فضاءات فكرية

هجرةُ الأدمغة واستنزاف الكفاءات والطاقات البشرية العربية

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

تعاني بلداننا العربية من فشلٍ حضاري كبير وخطير فيما يتعلق باستثمارها لقدراتها واستغلال ثرواتها بما يحقق نهضتها وتقدمها، وهو فشل مستمر ومتواصل للأسف، ما زال يؤثر سلباً على حضورها العالمي في السياسة والاقتصاد وغيرها، ويتمظهر في تخلفها العلمي والصناعي الذي يتمظهر في مزيد من استنزاف مواردها الخام، واستمرار تبعيتها للدول الصناعية الكبرى، وحاجتها الدائمة لاستيراد كثير من حاجاتها وبضائعها ووسائلها وتجهيزاتها من تلك الدول الكبرى، على كافة الأصعدة والمستويات.. بحيث أن كثيراً من بلداننا ما زالت غير قادرة عن تحقيق حالة الاكتفاء الذاتي حتى بأقل معاييرها ونسبها..

ولحالة العجز والشلل الحضاري التي طال أمدها، أسبابها ودوافعها، ومنها عدم الاستقرار السياسي، وانفجار الصراعات والحروب الدموية، وهيمنة الاستبداد وشيوع الفساد، وغيرها.. ولكن هناك عامل آخر لا يقل أهمية عن تلك الأسباب، وهو تواصل واستمرار تدفق وهجرة العقول العربية إلى الخارج، وتهجير واستنزاف الكفاءات والطاقات البشرية الرصينة، وهروبها أو لجوئها للدول التي تقدر وتحترم العقول والمواهب، وتعطيها حقوقها وتؤمن لها احتياجاتها ومتطلبات نجاحها وتفوقها..

طبعاً، ليس جديداً هجرة العقول والكفاءات العربية ورحيلها عن بلدانها الأصلية، فالموضوع قديم، ويعود إلى عدة عقود سابقة، وربما بدأ قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، ولكنه تصاعدت وتائره مع اندلاعها، وبدء حدوث تطورات صراعية محلية في داخل بلداننا العربية، وما رافقها من حالة اهتزاز سياسي وأمني وعسكري..

ولا يكاد يوجد بلد عربي إلا ويعاني من هجرة عقوله وكفاءاته العلمية للخارج، إما للدراسة والتحصيل العلمي العالي، أو للعمل في حقول البحث العلمي.. وتقول الإحصائيات إن أكثر من ثلث الكفاءات العلميّة في أفريقيا انتقل إلى أوروبا في ثمانينيات القرن الماضي، وأن كندا والولايات المتحدة من أكثر الدول استيعاباً للعقول والكفاءات المهاجرة، وقد قبلتا خلال الفترة بين عامي1960 و1990 أكثر من مليون مهاجر مهني وفني من مختلف الدول النامية، ومنها وعلى رأسها بلداننا العربية التي يوجد فيها عشرات الآلاف من المبدعين والمخترعين والمكتشفين والعقول النيرة لم يحظَ كثيرون منهم بالتقدير والاحترام وفتح مجالات العمل البحثي والعلمي الحقيقي لهم للإبداع والإنتاج والحضور العلمي الفاعل..

وإذا ما حاولنا إعطاء إحصاءات وبيانات أكثر دقة عن موضوع استنزاف العقول والطاقات العربية وهجرتها إلى الخارج، فسنجد صعوبة بالغة بسبب عدم قيام الحكومات العربية بواجبها على هذا الصعيد، لكن بالعودة إلى ما سجله كثير من الباحثين العرب، ومنهم الباحث المهم أنطوان زحلان يمكن القول بأن أكثر من 70 ألفاً من أصل 300 ألف من حملة البكالوريوس والماجستير من العرب في العام 1996/1995 قد هاجروا، وأنّ عدد المهاجرين من الأطباء العرب عام 2000 فقط بلغ نحو 16 ألفاً.

