جيش الاحتلال الصهيوني، لمنعه من تصفية حركة حماس. ولم يجد حزب الله سوى ذلك ليؤكد للداخل اللبناني وللرأي العام العربي على أهمية مؤازرة المقاومة  اللبنانية ما بقي الاحتلال الصهيوني في الأراضي العربية، فضلاً عن استيائه من الدعم الأمريكي المطلق للكيان الصهيوني .

في الواقع حزب الله واثق من خطواته ومن قدراته على مستوى الداخل اللبناني. ومن الواضح أنَّ قرار الهجوم على المواقع الصهيونية في ردِّه الأخير، كان محسوباً من قبله قبل أن يكون محسوباً من إيران أو سوريا. وهو قرار نابعٌ من حزب الله ومن داخله كنتيجة استراتيجية داخلية قبل أن تكون استجابة لأجندة خارجية، وإنْ كان ذلك لا ينفي أن تكون أولويات حزب الله في هذه المرحلة متوافقة مع الأولويات السورية والإيرانية، كما أنَّ الدعم اللوجستي والمادي لا يمكن إنكاره في هذه المرحلة وما قبلها.

الدور الأمريكي في هذه الحرب

تلعب الولايات المتحدة، بصفتها الحليف الأهم للكيان الصهيوني، دوراً حاسماً في تصعيد أو تهدئة الوضع. الإدارة الأمريكية في فترة حساسة سياسياً حالياً، مع اقتراب الانتخابات والعديد من القضايا الداخلية التي تشغل البيت الأبيض. تتخوف الولايات المتحدة الأمريكية من توسع الحرب المحدودة بين حزب الله و”إسرائيل” إلى حربٍ إقليميةٍ. فقد أعلنت الإدارة الأمريكية مبكراً تحذيرها للأطراف الإقليمية، قاصدة إيران وحزب الله اللبناني، و”أنصار الله” الحوثيين في اليمن، و”المقاومة الإسلامية” في العراق، من التدخل في الحرب الدائرة في غزَّة.

على الرغم من أنَّ الولايات المتحدة تقول من الناحية النظرية أنَّها مع التهدئة لمنع توسع الحرب، لكنَّها في حقيقة سياستها العملية والواقعية تلعب دور المدافع بإطلاقية عن الكيان الصهيوني، في حال شعرت بالتهديد من قبل محور المقاومة. هذا الموقف يجد جذوره في التقييم الأمريكي الأمني الاستراتيجي لتحديات السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية مثلما عبر عنه بوضوح تقرير “مجتمع الاستخبارات الأمريكي” الصادر في فبراير/شباط 2024. يرى التقرير أنَّ حركة حماس هي أحد مصادر التهديد للأمن القومي الأمريكي ولموقع الولايات المتحدة الأمريكية المتفوق عالميا. فقد جاء في مقدمة التقرير أنَّ النظام العالمي سيكون على امتداد السنوات القادمة هشّاً، وسيشهد تحديات عابرة للقوميات، وصراعات إقليمية متعددة لها ارتدادات بعيدة المدى. وإلى جانب التحديات التي تمثلها كل من الصين وروسيا، يضيف التقرير، أنَّ بعض القوى الإقليمية مثل “إيران، وبعض القوى غير الدولاتية صاحبة القدرة، تتحدى القواعد الراسخة للنظام الدولي والموقع المتفوق للولايات المتحدة فيه.

وفق هذا التقييم فإنَّ موقف الولايات المتحدة يعتبر حركة حماس وحزب الله بأنهما يمثلان تهديداً صريحاً للإستراتيجية الأمريكية في إقليم الشرق الأوسط، التي تقوم على أن يلعب الكيان الصهيوني الدور الريادي في الهيمنة داخل الإقليم. ولهذا اعتبرت الولايات المتحدة عملية طوفان الأقصى التي جرت يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تقويضاً استراتيجياً للهيمنة الإسرائيلية وضرباً غير مسبوق لقدرات الردع الإسرائيلي، ولسياسة التطبيع بين الكيان الصهيوني والعديد من الأنظمة العربية.

من الناحية الاستراتيجية هناك تطابق مطلق بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، حول تصفية حركات المقاومة في الإقليم، لا سيما حركة حماس، وحزب الله أو على الأقل تقويض قدراتهما العسكرية إلى الحدِّ الذي لن يعودَا فيه يشكلان تهديداً للكيان الصهيوني. فحماس وحزب الله يُعَدَّانِ القلب النابض لمحور المقاومة الذي تقف وراءه قوة إقليمية ألا وهي إيران، المتحالفة استراتيجياً مع الصين وروسيا، وتسعى ضمن هذا التحالف الإقليمي والدولي إلى تقويض النظام العالمي الليبرالي الأمريكي المتوحش، واستبداله بنظام دولي جديد متعدد الأقطاب.

وبينما كانت الولايات المتحدة تقود حرب الإبادة الجماعية في غزَّة بواسطة الدعم المطلق للكيان الصهيوني، اقترف هذا الأخير يوم 30 تموز/يوليو2024، جريمتين كبيرتين باغتيال القائد العسكري في حزب الله فؤاد شكر في بيروت، ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران، حيث وضعت هذه الاغتيالات إقليم الشرق الأوسط والعالم أمام احتمال تفجر حربٍ إقليميةٍ مدمرةٍ ذات أبعاد دوليةٍ، لا سيما مع إعلان إيران وحزب الله نيتهما المؤكدة للردِّ على عمليتي الاغتيال المذكورتين، (وقد ردَّ حزب الله بالفعل لاحقاً في 25 أغسطس/آب 2024)، ما يعني أنَّ قدرة واشنطن على إبقاء الصراع محصوراً في قطاع غزَّة، أصبحت محل شكٍ كبيرٍ، وهو ما أعاد تحريك الدبلوماسية الأمريكية للتعامل مع هذا التطور النوعي انطلاقاً من التوصل إلى اتفاقٍ ما بشأن الحرب في غزَّة، دون النظر إلى رغبات الشعب الفلسطيني في إقامة دولته الوطنية المستقلة، وبغض النظر عن مواقف إيران، وهو ما سيؤدي (وفق المنطق الأمريكي) إلى تجنب الحرب الإقليمية الشاملة، واحتواء إيران.

خاتمة: ماذا يمكن أن يحدث في الشهر المقبل؟

سوف تستمر الحرب المتدرجة، حيث يختبر كل طرف حدود تحمل الطرف الآخر. إذا استمر الكيان الصهيوني في العمل بنموذج الهجمات الوقائية المحدّدة مع الحفاظ على التنسيق السياسي مع الولايات المتحدة والناتو، فإنَّ هناك فرصةً جيدةً أن لا يتطور الصراع إلى حربٍ شاملةٍ.

لكنَّ إذا قامت إيران بردِّها القوي على الكيان الصهيوني، فإِنَّ الولايات المتحدة وتحت ضغط “إسرائيل” ستصعّد الموقف عسكرياً بهدف ردع إيران وإرسال رسالةٍ حازمةٍ وواضحةٍ إلى الشرق الأوسط بأكمله: الولايات المتحدة لن تتسامح مع المساس بمصالحها ومصالح حليفها الاستراتيجي الكيان الصهيوني. إنَّ خطر اندلاع حربٍ إقليميةٍ أوسع نطاقاً قد تم تأجيله فحسب، ولم يتم تجَنُّبَهُ، وسيظل معتمداً إلى حدٍّ كبيرٍ على تقدم محادثات وقف إطلاق النار في غزة.

ومع استمرار تعثر مفاوضات وقف إطلاق النار في غزَّة، وتجاوز عدد الشهداء الفلسطينيين في تلك المنطقة 40 ألف، يظل السيناريو الكابوسي المتمثل في اندلاع حربٍ إقليميةٍ تشمل حزب الله في لبنان وإيران هدفاً محتملاً وبشكلٍ مخيفٍ. وفي الوقت الحالي، وعلى الرغم من الاستعراضات المتبادلة في نهاية الأسبوع إلا أنَّ كل الأطراف راغبة على ما يبدو بتجنب الحرب الشاملة.

غير أنَّ التوصل إلى اتفاقٍ مباشرٍ لوقف إطلاق النار تبدو فرصه ضئيلة، في ظل الخلافات حول الوجود العسكري الصهيوني في غزَّة ما بعد الحرب، لا سيما أنَّ نتنياهو يريدُ إطالة أمد الحرب، واسترضاء اليمين المتطرف في حكومته الائتلافية، وتأجيل محاسبته السياسية من جراء الغضب الشعبي الذي يحاول التخفيف منه واتهامات الفساد التي تلاحقه، فقد أصبحت غريزته في الحفاظ على الذات أكبر عقبة أمام الخروج من تبعات الحرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *