سلاح فوضى جماعية: شبكات اجتماعية.. رسائل وهندسة مشاعر الجمهور
ترجمة وإعداد: حسن سليمان
مقدمة: شبكات اجتماعية، مشاعر الشعوب
حيّز كبير من الحديث عن التأثير الخارجي يركّز خصوصاً على بثّ الأخبار الكاذبة والحملات الخارجية التي تهدف إلى تقويض مصداقية الحقائق والوقائع. لا خلاف حول ضرر بثّ معلومات مضلّلة لكننّي أدّعي أنّ السؤال عمّا إذا كانت حملات التأثير الخارجي تقدّم مزاعم حقيقية أو كاذبة، يفوّت نقطة أهمّ بكثير.
الفكرة المركزية في هذا المقال تعتبر أنّ الخطر الحقيقي لتأثير مشابه لا يكمن في تشويه تلك الحقائق وإنّما في تشويه المشاعر الذي يعدّ أخطر بكثير. الحديث يدور عن استخدام شبكات اجتماعية من أجل التلاعب بمشاعر الناس وبالتالي هندسة سلوكياتهم. اللاعبون النظاميون (الدول) وغير النظاميين يتمتّعون اليوم بالقدرة على الوصول بسهولة وبدقة إلى مجتمعات أجنبية عبر المنصّات الاجتماعية، وبلورة أولوياتهم وسلوكياتهم نتيجة اطّلاعهم الدائم على الإعلانات والمضامين المضلّلة. يُستفاد من هذه القدرة في شلّ مجتمع ما بالمخاوف أو على العكس، أن يصبح غير حسّاس إزاء المخاطر، وأحياناً إحداث صراعات داخلية بداخله. يمكن بثّ الشكوك أو تأجيج مشاعر الغضب بشكل لا يعود بالخير على الفئة المتأثّرة. هذا يحصل بمعزل عمّا إذا كان المحتوى المشترك صحيحاً أو خاطئاً حقائقياً. بعبارة أخرى، أيضاً المحتوى الصحيح حقائقياً قد يكون قاتلاً.
متى وكيف، بناءً عليه، تستطيع دول أو لاعبون سياسيون استخدام محتوى اجتماعي من أجل استخدام المشاعر كسلاح؟ وكيف تستطيع دول تحصين مواطنيها من تلاعب خارجي بمشاعرهم؟ أعتقد أنّه تمّ البحث كثيراً بهذه الأسئلة، على الرغم من أن لها أهمية استراتيجية كبيرة جداً في الفترة التي تسهم فيها وسائل التواصل الاجتماعية وصناعة المحتوى التي تعتمد على الذكاء الصناعي، في تغيير البسيكولوجيا أو الحالات النفسية الجماعية، وبالتالي، السلوك السياسي. البعد النفسي في الدعاية في عصر الشبكات الاجتماعية لا يُعالج تقريباً في البحث الأكاديمي، على الرغم من تداعياته العميقة على مسارات ديموقراطية وعلاقات دولية. المقال الحالي يسعى إلى تقديم مدخلية للموضوع. التقدير الرائد هنا أنّه في عصر الشبكات الاجتماعية يمكن هندسة بدقة رسائل بحيث تبلور مشاعر ومن هنا أيضاً سلوكيات الناس الحسّاسة من ناحية نفسية وسيكولوجية (أو ستجعل الناس أكثر حساسية ومن ثمّ تستغلّ ضعفهم). بهذه الطريقة يمكن تقديم أهداف استراتيجية من دون استخدام العنف.
سأبدأ أوّلاً بعرض استخدام وسائل الإعلام وتأثيرها كسلاح في الوقت الراهن، مع التأكيد على الفرص التي لم تكن متوفّرة حتى الآن لدول ولاعبين سياسيين، من أجل بثّ الخلافات أو تقويض استقرار بواسطة الإعلام الديجتالي، وسط مجتمعات هدف. بعدها سأغوص عميقاً لأوضح كيف تؤثر المشاعر الجماعية على السلوك السياسي وما هي الطرق الخاصة التي يمكن بواسطتها تحويل المشاعر إلى سلاح من أجل التأثير على دول. في النهاية، سأعرض موضوع الوسيلة المضادة وأقارب مسألة كيف تستطيع الدول حماية شعوبها من سلاح التأثير الخارجي.
شبكات اجتماعية وشعور جماعي في هذه الأيام
بحسب موقع Statista.com، أكثر من 4.8 مليار شخص ينشطون اليوم في الشبكات الاجتماعية، وبعبارة أخرى، أغلبية الصنف البشري. 5.25 مليار شخص يستخدمون هواتف ذكية. بحسب معهد الأبحاث Pew، أكثر من 68% من مستخدمي الشبكات الاجتماعية يستخدمونها لمعرفة كلّ جديد. بفضل هكذا اختراق عميق جدا، تستطيع أطراف ثالثة (بنيّة سيّئة أو من دونها) التواصل بشكل مباشر، دائم، ومن دون الحاجة إلى وسيط، مع معظم الناخبين في الديموقراطيات الغربية، والتأثير على قراراتهم، خياراتهم وسلوكياتهم. بتكلفة منخفضة نسبياً يمكن “توجيه” جماعات خاصة، وإمطارها بشكل دائم بمحتوى جذّاب، مؤثر ومتناسب معها. هذا يعني أنّ هؤلاء اللاعبين قد يشوّشون تدريجياً على مسار اتخاذ القرارات وعلى الاستقرار الداخلي لدول عديدة، الديموقراطية منها خصوصاً.
الشبكات الاجتماعية أصبحت بمثابة مفترق يربط بين وسائل المعلومات وحرب السايبر. يكفي أن نذكر كيف أنّ شرائح واسعة من الشعب الأمريكي فقدت ثقتها بشرعية نتائج الانتخابات في العام 2020 بعد احتدام المؤامرات والمكائد والأخبار الكاذبة في مجال الأنترنت. وكما أشار كثيرون، الرأي العام يمكنه تقييد مدى رقابة الزعماء في قضايا دولية. أكثر من هذا: في كثير من الأحيان يؤثر رأي الناخب على قرارات قادة ومسؤولين بخصوص نزاعات، تعاون دولي، تجارة ومعاهدات. كلّ هذا يبرز أكثر حين نفحص قدرة الإعلام الديجتالي على التأثير على المشاعر الجماعية. وبالفعل، أظهرت أبحاث أنه حين ثبت أيضاً فبركة وكذب معلومة جديدة أو محتوى معيّن، إذا ما حرّكت المشاعر الصحيحة، سيصدّقها الجمهور على الرغم من كلّ هذا.
محتوى الشبكات الاجتماعية له تأثير المخدّر، يجذب الجمهور ويبني ثقة
كُتب الكثير عن الطريقة التي قد يسهم فيها استخدام الشبكات الاجتماعية في تعزيز الهواجس والتوتر، لكن أبحاثاً قليلة ركّزت على الحقيقة الخطيرة والمصيرية أنّه على عكس ذلك، يبدو أن الشباب خصوصاً لديهم فرصة أعلى للمواصلة، لأن يكونوا منخرطين أو البحث بمبادرة ذاتية، عن محتوى معيّن في الشبكات الاجتماعية يحرّك لديهم مشاعر مقبولة، مثل طمأنة المخاوف وتنفيس العزلة. أكثر من هذا: ليس فقط أنّ المحتوى الذي يثير مشاعر معيّنة، يجذب جمهوراً غير مدرك وغير واع محتوى كهذا يحمل مستخدمي الشبكات الاجتماعية ليس فقط لمعالجة ومشاركة معلومات بل يوفّر لهم أيضاً ردّاً على احتياجات نفسية عميقة بينها تقرير المصير وتحقيق الذات. المحتوى الديجتالي قادر على جذب أشخاص مثلما تفعل المخدرات. ولذا لا يهمّ كثيراً إذا كان المحتوى صحيحاً أو كاذباً، المهمّ أن يكون قادراً على إنتاج ردّ فعل إحساسي أو حركي، يتسرّب حدّ تأثير عميق على خيارات وأفكار فئات في الجمهور. خصوصاً أثناء أزمة ما، ينجذب الأشخاص إلى محتوى ديجتالي بألوانه، تركيبته، موسيقاه وما شابه، يعرض لهم ما يخفف المخاوف والهواجس. أشخاص منفردون أو شباب، خصوصاً في فترة الانقسام الاجتماعي (كما في عصر سياسة الهويات المتطرّفة)، قد يسعون إلى تشخيص ذواتهم بشكل يعدّ إيجابياً بنظر آخرين، من خلال مشاركة محتويات جدلية.