ووفق زحلان، يبلغ عدد حملة الدكتوراه العرب في الخارج 150 ألفاً، أي ما يعادل ربع حملة الدكتوراه في الولايات المتحدة وثلاثة أرباع حملة الدكتوراه من العرب. أما أصحاب المهن الطبيّة الذين هاجروا إلى أوروبا فتجاوز 15 ألف شخص بين 1999 و2001. وإذا أخذنا في الاعتبار عدد الطلاّب العرب الذين يدرسون في الخارج والذين لا يعودون إلى أوطانهم في الغالب، أمكننا تقدير الحجم الكبير لهجرة الكفاءات العربيّة، إذ في 1996 كان 179 ألف طالب عربي يتابعون دراستهم العليا في الخارج. ويمكن اعتبار مصر وبعدها لبنان وفلسطين والأردن، أكثر الدول العربية تصديراً للكفاءات العلميّة، حيث يعتقد أن نحو ربع مليون عالم عربي موجودون في الخارج، بينهم 800 ألف مصري.

ووصلت تحويلات الكفاءات العلميّة العربيّة العاملة في الخارج حوالي 25,2 مليار دولار عام 2006، وهي تحويلات زهيدة قياساً إلى الخسائر التي يتكبّدها العالم العربي نتيجة هجرة هذه الكفاءات، والتي تقدَّر في بعض الإحصاءات بـ 200 مليار دولار سنوياً، وفي بعض التقديرات قد تعادل قيمة الطاقة الذهنيّة العربيّة التي تحصل عليها الولايات المتحدة وأوروبا من دون مقابلٍ، قيمةَ النفط والغاز العربيّين.

وفي دراسة أجرتها جامعة الدول العربية ومنظمة اليونسكو والبنك الدولي في العام 2016م، قالت بيانات الدراسة بأنه يتم رصد هجرة أكثر من 100 ألف عالم ومهندس وطبيب، من ثمانية بلدان عربية كل عام، منها: مصر، الأردن، تونس، المغرب، الجزائر، العراق، فضلاً عن نسبة كبيرة من الطلاب الذين يدرسون في الخارج، ولم يعودوا إلى بلدانهم الأصلية مرة أخرى، يعني خروج بلا عودة..

من هنا يمكن القول إن استنزاف العقول المبدعة واستمرار هجرتها (أو تهجيرها إذ ليس من المنطق والعقل أن يترك الإنسان بلده إذا ما توافرت له شروط الحياة الكريمة علمياً واقتصادياً وسياسياً) في الدول العربية هي أكبر تحد تواجهه بلداننا التي لم تضع قدمها بعد على طريق التطور العلمي في صورته الصحيحة القائمة ليس على الاستيراد بل على تبيئة العلم وتوطين المعرفة العلمية بكافة جوانبها ومواقعها..

ولا شكَّ بأنّ ضغوط الواقع الداخلي الذي تعيشه الفئات العلمية النيرة، والمتمثلة في أزمات مجتمعاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية المستمرة، إضافة إلى عدم توافر قاعدة علمية بحثية في بلدانها، مع وجود مغريات مادية خارجية، وانعدام الفرص العلمية الحقيقية، وعدم تقدير العقول والكفاءات، كلها تشكل دافعاً محرضاً قوياً لهجرة تلك الكفاءات والعمل خارج أوطانها، حيث تتهيأ لها الأجواء والمناخات المادية والشروط العلمية الملائمة لنمو إبداعاتها الذاتية. ويمكن أن نضرب هنا مثلاً واضحاً على أهمية ما يمكن أن تفعله الظروف المحيطة بالإنسان في توسيع مداركه، وتفتُّح عبقرياته وانبثاق إبداعاته، وهو العالم المصري الراحل الدكتور أحمد زويل الذي حاز على جائزة نوبل في الكيمياء الحيوية منذ أكثر من عقدين زمنيين، فقد عاشَ هذا العالِم الكبير معظم حياته الدراسية المهنية العلمية في جامعات أميركية منذ ستينيات القرن الماضي، عندما كان طالباً في مراحله الجامعية الأولى.. ولو أن زويل بقي في بلده مصر لما تمكن من الوصول إلى ما وصل إليه من إنجازات علمية في مجال علم النانو أو البايوتكنولوجي..

