فضاءات فكرية

الجوعُ والفقرُ والتّخلف ثلاثية الانهيار المجتمعي في البلدان المنقسمة على ذاتها

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

على الرغم من قشور الحداثة المُزيفة التي تحاول – تلك النظم الرسمية – التغطية بها على الفشل العربي الرسمي في معالجة قضايا الاقتصاد والتنمية التي قادت كثير من تلك الدول إلى الوقوع في براثن الفوضى والفقر والجوع والتخلف المجتمعي العام.

طبعاً، لا شكّ بأننا نحن العرب لا نعيش وحدنا في ظل تلك الأزمات، فالعالم بأسره يعاني من فوضى ومشكلات كبيرة، ولكن أزماتنا نحن لها طابعها الخاص، إذ أن النسبة الأكبر في مسؤولية وجودها وتفجّرها ناجمة عن سياسات نخبها وحكوماتها التي لا همّ لصنّاع قرارها سوى تحقيق المكاسب والمنافع، والبقاء على الكراسي، وتعميق النفوذ والتسلط على العباد، والتوسع في نهب خيرات (وموارد) البلاد.

نعم يمكن القول إن هذه الأزمات العربية المستعصية ما كانت لتولد وتكبر وتتعاظم لولا ما شهدناه ونشهده خلال السنوات الأخيرة من التراجع الكبير والعميق والانحدار السريع في الروح العقلية والمدنية التي تولدت – في الغرب الأقوى وصاحب الهيمنة واليد العليا – من الاعتقاد بالتقدّم والإيمان بسعادة بشرية راهنة وعلى الأرض.. نعم، نحن نعيش اليوم ما يعاكس روح العقلانية والمدنية وقيم الإنسانية التي فجّرتها عصور الحداثة والتنوير في الغرب العقلاني على حساب تعملق وتضخم الذات الغربية الفاوستية التي لا ترى أمامها سوى ثروات العرب ومقدراتهم وطاقاته الهائلة، ولتسقط في سبيل ذلك كل المبادئ والقيم والإنسانيات الكونية.. إنه بالفعل زمن ما بعد الحداثة الأسود المخيم اليوم على العالم كله، بأبشع صوره وأساليبه وآلياته الإجرائية القائمة على الذّرائعية والنفعية الشديدة والذرائعية والعقلانية الأداتية، حولت العالم – وخصوصاً عالمنا العربي – إلى ساحات للقتل والحروب والصراعات المدمرة، وهيأت بلداناً لمزيد من الكوارث المستقبلية اللاحقة المتوقعة.!!

وإذا ما أردنا أن نوثق عملياً ما وصلنا إليه، فلنقرأ التقارير الصادرة عن منظمات عربية ودولية ومراكز دراسات رصينة عالمية حول واقعنا العربي بالذات.. إذْ أنه وفقاً لتقارير عام 2024م (الذي لم يبق منه سوى أربعة أشهر):

1- هناك حوالي 24 مليون جائع في السودان (يموت في هذا البلد الذي كان من المفترض أن يكون سلة غذاء العالم العربي، طفل كلّ ساعتَين بسبب سوء التغذية، ويعاني 24 مليون طفل تضرُّراً، في حين يعاني 730 ألف طفل من سوء التغذية الحاد).

2- وهناك 16 مليون إنسان بحاجة لمساعدات فورية ومباشرة للعيش، في سوريا؛ البلد الذي كان آمناً ومستقراً وممتلئاً بالثروات والموارد، والذي كان يقال عنه أغنى بلد عربي..!!. مع دمار كبير في كثير من مواقع البنى التحتية..

3- وهناك أكثر من 13 ملوني إنسان جائع في اليمن مع تدخلات خارجية وحرب وصراع نشط يأكل الكثير من الموارد.

4- وفي غزة الشهيدة هناك أكثر من مليوني إنسان جائع، مع فقدان الرعاية الصحية، يعني حالة دمار وإبادة جماعية.

