الثقافة والمثقف والعلم
بقلم غسان عبد الله
لا قيمة للإيجابية دون علم، ولا معنى للروح المعطاءة دون ذخيرة معرفية، إن الحركة المسبوقة بعلم تلك التي تستحق أن تزاحم الأفكار والمشاريع التي جوّدت بالعلم، وهذّبت بالمعرفة، وشذّبها الفقه والبصيرة.
إن المشاريع العظيمة التي بلغت الآفاق، وغارت في الأعماق؛ تنطلق من علم ثاقب وبصيرة نافذة، ولذلك كانت أولى رسائل المشروع الإسلامي (اقرأ)، وهي رسالة يعنى بها كل من وضع لنفسه مشروعاً أن يبدأ بالعلم؛ فهو الطاقة الحقيقية لكل عمل إيجابي.
إن المثقف الموسوعي الذي اصطلح العلماء على تعريفه بمن “يعرف شيئاً عن كل شيء” ذلك وحده التي تكون منتجاته ناجحة، ولها رواج رهيب بين الأفكار، وتجد من يتلقفها، ويعجل إلى الاستفادة منها؛ لأنها قيمة ذات معنى غائر، وفائدة عظيمة.
إن الذي عبّ من بحور المعارف، ونهل من ينابيع العلم، وتعددت اطلاعاته، وتنوعت قراءاته؛ فأخذ من كل بستان زهرة، وارتشف من كل غيث قطرة، ذلك الذي بمقدوره أن يلون أحاديثه بأطيب الفوائد، ويزهو كلامه بأجمل المنتقيات، وأجود الفرائد.
إن من تصيخ له سمعك، وتولي لكلامه اهتمامك، ويسترعي أذنك، ويشد انتباهك، ويجبرك على أن تتلقى ما يدلي به عليك بكثير من الحفاوة والترحيب؛ هو العارف الموسوعي، إن العلم أو الثقافة بأي الأسماء سميت فهي مادة واحدة؛ تغذي بها عقلك، وتسري في روح عطائك؛ فتمنحه الحياة والانطلاقة والجودة.
الحياة.. لأن العلم هو الروح الحقيقية التي تعيش عليها الأفكار العملاقة.
والانطلاقة.. لأن العلم يمنحها قوة الانتشار، ويسوّل للأنفس أن تلتقطها وتستغلها.
والجودة أخيراً.. لأنه يعطيها القيمة، ويشبع بها نهم الناس.
وشتان بين إيجابي تسلّح بالعلم، وتزوّد من فيوضه الواسعة، فهو مُهابُ الجانب معروفُ القيمة، يدركُ الناسُ في ماذا يدندن، وحولَ ماذا يتحدث، وبين آخرٍ خواءٌ لا علم لديه ولا بصيرة؛ فهو لا يعدو أن يكون غثاً من القول، وحِمْلاً على الناس وعالةً، وإضافة لا شيةَ فيها.
﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ طه 114، لعله يكون خطاباً إلهياً ممن صنع ملكات الإنسان في أحسن تقويم، وهو أعرف بما يحضّها للإبداع، ويؤزّها في سبيل الإنتاج المثمر.
إنه العلم، تزوّد منه بلا توقف، وعبّ من معينه الذي لا ينضب دون كلل، ولا تفوّت فرصة واحدة؛ تثريك معرفة، وتغنيك علوماً؛ فهو مولد الإبداع، وماكينة التميز والعلاقة الفارقة لحجم المشاريع المتعددة بين غث وسمين.
سئل أحدُ العلماء: من أحوج الناس إلى العلم، فقال: أعلمهم، فقيل له: ولماذا؟ قال: لأن الخطأ منه أفدح.
انظر لهذا العالم وهذا الجهبذ كيف علم أن التزود من هذا المعين لا نهاية له، وأشد ما يحتاج إليه المرء عندما يتقدم فيه، ويمعن أكثر.
كلما ازددت علماً *** زادني علماً بجهلي
إن قضاء الأوقات مع الكتاب في رحلة زاهية تنتهي إلى مزيد من التفتح على أبواب المعرفة والإبداع خير من ضياع الأوقات فيما لا نفع فيه، بل أجدى من إهدارها في التفكير غير المنتج، وتفريغ الطاقة فيما لا يجدي.
اعقد صحبة مع الكتاب لا تنتهي إلى الندم، اربط وقتك مع هذا الجليس الذي لا يمل، فضّله على صحبك ممن يسرقون أوقاتك في سفساف الأمور وصغائرها، امنحه تأشيرة الدخول إلى قلبك، وليتربع على عرشك، وليقد زمامك، ويجمع عليك أمرك.
بدل أن تستنزف أوقاتك مع قطّاع الطريق من الصحب الفارغين والجلساء اللاغين الآخذين بحقير الأمور ووضيعها؛ فيخبو نار تحرقك على وقتك، فتدمن مجالسهم، وتسيل دمع الأسى على إيجابيتك.
إن العلم – يا صاحبي- إذا ما لزمته، والتزمته قويت به حجتك، وأكسب لسانك بلاغة فائقة المعنى والمبنى، وجوّد لك أفكارك، ودسّم كلامك، وأثرى حديثك، وأغنى فهمك، ومنح شخصيتك القوة والصلابة، وقراراتك الصحة والإصابة.
لا غنى للإيجابي الذي يحلق في هذه السماء العليا عن هذا الجناح الذي لا يطير بفكره إليها إلا به، ولا يشبع نهم طموحاته الجارف إلا الثراء الذي يمتلكه العلم، ولا يجب شأفة النفس وحظها من الرعونة والكبرياء إلا العلم.
فهو البصيرة النافذة والخبرة الحاذقة، والكلمة الصادقة والحجة البالغة، والبرهان الذي يفحم، والدليل القاطع، والآية الشاهدة، والدلالة الواضحة، والروعة التي تزين صدر الكلمات، والحكمة البليغة التي تقوى بها العبارات.
إن الكاتب المثقف صاحب الاطلاع الواسع؛ ذلك الذي يملك الكلمة الرشيقة التي تخف على السمع، وتسمن في العقل، وتستثير كوامن النفس، وهو صاحب العبارة النافذة التي يستلذ بها الخاطر، ويجتلي فيها الجمال، وتسري في أعماقها الروعة والجلال.
وإن الخطيب المثقف الذي لا يتأتئ عند كلامه؛ فهو منطلق متعمق متنوع غني ثري رائع ذائع مبدع مغدق مثمر، له حلاوة منطق، وطلاوة متنمق، لا يتشدق، ولا يتفيهق.
وإن المؤلف المثقف ذلك الذي ينبري لكتابة أجود الآراء دون حشو ممل، ويختار لمؤلفه أعبق الأفكار وأغدقها دون عشوائية متخبطة؛ يبدو منها وهج النوعية في أحشاء الفوضى اللغوية والخبط من كل مكان.
وإن المفكر المثقف ولأنه عدّد قراءاته، ونوع معارفه، ووسع مداركه؛ تجده ملماً بالموضوعات عارفاً بها مهما تلونت وتشعبت لا تشكل عليه ولا تستعصي، ناهيك عن الغور في بطون الأفكار والمعارف، وقد أسهب في معرفتها، وأمعن في تناولها، وها هي الآن تنكشف بين يديه وعقله الناقد؛ يسبر أعماقها، ويمخر عبابها.