الشعر روحٌ لا عقل.. لأن العقلَ إذا هَامَ ضاع!
بقلم غسان عبد الله
على الرغم من هذا السعار الإعلامي الهائل على سبيل الصورة المرئية إعلامياً، والتسابق المادي الحاد، والعنيف وراء المادة بكل أنواعها وتفريعاتها وفي نفوس القراء والمتابعين والمستمعين، حتى عند أولئك الذين لا يحسنون قراءة الشعر بشكل صحيح، ولا يحبذون حضوره بشكل دائم أو شبه دائم، إلا على سبيل الاستماع، والاستماع فقط، إما مسايرةً للآخرين، أو للترفيه عن النفس في بعض الأحيان..
على الرغم من كل هذا، يبقى الشعر في أولى المراتب محافظاً رونقه القديم مع اختلاف واضح في التعاطي معه. إن هذا الوضع يدل على إصرار هذه الأمة العربية ذات الهوية الواضحة والثقافة المميزة على إبراز بصمتها الذاتية الخاصة بها، كونها أمة كلام، وأمة بيان وبلاغة، وشعب يعشق الفصاحة والإفصاح عن مكنون الصدور حد الثمالة، ويرى أن التفنن في صنوف الكلام من أهم مقوماته الثقافية، كيف لا يكون ذلك، والعرب اسم مشتق من الإعراب، الإعراب عن مكنون الصدور وخبايا النفوس، أقول: على الرغم من كل هذه الثورة التقنية الهائلة التي تجتاح العالم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن أعلى قمم الشمال إلى مجاهل الجنوب.
إن المتأمل في إنسان هذا العصر، يجد أن الروح الشاعرية لديه قد اضمحلت، وضمر لديه الإحساس الإنساني الخلّاق، وأصبح إنسان هذا العصر مثل الآلة، ليس له قيمة في حد ذاته، إلا بالقدر الذي يمكن الاستفادة منه، وهو – أي الإنسان – انقلب على إنسان الأمس وانسلخ عنه، لأن إنسان الأمس كان متعلقاً بأمور غيبية كثيرة، كعبادة الله سبحانه وتعالى حق العبادة، أو التعلق بالآلهة والأوثان، وما شابهها من أمور غيبية لا مرئية من الصعب تصورها. أما إنسان اليوم، فهو لا يعبد إلا المادة، ولا يركع إلا للمال، ولا يؤمن إلا بالاقتصاد، أي أنه يرى ربه ومعبوده الجديد شاخصاً أمامه كأرصدة البنوك والسيارات، وغيرها من ماديات العصر، وعلى هذا الأساس أصبح يرى معبوده أو يكاد يلمسه أو يركبه أو يضعه في جيبه، أي أنه صار يتعامل معه من باب الفائدة والربح والخسارة.
وحتى لا يشطح فكر بعض القراء، حول حساسية الأمور الغيبية، أقول: إن الحكايات والأساطير التي كنا نسمعها عندما كنا صغاراً من الأمهات والجدات قبل النوم لم يعد لها ذلك البريق هذه الأيام، بل لقد ذهبت مع من ذَهَبَ من كبار السن، لأن أبناء هذا الجيل، جيل الانترنت الذين أعملوا عقولهم في التكنولوجيا وتفننوا في مهارات التقنية الحديثة (فايسبوك، تيك توك، انستغرام.. وغيرها).
أقول: إن هذا الجيل لم يعد يهتم بمثل هذه الحكايات الشعبية الجميلة، لأن عنصر التخيل اضمحل لديه، بالقدر الذي اتّسع أفقه العلمي، وتطوّره التقني الفني والمهاري، والشعر خيالٌ لا يعترف بالحدود والأطر الثابتة المحددة بسياقات معينة، ترسم ملامح الأشياء بشكل ثلاثي الأبعاد، أما الخيال التأملي، فلا مجال له عندهم.
الشعر حَدْسٌ يقوم على الخيال، لا فلسفة تعتمد على المنطق والإثباتات العقلية، ومن هذا المنطلق خلط كثير من الناس بين الشعر والمنطق، وما دام الشعر خيال أو نابع من الخيال، انسحب هذا الخلط على الخيال كذلك. المنطق طريق العقلانية، والخيال سبيل التأمل. والمنطق يعتمد على حقائق ومسلّمات وبديهيات، بينما الخيال فضاء ممتد لا يمكن الإحاطة به، والمنطق له حدود يقف عندها، أو الوصول إليها، أما الخيال، فلا يؤمن بالحدود ولا يعترف بالحواجز، ومن الخيال ما هو فوق الخيال، وأعني به عالم ما وراء الطبيعة ويمكن الاستفادة من التأمُّل الفلسفي في الشعر، إذا كان المحرك الأساسي له الخيال، وعندها يكون الشعر توقٌ فلسفي روحاني يهفو إلى حياة روحية سامية متأملة في ملكوت الخيال الإنساني، بعيداً عن شوائب الحياة المادية وأنانيات العصر.
هذا الكلام، يقودنا إلى أن الشعر روحٌ لا عقل، لأن العقلَ إذا هَامَ ضاع، وقد يدمر صاحبه ويدمّر العالم من حوله، أما الروح إذا هامت، فإنها ستبحث عن الجمال. العقل قد يهيم في البحث عن الحقيقة، أما الروح فهي تنشد الجمال.
الطفل حينما يولد، أو حينما يكبر، إلى أربع أو خمس سنوات يكون هاجس الخيال حاضراً لديه بقوة، بل إن العقل لديه مغيب أو شبه مغيب، فنجد أن الخيال عنده قوي، وحاضر معه بقوة، ويذهب به الخيال كلَّ مذهب، ويأخُذُه إلى عوالم لا يدرك حقيقتها أحد، أما العقل فلا ينمو إلا بالمعرفة والتعلم. وعلى هذا الأساس نرى تَغنّي عدد من الشعراء ببراءة الأطفال، لأن هذه البراءة، هي القصيدة الحلم التي لم يكتبها أحد حتى الآن.
الشعر الحقيقي انفعال ثم إمكانية توظيف هذا الانفعال في قالب شعري معين، والنص الأدبي الرائع، ولا سيما الشعري منه، هو ذلك القادر على إيقاظ الروح المخبوءة في نفوس الآخرين وإشعال حرارة الحياة فيهم. والأدب الذي يرضخ للحدود والموانع والحواجز لا يُعدُّ أدباً، إن الأدب المحترمَ هو الأدبُ المنطلقُ الحرُّ في فكرهِ وإبداعِهِ وفي طريقةِ كتابته. والكتابةُ الفوتوغرافية عند الناس والمجتمع لا تُعّدُّ إبداعاً، لأنها خالية من المشاهد النابضة الحية المفعمة بالروح، وبإمكان أي مصور يعمل في أي محل للتصوير، القيام بهذه المهمة خير قيام، لأن هذا النوع أغفل وظيفة الأدب العظيمة، وهي تسليط الضوء على خبايا النفوس، وتشخيص الأشياء الجامدة، وزرع الحياة فيها. وليس غايته تحقق مكاسب إنسانية، أو دفع قيم أخلاقية للشيوع، أو المساهمة في البحث عن حلول لمشاكل الناس، أو القضاء على أزمة الفقر، بل غاية الأدب، والشعر على وجه الخصوص، توسيع الفضاء الروحي لدى الإنسان، والارتقاء بذائقته الفنية، ومحاولة رفعه عن الأرض إلى السماء، واختراق الأجزاء العلوية ما أمكن ذلك الإجراء، والنص الشعري لا يستطيع تحقيق أي غرض مرجو منه ما لم يكن ممتعاً، وفيه نَفَسٌ إبداعي واضح، يرتقي بالذائقة الفنية عن سفاسف ما يُطرح باسم الشعر، وعالم الشعر، والعمل الأدبي لا يصل لهذه الدرجة من النضج، ما لم يستطيع كاتبه سكب شيء من روحه في هذا النص أو ذاك.