5- أما في لبنان فإننا نشهد حالة انهيار اقتصادي كبير..

وهكذا هو الأمر نفسه في بلدان عربية أخرى، حيث يوجد مثلاً في كل من مصر والمغرب وليبيا وموريتانيا عشرات الملايين من الناس الجائعين والمحتاجين لأبسط رمق حياتي.

يحدث هذا كله، في وقت تخزّن فيه البنوك الغربية والأمريكية مئات مليارات (وربما ترليونات) الدولارات العائدة لأنظمة حكم عربية، ونخب ورجال أعمال عرب معدودين على الأصابع، هم أنفسهم قبل غيرهم من تسبّب بحدوث كوارث الجوع والمرض والفقر لمجتمعاتهم، وكانوا السّارق والناهب الأكبر لثروات بلدانهم الغنية جداً بنفطها وغازها ومقدراتها الطبيعية والبشرية الأخرى…!!. وهي سياسات أدت للإفقار والإذلال (إذلال العيش والحاجة)، وتفشي التخلف العلمي والاقتصادي والعَيش الهامشي الطفيلي في هذا العالم..

طبعاً الخطورة الأكبر في موضوع التخلف والحاجة الماسّة للغذاء، والجوع الواقع على تلك البلدان، تكمن في سوء التغذية الواقع على أجساد الأطفال بالذات، فقد قدّر البنك الدولي أنّ مكافحة سوء التغذية على نطاق واسع سيكلّف مليارات الدولار سنوياً. إذا يحتاج الأطفال، حتّى خلال الحروب والأزمات، لبعض التركيبات في الأطعمة الأساسية، التي تحتوي موادَّ الحديد والزنك والفولك، وإضافة اليود إلى الملح، أو استخدام الأرز الذهبي، أو إيصال مبالغ صغيرة إلى الأُسَر النازحة أو الفقيرة التي لديها أطفالٌ رضَّعٌ أو أُمَّهاتٍ حواملَ، أفضل من توزيع الأطعمة وكلفة التوزيع، وعلى الأقلّ يمكن مراقبتها.

إن الموضوع كبير والتحدي خطيرٌ خطير، وبات أكبر من إمكانيات وقدرات دول بلدان لوحدها، وعلاجه يحتاج لتضافر جهود ومقدرات دول ومنظمات دولية كبرى بأكملها.. ولكن كيف يمكن البدء بالحل والعلاج –المفترض أن يكون سريعاً ومستديماً وفعالاً- في ظل الانقسامات التي تشهدها بلداننا في سياساتها وخياراتها وبرامج نخبها وأفرقائها، حتى يكاد ينعدم فيه التعايش والتوافق بين أبنائه، وحيث تتفجر فيها المشكلات بصورة نارية لأتفه الأسباب، وترى الناس ينجرفون من فورهم للارتماء في أحضان طوائفهم وانتماءاتهم ما قبل وطنية (وما قبل حداثية)، التي تمثل لديهم ملاذاتهم الآمنة ومتاريسهم الحامية في مواجهة الأزمات والمشكلات السياسية وغير السياسية؟!. وكيف يمكن البدء بالعلاج في ظل النزاعات والصراعات العسكرية، ووقوع دولنا في أتون التجاذبات الإقليمية والدولية والمنازعة على الزعامة وبع الدور المحوري؟!.

.. كيف يمكن البدء في ظل ما تشهده تلك البلدان من ضعف الإنتاج الزراعي على الرغم من امتلاكها أراضٍ واسعة وصالحة للزراعة.. حيث تنتشر فيها ارتكابات الفساد مع تدني الكفاءة الإدارية والسياسات الاقتصادية، ناهيك عن ضعف الاستفادة من الآليات والتقنيات الزراعية الحديثة، حيث لو تم استغلال هذه الأراضي بشكل أفضل لاستطاعت تحقيق الاكتفاء الذاتي وتلبية حاجاتها من الأمن الغذائي ومنعت الجوع والتجويع عن مجتمعاتها، وقطعت يد الخارج عن التدخل في سياساتها؟!.