وبناءً على هذه الصورة السوداوية لحالة الاستنزاف والهروب المتواصل للعقول العلمية العربية إلى الخارج، ثمّة أسئلة إشكالية لابد من طرحها:

لماذا تكبر وتتزايد حالة إصرار العقول والكفاءات العلمية العربية على مغادرة بلدانها وعدم العمل فيها رغم حاجة بلدانها إليها للبناء والإنتاج والإسهام في تطورها الحضاري المنشود؟! وما هي الأجواء والمناخات الملائمة لإبقاء تلك العقول في بلدانها، لكي تعمل وتبحث وتطور وتنتج وتقدم وتعطي بما يؤدي إلى ازدهار مجتمعاتها؟! وهل مجتمعاتنا العربية مؤهلة لتأمين ظروف عمل وبحث علمي حقيق لتلك العقول المبدعة؟!.

وإذا تتعدد وتتنوع الأسباب التي تدفع الأدمغة العربية إلى الهجرة، فلابد أن نركز الحديث هنا حول أهمها وأكثرها وضوحاً، وهو العامل السياسي؛ حيث أن غالبية المجتمعات العربية محكومة بنظم أمنية تسلّطية للأسف، تعتاش على مناخ التوتر والتناقض واستدامة الصراعات، مما يسبب لشعوبها أزمات دائمة واضطرابات واهتزازات مستمرة تطال مستقبل الأجيال ومواقع العلم والعلماء التي تحتاج بيئة آمنة حاضنة للإبداع وجاذبة للعقول المبدعة، وهذا عكس البيئة السياسية العربية الطاردة للمواهب والعقول العلمية.. ويضاف إلى ذلك عامل آخر ثقافي أسهمت النخب الحاكمة تاريخياً في تكريسه وتعميقه، وهو أن طبيعة الثقافة التقليدية السائدة في عالمنا العربي، وهي ذات خلفية اتباعية اتكالية تلقينية، تعمل بالنص والمرجعية النصية.. بينما يحتاج البحث العلمي لبيئة ثقافية تتصف بالنسبية والتشكيك واللا يقين العلمي، لأنّ العلم قائم على التجربة والاستكشاف البحثي المادي المعتمد في جوانب كثيرة منه على الأوليات والبديهيات والقبليات العقلية.. ومن الأسباب الطاردة للعقول أيضاً، هناك الأسباب الاقتصادية والاجتماعية القائمة داخل بلداننا العربية والمتعلقة بانعدام تكافؤ الفرص، وعدم وجود فرص عملية تناسب المبدعين.. وعلى هذا المستوى لا نجد أن بلداننا العربية معنية بهذا الجانب، وهو أصلاً ليس موجوداً على أجندتها أو على سلم أولوياتها، كما أنها ليست معنية بالإفادة من الاختصاصات العلمية حتى تهتم بتأمين مجالات عمل لأصحابها، ما يجعل منهم ضحايا للبطالة، خاصةً المقنعة منها. من هنا فإن محاولة العرب استعادة عقولهم المهاجرة مرهون بقدرتهم على الانخراط الجدي في مشروعهم النهضوي العقلاني التقدمي القائم على الحرية والعدالة والديمقراطية والتعددية… أي بإيجاد قاعدة سياسية واجتماعية صلبة يمكن أن تشكل بيئة جاذبة لتلك للعقول والكفاءات الكبيرة.

وللأسف إن هجرة العقول العربية هو مظهر سوداوي من مظاهر أزماتنا العربية المستمرة، وله نتائج كارثية على أوضاعنا ومصائرنا، إذ سيبقي بلداننا في حالة تخلف كبير، لأنه سيزيد من تدهورها التعليمي، وافتقارها للنمو الصناعي والابتكار العلمي وغيرها.

وأما العلاج الجوهري والحقيقي لحالة الاستنزاف تلك، فهو يكمن أساساً في ضرورة إيجاد حل سياسي دائم لمرض السلطة السياسية العربية المزمن، وهو مرض السياسة المستبدة والاستئثار بالحكم والموارد وتجييرها للحفاظ على النفوذ والهيمنة واستمرار النهب.

والعلاج حيوي وضروري من أجل التوصل إلى استقرار سياسي واجتماعي واقتصادي مستديم ودائم على الأرض العربية، لأنّ الأمن والأمان بمعناهما الحقيقي، ما زالا بعيدين عن حياتنا العربية بكافة صورها وعناوينها ومواقعها العلمية وغير العلمية، وهما أساس وقاعدة أي تطور وازدهار مجتمعي، علمي وصناعي واقتصادي وغيرها.