ولذا، كلّ خبير متمرّس لديه الرغبة بالتأثير على سلوك سياسي، يستطيع إنتاج محتوى ورسائل لبلورة استراتيجية تأثير ستوفّر ردّاً لاحتياجات حسية ومعرفية قوية لدى الجمهور الهدف، بشكل يثير لديهم مشاعر خاصة ومن ثمّ ربط هذه المشاعر بولاءات سياسية معيّنة، وفي أثرها سلوكيات خاصة أيضاً. المحتوى يمكن أن ينتج أيضاً المتطلّبات الحسّية التي تعدّ أرضاً خصبة لتأثير خارجي (عبر إثارة الخوف، مثلا). السؤال عمّا إذا كان المحتوى واقعياً وصحيحاً، يعدّ ثانوياً بنسبة كبيرة. فهم هذه الظاهرةـ أي قدرة لاعبين سياسيين على رصد أو إنتاج فرص نفسية ووسائط يمكن بسهولة فيها ترويض الردود التلقائية، المشاعر والمدارك لدى جماهير عريضة، من أجل تقديم أهداف سياسية – وبعبارة أخرى، دعاية في عصر الميديا الديجتالية – هي مسألة ذات ضرورة ملّحة. سأتوسّع الآن بشأن الجهاز المسؤول عن دور مشاعر خاصة في صياغة الآراء والأفكار الخفية والكامنة بشأن أحداث سياسية.
الدور الحيوي للمشاعر في الأحكام السياسية
حين تنهال علينا المعلومات بشكل يومي، كما يحصل حين نتصفّح الشبكات الاجتماعية، تصبح الدوافع الأساسية وهناك من يقول دوافعنا التي يمكن التكّهن بها (من دون تفكير عقلاني)، آلية أو جهازاً رئيسياً نتخذ القرارات بواسطته. بعبارة أخرى، كلّ يوم، ونحن نطّلع على مزيد من المعلومات، كلّنا نصبح أقلّ ارتباطاً بهذه المعلومة ونعتمد أكثر على المشاعر. نحن نصبح مرتهنين أكثر فأكثر لدوافعنا التلقائية والمحتوى الذي يروّضها ويتلاعب بها. وبالفعل، يوجد حديث أكاديمي متزايد يؤكّد التأثير الحاسم لردود انفعالية أوّلية وتلقائية في صياغة كلّ جوانب المعرفة السياسية، بدءاً من التحليل الإستراتيجي ووصولاً إلى اتخاذ قرارات سياسية مثل التصويت أو تنظيم التظاهرات. المشاعر، التي غالباً ما تكون تلقائية وهي ضمن سقف الوعي، تقترح علينا طريقة تقدير معلومة جديدة والطواف في حالات جديدة وغير يقينية. تقديرات سياسية غير معلنة تجتاح المشاعر التي بدورها تصوغ تقديرات معرفية أو استراتيجية على أساس ذاك المحفّز، من خلال إبراز مشاعر معيّنة أو توجيه الاهتمام لحقائق تنسجم مع تلك المشاعر أو بواسطة التأثير على مستوى المعالجة المعرفية. أكثر من هذا: الناس يميلون في كثير من الأحيان إلى تغيير مواقفهم بحسب حالتهم المعنوية والانفعالية.
المشاعر والانفعالات، إذاً، تتصرّف مثل آليات تقدير سياسية تلقائية أو أوتوماتيكية تستخدم مسارات محسوبة أكثر في مراحل تالية. المشاعر تحدّد ما الذي نعتقده حين نفكّر بالسياسة. الناس يتعاطون مع المحتوى ذي الصلة بالسياسة بشكل انفعالي، والردّ التلقائي الذي لا يمكن مجابهته، يبلور أفكار هؤلاء الناس. عبر إثارة مشاعر معيّنة بواسطة محتوى، يمكن، على ما يبدو، إعادة صياغة ردود الأفعال الاجتماعية على الواقع السياسي. هذه الإمكانية تؤكّد أهمية التلاعب بالمشاعر على التقدير العقلاني لدى الجمهور بشأن أحداث سياسية.