نعم يجب أن نعترف أن انتشار ظاهرة الفقر وشيوع التجوع والتخلف في أغلب الدول العربية والإسلامية هو نتيجة لعوامل داخلية بالدرجة الأولى؛ حيث يرتبط الموضوع بالسياسة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية لهذه الدول.. وهي سياسات نخبها الفاسدة والناهبة.. وقد أشار تقرير الأمم المتحدة ومبادرة (أكسفورد) للفقر والتنمية البشرية عن مؤشر الفقر العالمي المتعدد الأبعاد للدول النامية لعام 2019 إلى أن نسبة السُكان الذين يعيشون تحت خط الفقر الوطني بلغ على سبيل المثال في مصر حوالي 28%، وفي العراق 18,9%.. تخيلوا، مصر والعراق، وهما من الدول المهمة للأمن القومي العربي، تعيشان في ظل أزمات اقتصادية متتالية ومتفاقمة.. ويكاد الجوع يأخذ بحوالي نصف السكان فيهما معاً تقريباً..!!.

طبعاً نحن لم نعدم الحلول، ولكن الحلول لا تأتي لوحدها.. ومن الحلول:

– التوزيع العادل للموارد الطبيعيّة، وللأغذية بشكل خاصّ، حيث أن هناك الكثير من المناطق ما زالت من نقصٍ شديدٍ في الغذاء، بينما تنعم مناطق أخرى بكميّاتٍ كبيرةٍ منه تزيد عن حاجتها في كثير من الأحيان.

– رفع الوعي لدى الناس، وخاصةً المترفين منهم بضرورة الاقتصاد في تناول الطعام، وعدم إلقاء نسبة كبيرة منه في القمامة، وتغيير السلوكيات والعادات الغذائيّة المُتّبعة، والتي عن عدم وجود أدنى شعور بالمسؤوليّة، والتعاطف مع أولئك الذين يعانون من الجوع، والفقر الشديدين من كافة مناطق العالم.

– تعاون الناس أفراداً وجماعات في مساعدة الآخرين حول العالم ممّن يُعانون من أزمات غذائيّة شديدة، وخاصّةً في أوقات الأزمات، والكوارث الطبيعيّة.

– الاهتمام بالزراعة، واستصلاح الأراضي، ومُكافحة التصحُّر، فكلُّ هذه الحلول تُساعد في توفير كميّات كافية من الغذاء لكافة المحتاجين حول العالم.

– إبقاء مُعدّلات الإنجاب ضمن المُعدّلات الطبيعيّة، خاصّةً في المناطق التي تُعاني من الفقر الشديد، فالانفجار السكانيُّ في بعض المناطق يُساعد بشكلٍ كبيرٍ في ظهور كافة أنواع المُشكلات، وعلى رأسها المجاعات، ويمكن القيام بذلك من خلال إعداد الخطط التوعويّة، وتوعية الناس بأهمية تنظيم النسل.

– استغلال التقدُّم العلميّ، والتطور التقنيّ الحاصل في تطوير نوعية الغذاء المُقدَّم للناس، وفي زيادة كميّته، حيث يسعى المختصون، والعلماء، والمسؤولون إلى رفع كفاءة التربة، وتحسين علف الحيوانات، وإبقاء المزارعين في أراضيهم، ومنع هجرتهم إلى المدن.

طبعاً نلاحظ على تلك الحلول أنها كلها مربوطة بحبل السياسة والقرار السياسي للدول المعنية.. ومرتبطة بضرورة الإنهاء الفوري للصراعات والحروب التي يتم إشعالها واستغلال حاجات الناس وجراحاتهم فيها.. بمعنى أنه لا حلول مستديمة كما قلنا من دون سياسة وتوافق سياسي وتغيرات سياسية حقيقية سواء في داخل بلداننا أو خارجها في علاقاتها وتعاملاتها مع غيرها.

