دوليات

كوريا الجنوبية.. الرئيس غامر باستقرار البلاد والمعارضة لجمت طموحاته

بقلم ابتسام الشامي

انقلاب فاشل

وضع قرار رئيس كوريا الجنوبية.. بفرض الأحكام العرفية بلاده على حافة الفوضى، ولم يكد يعلنه في آخر ساعة من يوم الثلثاء الماضي مكلفاً جنرالاً عسكرياً بالإشراف على تطبيقه، حتى تداعى أعضاء البرلمان للتصويت على إبطاله، لتنتهي مفاعيل القرار بعد ست ساعات من إعلانه باضطرار الرئيس التراجع عنه مسجلاً بذلك هزيمة سياسية أمام معارضيه، وواضعاً مستقبله السياسي في خطر بعد توجه المعارضة إلى عزله.

قرار فرض الأحكام العرفية الذي شهدت كوريا الجنوبية آخر نسخة منه قبل خمسين عاماً، اتخذه يون سوك يول على خلفية طلب الحزب الديمقراطي المعارض ذي الغالبية البرلمانية، عزل كبار المدّعين ورفض مقترح ميزانية الحكومة. وتبريراً للقرار الذي ذكّر الكوريين بفترة سيئة من تاريخ الحكم العسكري في بلادهم، اتهم الرئيس المعارضة بالانخراط في “أنشطة مناهضة للدولة والتخطيط للتمرد”، واصفاً إياها بالوحش الذي “يدمر النظام الديمقراطي الليبرالي”. ومن دون تقديم أدلة على اتهاماته، كرّر ما ادّعاه سابقاً عن وجود مخطط لدى كوريا الشمالية لزعزعة استقرار بلاده. متهماً الحزب الديمقراطي بالتعاطف مع الأخيرة والانخراط في أنشطة معادية للدولة.

وبعد صدور المرسوم الرئاسي الذي أوكل السلطة لجنرال في الجيش لفترة وجيزة، شقّ الجيش طريقه إلى مبنى الجمعية الوطنية، بعدما أوعز زعيم المعارضة للمشرعين بالعودة إلى المبنى، وبحضور 190 من أعضائه البالغ عددهم 300 صوّت البرلمان على رفع إعلان الأحكام العرفية، جاء ذلك بالتزامن مع حملة تنديد سياسية واسعة بالقرار، ونزول آلاف المحتجين إلى الشوارع اعتراضاً عليه، وبعد ست ساعات من اتخاذه القرار اضطر يول إلى التراجع عنه طاوياً بذلك صفحة من مغامرة كادت تودي باستقرار البلاد وأمنها.

تداعيات الأحكام العرفية

على أن تراجع الرئيس عن القرار لم يُلغِ تداعياته، ومنها ما يتعلق بالمستقبل السياسي له شخصياً. إذ أعلن الحزب الرئيسي المعارض في كوريا الجنوبية أنه سيرفع دعوى قضائية ضدّ الرئيس يون سوك يول وعدد من كبار معاونيه الأمنيين بتهمة “التمرد”. وقال الحزب في بيانه “سنرفع دعوى بتهمة التمرّد” ضد كل من رئيس الجمهورية ووزيري الدفاع والداخلية و”شخصيات رئيسية في الجيش والشرطة متورطة” في إعلان حالة الأحكام العرفية، مشيراً إلى أن المعارضة ستسعى كذلك إلى عزل الرئيس عبر محاكمته برلمانياً.

وفي سياق متصل دعا أكبر اتحاد للعمال في البلاد إلى إضراب عام مفتوح إلى حين استقالة الرئيس، وتعقيباً على أحداث الساعات الست بين صدور القرار والتراجع عنه، اتهم الاتحاد الكوري لنقابات العمال الذي يضم 1.2 مليون عضو، رئيس الجمهورية باتخاذ “إجراء غير عقلاني ومناهض للديموقراطية” وبالتالي فإنه “وقع وثيقة نهاية حكمه”.

ولم يأتِ الاعتراض على القرار من قبل المعارضة وحدها وإنما من حزب الرئيس نفسه، إذ عارضه زعيم حزب يون المحافظ هان دونغ هون، واصفاً إياه بالخاطئ وتعهد بوقفه مع الشعب.

وعلى خلفية فشل ما تصفه المعارضة بالانقلاب على النظام الديمقراطي، قدم عدد من كبار معاوني رئيس كوريا الجنوبية استقالتهم بشكل جماعي. وبحسب وكالة الأنباء الرسمية، فإن معاونين مهمين للرئيس يتقدمهم رئيس ديوان الرئاسة جيونغ جين – سيوك “قدموا استقالتهم بشكل جماعي”.