باحثون رصدوا تداعيات مشاعر متنوّعة على الوعي السياسي، ضمن الربط بين انفعالات خاصة والتأثيرات المتوقّعة والدقيقة على التقدير العقلاني لحقائق سياسية. هكذا على سبيل المثال، هناك ترابط بين الحماسة والسلوك المولع بالمخاطر. يبدو من خلال رصد الحالة الحسّية لدى جمهور “مستهدف/ موجّه” وتحريكها باتجاه مشاعر وانفعالات خاصة، يستطيع لاعبون سياسيون صياغة أفكارهم وآرائهم وبالتالي سلوكياتهم.
كيف يمكن مصادقة الأشخاص والتأثير عليهم: انفعالات دفينة كسلاح استراتيجي
القدرة على التحكّم بالمشاعر بواسطة حديث سياسي، يتمّ التحقيق بشأنها أيضاً كوسيلة لحلّ صراعات مريرة وليس فقط لتحقيق أهداف مشينة. منهجية من هذا النوع طبّقت في أجهزة تجارب تمّ فيها مطابقة الانفعالات التي اُستبقت ورُبطت بحقائق ووقائع سياسية. المشاعر هي وسيط حاسم لأفكار مرتبطة بالنزاهة والمصداق الأخلاقي للنتائج. أفكار كهذه، بدورها، تصوغ وتبلور مواقف إزاء سياسات خارجية كونها بحثية يمكن من خلال تقدير وتخمين سياسة معينة. بعبارة أخرى، التأثير على انفعالات ومشاعر الجمهور بواسطة رسائل، يمكن أن يحدد ما إذا كان الجمهور المتأثّر سيفضّل الحرب على السلام، وبالعكس. في الواقع، استخدام دقيق للمشاعر سيحرّك لدى الجمهور الهدف سلوكيات محدّدة وخاصة.
الشعور بالسخط من الغبن والظلم قد يؤدي دوراً مهمّاً في صياغة المواقف السياسية، وخصوصاً في الصراعات “غير القابلة للحلّ”. استغلال السخط على الغبن والظلم بطرق فعّالة من ناحية ثقافية قد يؤثّر بشكل كبير على التعاطي مع التنازلات المقترحة بشأن مواضيع تعدّ غير قابلة للحلّ (مثل القدس) أو أحياناً تصلّب المواقف في المفاوضات. في تجارب، صنّف الإسرائيليون الذين وجهت لهم الأسئلة بأنّهم يميلون أكثر لوسائل العقاب والتنازلات التي سيقدم عليها الفلسطينيون في حال تحرّك لديهم الشعور بالسخط عبر التذكير بخطابات القادة الفلسطينيين الذين يشيدون بهجمات الإرهاب. في المقابل، فلسطينيون وجهت لهم الأسئلة أبدوا معقولية عالية لتأييد التنازلات، حتى في مواضيع أساسية رمزية مثل الإشراف على جبل الهيكل (الحرم القدسي)، إذا ما قيل لهم إنّ هذه التنازلات هي نتيجة مفاوضات أذلّت الإسرائيليين. إثارة الشفقة التي استخدمت عبر عرض صور أطفال موتى أو يعانون، كما أشير أعلاه، تستخدم بكثرة في حملات التأثير التي تسعى إلى تقويض دعم الغرب لإسرائيل، بما في ذلك من جانب حماس وحزب الله.
إحدى أقوى الوسائل التي تجعل الناس يقتنعون مشاعرياً وحسّياً ويتبنّون أفكاراً معينة، هي تضليل وتمويه الشعور بالهوية لديهم بين “نحن” و “هم”. يمكن التقدير أنّ السلوك المجموعاتي والاجتماعي هو الآلية المركزية التي بواسطتها تطوّر البشر مع القدرة على البقاء. القيم المشتركة، إذًا، لها تأثير عميق على تقديراتنا الأخلاقية، والقدرة على دفعنا للعمل بطرق خاصة، في بعض الأحيان فوق المصالح الذاتية. وفي عصر تعرّض الأشخاص للانقسام الاجتماعي والسياسي أكثر من أي وقت مضى، فيما سياسة المحسوبية والبلطجة “أون لاين” تخرج عن زمام السيطرة، فقد يصبح الشعور بالتقارب مع من يشبهنا، أقوى من أي وقت مضى.