نعم، نحن نعتقد بقوة أنه لا يوجد حلٌّ حقيقي مستديم لكل ما تقدم من أمراضنا ومشكلاتنا التي باتت عصية على أي علاج، سوى بالبدء الفوري بإحداث التغييرات الداخلية على صعيد مؤسسات الحكم العربي.. لأن صلب موضوع العلاج يكمن فيها.. إذ أن بناء الدولة المؤسسية القانونية التي لا تعتمد في وجودها واستمرارها على أفراد بعينهم ولا على شخوص بذواتهم، هو نقطة البداية.. فالدولة المبنية على سيادة القانون وإحقاق الحقوق وعدم شخصنة الحكم، هي الدول الناجحة والفاعلة والقادرة دوماً على احتواء مشكلاتها ومعالجة أمراضها بلا حروب ولا منازعات ولا تكاليف باهظة.. كما أنها هي أنجح الدول التي بنت وتبني أفضل المجتمعات وأكثرها ازدهاراً وقوة وتقدماً.. وهذا النموذج من البناء الدولتي الحديث نجح نجاحا باهراً في الغرب الحديث، فقد أنتج وصمّم وبنى دولاً وافراداً مواطنين أحرار منتجين ومبدعين وحاصلين على حقوقهم المادية، ومنخرطين بقوة في صنع مصيرهم بقرارهم ووعيهم السياسي الحر والمسؤول.. وفي هذا لعبرة لمن ألقى السمع والبصر والبصيرة وهو شهيد.. ففي حين فشلت تجارب منظومات الحكم “العربية – الإٍسلامية” (الواصل عمرها لقرون عديدة طويلة) في إنتاج صيغ دولتية مزدهرة ومجتمعات منتجة فاعلة وقوية وقادرة، أنتج غيرهم وقدّم الكثير حتى بات ينتج ويطور ويثمر ويحكم ويتحكم ويستحكم بكثير من مفارق الحياة المعاصرة.

وأما عن حالنا، فنحن ما زلنا نعيشُ في واقعٍ عربي تَحْضُرُ فيهِ العاطفةُ ويغيبُ فيه العقلُ… تحضر فيه شهوات الحكم والتسلط والنفوذ وتغيب فيه الأنظمة والقوانين والحقوق، تحضر فيه تدخلات الخارج ومؤامراته، وتغيب فيه توافقات الداخل واتفاقاته، وغالباً ما يكونُ فيه إنسانُنا هو الضحية، إذا يصبح غير متوازن، بل ومشلول الفعل والإرادة والحضور في واقعه نوعياً وكيفياً.. وإنساننا اليوم يبني خياراته والتزاماته على معطيات مزاجية ومؤقتة، غير عقلانية، بحيث يكون شديد التأثر النفسي والعاطفي بالأجواء الطارئة دونما ثبات قيمي رصين ومكين، ويمارس كثيراً من سلوكياته وقراراته بناء على ردود الأفعال والمؤثرات الجانبية بعيداً عن حسابات المنطق والمحاكمات العقلية والعلمية.

أخيراً نؤكد على أن الإنسان في بلداننا لن يكون في مأمنٍ وسلامة (جسدية ومعنوية) ومن ثمَّ في خيرٍ وسعادة مادية ونفسية)، ما لم يُمنح حقوقه وتُؤمّن حاجاته، وتوفّر له شروط (ومقوّمات) الحياة البشرية الفاعلة لينمّي طاقاته ويثمّر مواهبه، ويعطي ويُنتج ويفعل قدراته على طريق التطور والازدهار والفاعلية الوجودية.

وبدورها هذه الأجواء مشروطة أيضاً ببناء دول المؤسسات القوية القادرة (دول المواطنة)، دول الحريات والعدالة، التي يكون للفرد فيها حضوره الحقيقي في البناء والتنمية والإنتاج والمشاركة الفاعلة في صنع القرار والمصير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *