هامش ثقافي

زرعٌ صالحٌ لخير حصاد

بقلم: غسان عبد الله

العقول حقول فوجب زراعتها حتّى تُحصد، وتركها أرضاً بوراً هو علامة على التقصير، فلا يُنتظر من صاحبها الخير. إنّ الحقول لا تُزرع مرّةً وتُترك، ولا بعد الزرعِ يُترك حصادُها ليَهلك. وزرْعُ العقولِ وحصادُها هو العلم.

فالعلم أخذٌ وعطاء، يؤخذُ منه بحظّ وافرٍ ويُعطى منه ليُعرفَ الحصادُ الحسنُ من الفاسد. وبذلك يسهل على صاحبه معرفة ما فاته فيدركه، وما هو محتاج إليه فيما هو آت فيضيفه أو يعدّله. فهو بذلك يجهّز نفسه لخير الزرع، أي لخير أخذ من العلم، حتّى يستقيم له حصاده المقبل.

وإلاّ؛ فإنّ العقول الزّارعة لنفس البذور، جعلت من نفسها أرضاً يبابا. ومثله كذلك الحقول التي تُزرع بزرعٍ لا يَليقُ بها، وغُذِّيَتْ ببذورٍ لا تصلحُ لها، فإنّها سوف تحصدُ العدَم، ولو اقتنعَ أصحابُها على أنّهم قد قدّموا خدمةً لخيرِ الأمم. إنّ هذه العقول تهتم بتحصيلِ نفس الأفكارِ والنتائج، وتطبّقُ نفسَ التجارب، وكأنّها تبحثُ في العدمِ عن حلولٍ لواقعها. إذ إنّها لم تفهم واقعها، ولن تخرجَ عن دائرةِ الفراغ، أو التكلّفِ المزعوم، ولو ظهرت في صورةِ الفاهمِ لواقعه، والمدرِكِ لحاجياتِ مستقبله. والسببُ في ذلك هو أنّ هذه العقولَ قد حاولت بأن تجد حلولاً لمشكلاتٍ لا تهمّها، ولواقعٍ لا يمثّلها، بل وحاولت بأن تدخُلَ في فلسفاتٍ لا تفهمها، فيستحيلُ بعد ذلك بأن تتخلّص من مرارةِ واقعِها ومن استحكامِ همومها.

وهكذا، فإنّ هذه العقولَ التي تجترُّ فهمَ غيرها من دونِ فهمٍ لما تأخُذ، ومن دونِ تعاملٍ مع وقعها، قد آثرتِ الاستمرارَ على نفسِ النسق، وقد تأخذُ في طريقها بأيدي العوام السّاعينَ إلى الحق، ولكن ليس إلى برّ الأمان، وإنّما إلى عمقِ البحارِ والمحيطاتِ ثمّ تَقذِفُ بهم للغرق.

وجبَ علينا بأن نسألَ عن ماهيةِ المشكلاتِ التي تخصّنا في عالمنا الإسلامي، ثمّ بأن نبحثَ عن حلولٍ لتلك المشكلات. فمن أكبرِ الأخطاءِ التي ألمّت بنا في عالمنا الإسلامي، هو محاولتُنا تطبيقَ نفسِ الحلولِ التي حلّ غيرُنا بها مشاكلَهم، ثمّ ننتظرُ نفس النتائج. إنّنا لا نكلّفُ أنفسَنا فهْمَ مشكلتِنا الحقيقيةِ وماهيتها، ونسعى جاهدينَ إلى تطبيق حلولٍ، ومناهجَ، وفلسفاتٍ، وأفكارٍ جاهزة، ولكنها مستخلصةٌ من تجاربٍ لا تعنينا لأنّها ببساطةٍ قد أجابتْ عن مشكلاتٍ وأسئلةٍ لا تمثّلنا، وحينها لم يَصلُحْ لنا الحصاد، كما لم يستو لنا الزرعُ من البداية. إنّ الذي لا يستوعبُ مشكلتَهُ كما يجب، ولم يعرف قيمتَهُ وقدرتَهُ فيما يطلب، فسعى إلى تحصيلِ علمِهِ على من هبَّ ودبّ، كان كمن بدّل راحتَهُ بالتعبِ، فلم يكن يوماً زارعاً حتى يحصد، فكيف بنا نريد بأن تستقيمَ لنا الحياة، إذا لم نتعلّم بأنّ طلب العلمِ متعبٌ وشاقّ، ولكنّه موصل إلى شواطئ الرَّغَد؟.

وعندما يتوقّف طلبُ العلمِ، أو لا ينطلقُ الإنسانُ أصلاً في طلبه، بل يخيّلُ لهُ من معلوماتِهِ التي يحصّلُها هنا وهناك على أنّها علم، حينها يكثُرُ الالتباسُ بَدَلَ الفَهمِ، والليونةُ بدَلَ الحزم، والتشدّدُ بدَلَ الحلم. يكثرُ الكلامُ في اللاشيء، لأنّ أصلَ الكلامِ هو الإفادةُ، وحيث انعدمتِ الإفادةُ انعدمَ أصلُ الكلام، وغاصَ اللسانُ في كلِّ شيء، لأنّه لا يعرف حدودَ ما يقال فقالَ كلَّ شيء إلاّ القولَ المفيد. ويبقى الإنسانُ سجين اللافائدةِ فيضيقُ صدرُهُ محاولاً الخروجَ من حالةِ عدمِ الفهمِ وعدمِ العلمِ. وكثيراً ما يجدُ الحلّ في الأمورِ التي ليس فيها كبيرُ فائدة، ويُقنعُ نفسَهُ عكسَ ذلك؛ لأنّه هاربٌ من حقيقةِ كونهِ لا يتقدّمُ في طلبِ العلم، بل يتقدّمُ كلَّ يومٍ نحو هاويةِ الفراغِ واللافائدة. ولكن خِشيةَ التفريطِ في العلم، وفي بعضَ الأحيانِ خشيةَ الظهورِ أمام الآخرينَ بمظهرِ غير المتعلّم، يسعى إلى تحصيلِ المعلومةِ أيّا كانت فيزيدُ جهلاً إلى جهله.

لأنّه عندما تأخذ المعلومةً مكانةَ العلم، يصبحُ الكلام منقطعاً غير متمٍّ للفائدة، وغير قادرٍ على التدفّق، والتفكيرُ مسطّحاً؛ لا يستوعبُ ما يحصّلُه بعد أن غابَ عنهُ العمق. إذ المعلومةُ خبرٌ منقطعٌ وجبَ توظيفها علميّاً. وعندما يغيبُ العلمُ الذي يوظِّفها، تحتلُّ مكانهُ وتصبحُ هي البارزة على أنّها علمٌ بالنسبة لصاحبها. وهكذا، يظهرُ بين النّاس كلامٌ وتعبيرٌ غيرُ متناسق، ويختبئ الكثيرُ خلفَ كلامِ غيرهم محاولاً مواصلةَ الهروبِ من كلّ الطرق، فيحصلُ له أنواعٌ من التلوّنِ الخارقِ، إذ يتحوّلُ صاحبُنا من فكرةٍ إلى أخرى، ويتقلّب من نظريّةٍ إلى غيرها، والسببُ الحقيقيُّ ليس تتبّعاً للحجّة العلميّة وإنّما انعدامُ العلم أصلاً فيكون ألعوبةً في يدِ غيره من غيرِ إدراك.

إنّ التحصيلَ وجبَ له التعبُ والمثابرةُ والجد، وجب لهُ الصبرُ على المكارِهِ والصبرُ إلى غايةِ استكمال النضج. بل ووجبَ التشبّعُ به وأخذُه على أصوله. وحينها فقط، سيظهر لك الفارق، بين من أعياهُ التعلّم فانصرفَ عنه كالمارق، وأصبح همُّه هو السعي خلفَ كلّ ناعق، وبين الذي عرف منهجيّة التزوّد، فأحسنَ التدقيقَ والتعمّق، وانفكّ عن الأشخاصِ وجعلَ همّه البحثَ عن الحجج وصولاً إلى الحق، فكان بمرتبة الحاذق الذي يرجى منه خير حصاد بعد كلّ ذلك الزرع الصّالح.