التواصل الاجتماعي
خلال عملية الجرف الصلب صيف العام 2014، كما أيضاً في جولات تلتها، نشرت حماس في الشبكات الاجتماعية أخباراً وتقارير مفصّلة عن المواجهات، ومشاهد واقعية لقتلى وجرحى فلسطينيين، خصوصاً من الأطفال. مصدر رسمي في حماس أوضح أنّ الهدف هو استحضار الضحايا من أجل تحويل الرأي العام ضدّ إسرائيل. حماس تستخدم رسائل عاطفية وليس إخبارية، وأثر الحصول على التأييد من خلال استحضار هذا الجانب في الصراع تستغلّه لأهداف استراتيجية. وقد أصدرت سلطة حماس توجيهات لناشطين على وسائل التواصل حول كيفية تحويل الرأي العام الغربي، من خلال استخدام عبارات عاطفية وحساسة (مثل “إبادة جماعية”، “مقاومة” و”شهداء”).
وبالفعل، هذه الأبحاث والتحقيقات وجدت أنّ ممارسات إسرائيل وأداءها تأثّر جداً بنجاح الرسائل المناهضة لإسرائيل في الشبكات الاجتماعية. تغيّر التأييد الشعبي حصل بالتوازي مع تراجع معركة إسرائيل على الشبكات الاجتماعية، في وقت تبدو حماس أقلّ تأثّراً من مشاهد وتقارير سلبية في الشبكات الاجتماعية. بعبارة أخرى، الميديا الاجتماعية التي تستخدم بمثابة سلاح الرأي العام، خدمت بنجاح تقييد مجال المناورة العسكرية للخصم. اليوم أيضاً، فيما إسرائيل تخوض حرباً على حماس في غزة، اكتست الشوارع في الغرب بمظاهر تأييد لحماس باعتبارها حاملة لواء الصراع الفلسطيني. نحن نعتقد أنّ حاجة الشبّان إلى تشخيص ذواتهم، إلى الانتماء، إلى الابتعاد عن الصراعات وتجنّب التشهير العام، يستغلّ في زعزعة التماسك الاجتماعي في الغرب ولبناء تعاطف جماهيري مع الفلسطينيين وعبرهم مع التنظيمات الإسلامية، بنحو يتطوّر حدّ تهديد استراتيجي كامن.
خلاصة واستنتاجات
بقدر ما تغوص شرائح واسعة جداً من المجتمعات العالمية، في محتوى ديجتالي بشكل يومي، وبقدر ما أصبحت المزيد من الأعمال والأنشطة اليومية، ديجتالية، بات مقلقاً أكثر موضوع حماية المعلومات. الآن، حين أصبحت قادرة على تحليل سلوكيات وإحراز اهتمام الجمهور بواسطة منصّات اجتماعية، يبدو أنّ الحكومات تنهض من سباتها أيضاً. وربطاً بذلك، أصبحت الأخبار الكاذبة وحملات الفبركة، موضوعاً ذا أهمية مركزية وخدمات الحماية مع كبريات شركات التكنولوجيا في كلّ العالم، تستثمر أكثر في فلترة ما تعدّه معلومات كاذبة أو مضللة. لكن بالإضافة إلى تحدّي تشخيص ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي، والخلافات والتحدّي الأخلاقي التي تعدّ جزءاً أساسياً من السؤال عن هوية المسؤول عن الحقيقة في حديث الناس على الأنترنت، يأتي السؤال ليس عن المحتوى المؤذي أو الضار، بل لماذا هو مؤذٍ أصلاً.
في هذا المقال، ذكرت أنّ صدق المحتوى أو كذبه ليس القضية الأساسية، حين يدور الحديث عن حملات تأثير خارجية. تماماً كما أنّ السؤال ما إذا كان فيروس معيّن نتج بشكل طبيعي أو أنه من صنع إنسان، أقلّ أهمية من السؤال عمّا إذا كان قاتلاً وسريع التفشّي، هكذا أيضاً قوة جذب المحتوى – وفهم سبب تبنّي الناس له بسهولة، انسياقهم معه وتقديم رسائل سياسية معيّنة – هو السؤال الذي علينا أن نفهمه.