وزاد قرار فرض الأحكام العرفية ومن ثم العودة عنه، مأزق الرئيس الذي وصل إلى السلطة في عام 2022 قبل أن تبدأ شعبيته بالتراجع التدريجي حتى وصلت في الآونة الأخيرة إلى 25٪ فقط، وذلك بفعل الكثير من التفاعلات أبرزها اتّهامه وزوجته بالفساد. ولعل من أهم التحديات التي واجهت حكمه، سيطرة المعارضة على البرلمان وإعاقتها تمرير المشاريع التي خطط لها. وفي الأسباب المفسرة لاتخاذه قرار فرض الأحكام العرفية، الالتفاف على المعارضة وتحجيم تأثيرها في مشاريعه وقراراته، لكنّ الرفض الشعبي الواسع، بما في ذلك في الأوساط المحسوبة على حزبه، للمس بالنظام الديمقراطي، دفعته إلى التراجع، ما اعتبر هزيمة مُرة له أمام معارضيه من شأنها أن تزيد من مأزقه السياسي.

مواقف دولية

الأحداث في كوريا الجنوبية التي تسارعت وتيرتها خلال ساعات معدودة، استرعت اهتماماً خارجياً برز في المواقف الصادرة عن عدد من الشخصيات الدبلوماسية في دول العالم. وفي هذا السياق، رحب وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن برفع الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية، داعياً إلى “حل سلمي” للخلافات السياسية. وقال بلينكن في بيان حول التطورات الحاصلة في الدولة الحليفة لبلاده، “ما زلنا نتوقع أن تحل الخلافات السياسية سلمياً ووفقاً لسيادة القانون”. وبالتزامن مع بيان بلينكن، نفى البيت الأبيض أن يكون على علم مسبق بفرض الأحكام العرفية. وإذ اكتفت الصين بحثِّ مواطنيها في كوريا الجنوبية على التزام أقصى درجات الحيطة والحذر، قال المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف إن “الوضع مقلق. نحن نتابعه من كثب”، بينما أكد متحدث باسم الأمين للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش متابعة غوتيريش للوضع الذي “يتطور بشكل سريع.

واشنطن وحدود تأثيرها

وعلى الرغم من محاولة الولايات المتحدة الأمريكية النأي بنفسها عن تطورات الوضع السياسي في كوريا الجنوبية، إلا أن علاقة الرئيس بالبيت الأبيض وتعزيز تحالفات بلاده بها، جعلتها معنية بالأحداث وتداعياتها. وفي هذا السياق، اعتبرت صحيفة “الغارديان” أن حدوث انقلاب في، هو الأول بهذا القرن في دولة ديمقراطية ذات اقتصاد كبير، بمثابة نهاية مناسبة لعصر الرئيس الأمريكي جو بايدن. وقالت إن سياسة بايدن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ ضد الصين، كانت تعني احتضان الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول، الذي كان موقفه المناهض للديمقراطية واضحاً دائماً.

وبحسب الصحيفة، لم يُظهر يون أي نوع من المنطق الإستراتيجي، وعلى عكس سوابقه التاريخية، لم يمثل الانقلاب صراعاً بين النخبة من أجل السيطرة على الدولة الكورية الجنوبية. وبدلاً من ذلك، فإن القوة المحركة للأزمة السياسية في كوريا الجنوبية تتلخص في حقيبة يد ماركة “ديور”، التي قبلتها زوجة يون كهدية. وأشارت الصحيفة إلى أن الانقلاب كان مرتجلاً وفوضوياً ومعتمداً على ما يبدو على المقامرة، التي فشل المجتمع المدني في كوريا الجنوبية في تعبئتها في وقت المؤتمر الصحفي غير المعلن، الذي عقده يون، والذي حظر النشاط السياسي بعد ساعتين من منتصف الليل.

واعتبرت الصحيفة أن أحداث يوم الثلاثاء، ستكون بمثابة التشنج الأخير المناسب لسياسة جو بايدن في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وفي حين كان الإنجاز الأبرز لإدارة بايدن في هذه المنطقة هو الاتفاق الثلاثي الأمريكي الياباني الكوري، “جاروكوس”، إلا أن مشاركة يون المتحمسة في الجهود الأمريكية لتعزيز كتلة مناهضة للصين في منطقة المحيط الهادئ الهندية أكسبته احتضان الحكم، لدرجة أن نائب وزير الخارجية الأمريكي، كورت كامبل، قال في شباط الماضي إن “يون يستحق جائزة نوبل للسلام”.

وخلصت صحيفة الغارديان إلى أنه في ظل رئاستي دونالد ترامب وجو بايدن، جرى ترسيخ معيار جديد لحلفاء الولايات المتحدة، التوافق مع النزعة التحريفية الأمريكية هو الأولوية الأولى للولايات المتحدة، ولذلك فإن ميول يون المناهضة للديمقراطية كانت دائماً مسموحة لإدارة بايدن.

خاتمة

اضطر رئيس كوريا الجنوبية إلى إنهاء مغامرة بدأها خلال ساعات معدودة بفرض الأحكام العرفية ومن ثم العودة عنها، لكن مفاعيل ما جرى وتداعياته ستحكم المشهد السياسي في بلاد شهدت خلال عقود طويلة من الزمن استقراراً أمكن معه تحقيق نهضة اقتصادية لافتة، قبل أن تعيد الولايات المتحدة الأمريكية رسم دورها السياسي في إطار المواجهة الواسعة مع الصين، واضعة إنجازات نموذجها على محك الفوضى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *