الإمامُ عليٍّ(ع) وحِياكة السّياسة بِمسَلّة التّقوى والعَدل
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
جاءَ إلى الحُكم محاولاً تقديم رؤية ونموذج سياسي مختلف عن سابقيه في إدارة دفّة الدولة وتأمين شؤون الناس والمجتمع، وهو الذي كان يقف دوماً (حتى في معارضته الإيجابية لنهج غيره..
حيث كان يقدم ويعطي نصائحه ورأيه السديد في كثير من القضايا التي كانوا يستشيرونه فيها على غير صعيد) رابضاً مدافعاً عن جوهر الإسلام وحقيقته المحمدية الأصيلة كرسالة إنسانية تتطلعُ لبناء الفرد البشري وتربيته وتنميته على أسس الإيمان والتقوى والوعي والمسؤولية، على طريق تحوله وتطوره ليكون فرداً منتجاً قوياً قادراً على الإثمار الحضاري والتمكين الوجودي.
نعم، إنه أمير المؤمنين الإمام علي(ع) صهر الرسول الكريم(ص)، وخليفته، وباب مدينة علمه؛ إمام الأئمة والأمة، الصنديد المحارب، بطل الإسلام ورجل الدولة والاجتماع السياسي الأول فيها.
لقد آمن الإمام علي(ع) بالإسلام ديناً للتقوى وبناء النفس في الجانب العبادي، دون انفصال عن بناء حركة الخارج في الجانب العملي الحياتي، فللإسلام مجال وجانب إيماني عبادي ومجال وجانب ورؤية حركية عملية نافذة في قضايا السياسة والاقتصاد والتربية والاجتماع البشري، ولا انفصال بين الجانبين والمجالين، حيث أن الإنسان المسلم لا يعيش – من حيث المبدأ – حالة التناقض بين إيمانه وعبادته من جهة وبين سلوكه وعلاقاته وممارساته لحركة فكره الديني في الواقع من جهة ثانية… نقول بالمبدأ، لأن الواقع للأسف مختلف ومغاير في أيامنا هذه عن المعايير النظرية والرؤية الإسلامية المفاهيمية العميقة والرصينة.
إنَّ الإسلامَ دينٌ حياة (عملي حياتي) يربطُ بينَ الدنيا والآخرة، والسياسة فيه أمر أساسي بل جوهري، وهي سياسة الدنيا والحياة لما فيه خير الأمة والعباد، وهذا ما تمثل في كثير من المباحث التي تحدثتْ عن الشورى والبيعة والإمامة ومشروعية الحكم وشرعية الحاكم ومواصفات الإمام القائد.. وقبل ذلك ما ورد في القرآن الكريم وأحاديث السنة والإمامة من نصوص ومفاهيم سياسية واجتماعية واقتصادية أسست لرؤية الإسلام السياسية والاجتماعية.. وهي معروفة وأشهر من نار على عَلَم.
وبعد أن استلمَ الإمام علي(ع) دفة قيادة الدولة (التي قدّمت له وجاءت إليه ولم يطلبها ويتعلق بها) انشغلَ فقط بمبدأ بتطبيق ما تعلمه من فكر الإسلام في تطبيق العدل (على نفسه قبل غيره) وتغليب المصلحة العامة على كل المصالح الخاصة، فردية كانت أم جماعية، فقرّب منه الرجال الأتقياء الذين يخافون الله ولا يضحّون بالمبادئ على حساب المصالح، واضعاً شروطاً قاسية على مساعديه وأصحابه السائرين في ركبه والممسكين معه بزمام إدارة الدولة والمجتمع.. فبناء النفس على قيمة التقوى كانت عنده أساس البناء الاجتماعي والسياسي لقيادة الدولة، والتقوى هي على النقيض من الانجذاب والانشداد إلى الدنيا، وهذا ما ركّز عليه الإمام علي(ع) في كل خطبه ومواقفه العملية خاصة في قيادة الدولة، حيث كان يؤكد دوماً على ضرورة استرجاع عقيدة الإيمان بالله تعالى إلى النفوس، وإزالة هذا الحجاب الدنيوي “الانشداد إلى الدنيا” عنها.. أي التركيز على ضرورة عدم الانغماس في مباهج الدنيا، والتحذير من طلبها، والسير وراء زخارفها وأمانيها وأهوائها.. وهذا أمر جوهري لبناء النفس والذات الفردية، وتربيتها، قبل بناء الدولة والمؤسسات التابعة لها والعاملة في ظلها، تحت أية قوانين ونظم إدارية أو تدبيرية.
لقد اهتم عليه السلام بالتقوى (العدالة مع الذات وتوازنها الروحي والمادي القائم على الإيمان بالله تعالى كمحور للوجود كله) منطلقاً راسخاً لأي فعل وعمل يمارسه المسلم على صعيده الشخصي أو العام في مسؤولياته وواجباته.. يقول(ع): “إنّ تقوى الله حمتْ أولياءَ الله محارمه؛ وألزمتْ قلوبهم مخافته، حتى أسهرتْ لياليهم، وأظمأتْ هواجرَهُم“.