يمكن استخدام حملات التأثير مثل سلاح استراتيجي بهذا الشكل:
• عمليات التأثير والرسائل التي يبثّونها موجّهة لشريحة تشخّص بأنّها حسّاسة أمام سرديات مبالغ بها، نتيجة الشعور بالخوف والرعب، بسبب الضبابية وعدم القدرة على معرفة ما سيكون مستقبلاً. مجتمعات كهذه ستبحث بشكل غير واعٍ عن مضمون يخلّصها من مخاوفها أو يعرض سرديات “مبسّطة” ومقنعة توفر وضوحا أكثر.
• رسائل موجّهة لهذه الفئات ستسعى للتأثير على ردود الفعل التلقائية وعلى شعورها بالبقاء. هذا يعني أن لا أهمّية لمسألة ما إذا كان المحتوى سيتضمّن وقائع صحيحة أو أنّ هدفه الأساسي غير معلوم، بل التأثير والاستدراج. الرسائل ستؤدّي هذا الدور من خلال إثارة العواطف التي ستحدث انحرافات سلوكية خاصة وتبدّلات سياسية.
• سيكون لهذه الحملات بشكل عام، أجندة اجتماعية – سياسية خفية. على سبيل المثال، تقديم دول كبرى أجنبية، تقديم أيديولوجيات محلية أو كلتاهما. الطريقة الأفضل لتقديم الأجندة هي عملية منسّقة غالباً ما ستتضمّن “بوتات” (برامج آلية على الشبكة) لنشر جماعي.
الضبابية والإرباك اللذان يميّزان عالم اليوم المتغيّر، وفرط المعلومات الملازم، يحوّلان مستخدمي الشبكات الاجتماعي فريسة سهلة للتأثير والفبركات، التي تخاطب ردود أفعالنا البيولوجية والأوّلية، كبشر. وبالفعل، كما ورد أعلاه، المشاعر والعواطف لها دور مركزي، وكذا العادات، الشعور بمعرفة وسهولة استيعاب المحتوى، والأبحاث مثل الانغماس، الموقف المسبق، تأطير الخسارة وما شابه. السلوكيات التدريجية القوية التي فصّلنا بعضها هنا، تقترح على مخطط الحملات الخبير، مجموعة وسائل للتأثير بواسطتها على مواقف الجمهور في قضايا جديدة.
الأبحاث تظهر أنّ الجمهور قد ينجذب إلى محتوى افتراضي كما يمكن أن ينجذب إلى المخدّرات، انطلاقاً من هدف التخلّص من أحاسيس مزعجة. المشاعر تصوغ بنسبة كبيرة، طريقة تقديرنا بشكل عقلاني، وقائع ومشاريع سياسية. أحكام وردود تلقائية غير واعية أخرى (قد تتأثر بالهندسة أيضاً) تفعل الشيء نفسه. ظواهر غريبة تدريجية أخرى، مثل حاجتنا العميقة لأن نشعر بالانتماء وبأننا جزء من المجموعة، قد تؤثر أكثر. هذا يعني أنّنا جميعاً معرّضون للتلاعب بواسطة محتوى افتراضي. ولاعبون سياسيون فاهمون يمكنهم ليس فقط تعلّم معرفة هدف جماهير واسعة بغية فهم دوافعهم غير الواعية، بل أيضاً أن يهندسوا بسهولة رسائل تضغط على أزرار تمّ اكتشافها، بهدف تنفيذ أجندات غالباً ما ستكون مريبة.
من المناسب، في هذه الحالة، أنّ نركّز ونؤكّد على معلومات المحتوى وسيكولوجيته، وعلى تفاعلنا التلقائي والتدريجي معه. علينا أن نفهم كيف يمكن لمعايشات ديجتالية تستغلّ كسلاح، أن تؤثر عميقاً على الواقع السياسي عبر صياغة سريعة للرأي العام، بطرائق سهلة غير مسبوقة. فقط هكذا وليس بواسطة الرقابة على المحتويات التي تعدّ كاذبة ومفبركة، يمكن أن نأمل إرشاد وبالتالي تحصين مجتمعات ديموقراطية من القوى الظلامية في العصر الشبكي.
معهد أبحاث الأمن القومي – فيليب اسولين