إنه يؤكد على أهمية الالتزام بحقيقة التقوى قولاً وعملاً بما يؤدي إلى التأسيس لتلك الحالة المعنوية العالية التي يصل إليها الإنسان من خلال عمق انفتاحه على الله، وإيمانه بقيمه العظيمة، والالتزام بأوامره ونواهيه التي تمنعه من اتباع الهوى والانحراف.
وفي قولٍ آخر يعتبرُ الإمام علي(ع) أنَّ “التقوى دواءُ داءِ قلوبكم، وشفاء مرضِ أجسادِكم، وصلاحُ فسادِ صدورِكُم، وطهورُ دَنسِ نفوسِكُم“.
والواضح هنا أن الإمام (ع) يُرجع شقاء البشر – ومعاناتهم، وآلامهم، وابتلاءاتهم، وفشلهم الحياتي الإداري في طغيان المادة عليهم – إلى عدم فهم القيمة العظيمة لفكرة “التقوى”، ومن ثم عدم الالتزام بها في السلوك الخاص والعام.. وهو بذلك يكرّس “هدفية” وجود الإنسان في الحياة، وطبيعة الدور الرسالي العظيم والمعياري الملقى على عاتقه، والأهداف الكبرى التي يُراد له تحقيقها في حياته.
وتقومُ تلك النظرة على أنّ جوانية الإنسان ومحتوى الداخلي هو منطلقه وقاعدته في كل حركة الوجود، من حيث ضرورة ابتنائه على قيمة العدل ومعيار التقوى، أي الإيمان بالله تعالى والخوف منه في مواقع نهيه ومحرماته.. والإسلام نفسه سمّى عملية بناء المحتوى الداخلي للإنسان – على قيم ومبادئ الإسلام الأصيل – بالجهاد الأكبر.. بما يعني أن ذلك المحتوى الذاتي للإنسان أساس أيضاً في تنظيم وجوده، وإدارة شؤونه، وتدبر أموره ومختلف مسالك ودروب حياته.. لأنَّ الإنسانَ لا يمكنُ أنْ ينجحَ في تدبيرِ حياتِه، إلا بعد أنْ يعي نفسَه ودوره وغايته، ويطمئن لمحتواه الدّاخلي.. أيّ أنْ يعرف ذاتَه (الروحية والعضوية) في قدراتها وقابلياتها ومواهبها، ويعمل على تنميتها وتفعيلها في حياته خدمة لهدفه وغايته في البناء الحضاري الإنساني الإسلامي المتين المؤدي للسعادة في الدارين.
من هنا يكونُ التّغييرُ الدّاخلي للإنسان – استناداً إلى ركيزة التقوى وغاية العدل – هو القاعدةُ الأساسيّة المطلوبة لتغييرِ سلوكهِ الخارجي على صورةِ مُعطيات ومضامين هذا الدّاخل، في مختلف علاقاته وتعاملاته الذاتية والموضوعية.. كما يقولُ الله تعالى: ﴿إنّ اللهَ لا يغيّرُ ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسِهِم﴾ (الرعد/11). وعندما يصلُ الإنسانُ إلى مرحلة التقوى الذاتية الداخلية، فإنّه يكونُ مقتنعاً بحدوده وراضياً بحقوقه، ومالكاً لروح مطمئنة، هادئة ومستقرة، وقلبٍ سليم معافى.. أي أن يكونُ مُتصالحاً مع نفسِه ووجوده، ومُنسجماً مع توجّهاته الفكرية وخيارات مبادئه العملية، ولا يعيش – كما قلنا سابقاً – مع ذاته حالة التناقض والانفصام، ولا تشغله الأطماع والغرائز، بما يؤثر سلباً على حياته، وعمره، وسلامة جسده، وعلى عمله، وإنتاجيته في الحياة.
وهذه القيم التقوائية لم تأت من فراغ لكي تبقى مجدر شعارات يتغنى بها المسلمون، بل جاءت لكي تطبق، ولهذا المطلوب هو تجسيدها وتمثلها ليس فقط على صعيد الفرد بل على صعيد المجتمع الدولة والمسؤول والحاكم ومؤسسات الحكم ككل، وهذا هو الأهم، نظراً لامتلاك المسؤول – المفترض أن تتوافر فيه كل مقومات العدل والتقوى – سلطة القرار وتوزيع الموارد والإشراف على شؤون الناس، وإذا كان خالي الوفاض القيمي الأخلاقي، سيدمر المجتمع ويخرب أسسه ويدفع الدولة للحضيض السياسي والاقتصادي وغيره.
ولنا في تجربة أمير المؤمنين الإمام علي(ع) خير دليل وبرهان على أهمية وحيوية أن يكون الحاكم المسؤول متميزاً بمواصفات وخصائص نفسية قائمة على العدل والتقوى والخوف من الله في ناسه ومجتمعه ودولته.
فقد حفلت تجربة الإمام علي(ع) على هذا الصعيد بالكثير من الأحداث والمماحكات والصراعات والتجارب الحية الواقعية خصوصاً فيما يتعلق بفن قيادة الدولة والإشراف على مواردها وثرواتها، وسوس الناس بقيم الدين الحقوقية، وعلى رأسها قيمة العدل.. ولعلّ أبرز وأهم وثيقة واردة في هذا الصّدد، يمكنها أنْ تقدّمَ لنا الكثير من الإضاءات المفاهيمية والعملية على صعيد تجربة الحكم السّياسي للإمام علي(ع) (فيما يتعلق بكل المعاني والدلالات والأبعاد والمضامين التي تعطيها على صعيد إدارة شؤون الدولة والحكم ورعاية مصالح الناس، وإشاعة العدل والمساواة بينهم)، هي وثيقة عهده إلى واليه على مصر الصّحابي مالك الأشتر التي تضمنت كثيراً من معالم ومرتكزات الحكم السياسي الرشيد خاصة في وعيه لمواصفات وسمات قائد الدولة والمجتمع.. يقول(ع): “وأشْعِرْ قلبكَ الرحمةَ للرّعية، والمَحبة لهم، واللطفَ بهم، ولا تكونّنَ عليهم سبعاً ضارياً، تغتنم أكُلهمْ، فإنّهم صِنفان، إمّا أخٌ لكَ في الدّين وإمّا نظيرٌ لكَ في الخلق“.
وهذه الرؤيةُ للعلاقة القانونية الحقوقية بين الحاكم والمحكوم – التي سعى الإمام علي لتجسيدها بعيد استلامه للحكم – هي رؤية عقلانية إنسانية، أكد عليه السلام على أنها تستند إلى حقوق متبادلة، فإن اللَّه سبحانه شرّع أحكاماً حدّد فيها حق الراعي على الرعية وحقها عليه.. أي أن الحقوق متكافئة بين الراعي والرعية، فللحاكم على الرعية حق الطاعة والتزام أمره وعدم عصيانه، ولهم عليه العدل بينهم في قسمة فيئهم وتوفير الأمن لهم وتوفير الفرص لسعادتهم مادياً ومعنوياً.. يقول عليه السلام عن العدل: “إنّ العدلَ ميزانُ الله سبحانه الذي وضعه في الخلق، ونصبه لإقامة الحق، فلا تخالفه في ميزانه، ولا تعارضه في سلطانه“.، ويقول(ع): “العدل قوام الرعية وجمال الولاة“.
وجاءَ عن أبي جعفر(ع) قال: خطب أمير المؤمنين(ع) الناس بصفين فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد النبي(ص) ثم قال: “أما بعد فقد جعل الله تعالى لي عليكم حقاً بولاية أمركم ومنزلتي التي أنزلني الله (عز ذكره) بها منكم، ولكم علي من الحق مثل الذي لي عليكم. والحق أجمل الأشياء في التّواصف وأوسعها في التناصف، لا يجري لأحدٍ إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له، ولو كان لأـحد أن يجري ذلك له ولا يجري عليه لكانَ ذلكَ لله (عز وجل) خالصاً دون خلقه لقدرته على عباده، ولعدله في كلّ ما جرت عليه ضروب قضائه، ولكن جعلَ حقّه على العباد أنْ يطيعوه، وجعل كفارتهم عليه بحسن الثواب تفضّلاً منهُ وتطوّلاً بكرمه وتوسعاً بما هو من المزيد له أهلا، ثم جعلَ من حقوقه حقوقاً فرضَها لبعض الناس على بعض فجعلها تتكافى في وجوهها ويوجب بعضها بعضاً ولا يستوجب بعضها إلا ببعض“.
إنّ الحكم الذي مثله الإمام علي(ع) كان حكماً إسلامياً بامتياز، قام على سيادة القانون، واحترام الإرادة المجتمعية، والاستجابة العميقة والقوية لحقوق الرعية وحرياتها والمساواة فيما بينها.. وارتكز أيضاً على محورية قيمة العدل في كل المجالات خصوصاً القضائية منها.. فالعدل كما يقول(ع) حصن منيع للمجتمع والدولة ليس في داخلها بل في علاقاتها الخارجية على صعيد الحماية.. يقول(ع): “ما حُصِّن الدولُ بمثل العدل“، وهنا يكون العدل، كقيمة سياسية أولى، بمثابة السور العالي الذي يصون ويحمي الدولة من السقوط أمام أي عدوان خارجي وتحدٍ مصيري كبير.