الخطاب النقدي الأدبي: علاقة القارئ بالمؤلف.. أم بالنص!!
بقلم غسان عبد الله
النقد رياضة، أو، بعبارة أخرى، النقدُ هو نشاط الوعي في منطقة اللاوعي. لكن إلى أي حدٍّ يمكننا الحكم بكمالِ انتماءِ النص إلى منطقة “اللاوعي”؟ وإذا ذهبنا إلى اعتبار أن النصّ الشعري هُو حالة “خلق”، كيف لنا، إذن، أن نتخلّص من الوقوع في الضدية الناشئة عن استخدامنا لكلمتي “اللاوعي” و”الخلق” في إطار تأملنا لبنية النص؟ ما أعنيه، هنا، هو أن “اللاوعي” لا يُطالعنا بصورةٍ ذهنية منطقية منظمة، في مقابل كلمة “الخلق” التي تضعنا ذهنياً إزاء عملية منظمة، وهذا ما ينطبق، مثلاً، على النص الروائي.
أليست وظيفة “الوعي” هي التي تتخرج منها الأفكار المنظّمة (بفتح وكسر الظاء)؟ هذا صحيح. وسوف يتغير هذا التساؤل المنطقي، أمام اعتبار “الفن” محوراً مركزياً، ولغة وغاية؛ حينئذ ننظر إلى “اللاوعي” في إطارٍ من النتيجة اللامنطقية والرؤية الفنية. وعلى أثر ذلك نصوغ التساؤلَ السابق في صورته التالية: أليست لحظةُ “اللاوعي” هي التي تتخرج منها الفنية والرؤى اللا منظمة “ظاهرياً”؟ الإجابةُ: بلى.. بالتنقيب في آثار “بلى” سنجد أن عملية “اللاوعي” الإبداعية غير المنظّمة ظاهرياً تمثل “خلقاً” إبداعياً مُحَمّلاً بإشارات ومنبهاتٍ تحثّ على التنظيم حثاً ترميزياً دلالياً وتراثياً إسقاطاً أو تنبؤاً معمقاً ولحوحاً، على الرغم من كون “الخلق” في ظاهر العينِ مُهلهلاً.
وكأنَّ ما تقدّم، من كلامٍ، يرمي إلى إعادة الاعتبار للتجربة والمعرفة التي تكتنزها نصوصٌ شعرية محكومٌ عليها بالانطفاء أو التيه بين أضغاث لغةٍ تنحدر من هنا وهناك؛ هي أشبه بمجتمعٍ أفراده نصوص أو لصوص غير منتمية لقيمة!.
إن ممارسة “رياضة الوعي” ستكشف لنا عن عالمٍ من “مفاجآت اللاوعي الذكي”، إلى جانب الإدراك والإحساس بوجود محطاتٍ لتدخل “وعي” المؤلف؛ إسناداً وتعزيزاً لـ “قوة تكوين” النصّ. والسؤال: هل يعني ذلك اعترافاً بعثور القارئ – الناقد على “النص الناجي” – “النص الكامل”؟! ليس بالضرورة أن يكونَ اعترافا بـ ” كمال النص”، إنما باستطاعة القارئ – الناقد الوقوف إزاء حالات متعدّدة لنصوصٍ مشبعة تُشِيع الحيوية واللذة والاستفزاز معاً. حينها يكون القارئ – الناقد قد دخل في حالة انسجامِ ومصارعة افتراضية خفية، يرجع نشوؤها إلى الشعور بمستوىً جليل من التحدي الذي يشكِّلُه النصّ، للوهلة الأولى، في القارئ أو على امتداد تعدّد قراءاته له. وليس سنةً أن تصاغَ العلاقةُ دائماً بصيغة تحَدٍّ بين النص والقارئ، فربما كانت العلاقة مع النصّ في صيغة تحاور، أو حُلُول.
والناقد “المبدع، الحيادي والنزيه” يكون من القدرة حين يكشف، مثلاً، عن إرهاصات ومرجعيات “نصّ” ناتجٍ عن التجربةِ الشخصيةِ أو الاجتماعيةِ أو ناتجٍ عن التمرين التأملي الذي ينمّي ويرشّح اللاوعي وينقّي الشعرية المنجزة. ويكون من النزاهة، أيضاً، حين يقف على حالة نصوص وُجدَت بعد عمليات عصرٍ ذهنيٍّ عسير مُورستْ من أجل استجلاب تراكيب وصور لتعزيز “قوة التكوين”!.
إن السياق أو الجوّ الذين يكتب فيهما المؤلف يخيمان على القارئ لحظةَ تلقّيه النص، بحيث يمكن – نسبياً – تحديدُ مَواطِن القصدية والقسوة والتعسّف في استخدام اللغة وصنع تراكيبها، من مواطن العفوية الشعرية داخل النص؛ وحتى نكون من الدقة نشير إلى مكونات سيكولوجية داخلة في تكوين بعض النصوص دخولاً إيحائياً وإشارياً يترتب عليه رؤيتنا لمظاهر التعسّف والقسوة المشاركة في تكوين بعض النصوص، من منظور سيكولوجي؛ يشيرُ إلى قيام المؤلف بممارسة ميول سادية على اللغة. ويكون الخيطُ الفارقُ بين “القسوة والتعسف في استخدام اللغة”، وبين “ممارسة القسوة والتعسف، في إطار من السيكولوجية بحقّ اللغة”؛ في مثل هذه اللحظة شديدَ الدقةِ والندرة، بيد أننا نقرّ بوجوده.
إن غياب النزاهة، منوط بدرجة أولى بسعي القارئ نحو إرضاء الآخر- المؤلف، وعملية تكرار الإرضاء هذه يترتب عنها وثوق علاقة القارئ بالمؤلف، على حساب أصالة العلاقة بين النص والقارئ، الأمر الذي يعزز ويؤكد عقد (التواطؤ). ولنتصور مثلاً أن أحداً تعرض في المرة الأولى لقراءة نصوص مؤلفٍ ما، ثم بعد هذه القراءة توثّقت العلاقة الشخصية بين القارئ والمؤلف، ما دفع القارئ دافعُ الصلة الذي وقوده في مثل هذه اللحظة الاستحياء، أو الامتناع عن التعرّض لقراءةِ نصوص لذاتِ المؤلّف وبيان ما فيها من قصور ونقصان فني وضحالة. إن هذا الوقود، بالضرورة، سيضيئ العلاقة الشخصية، وفي الوقت نفسه سوف يخنق النزاهة الفنية. وهل نتوقع، مثلاً، من قارئ مرافق ومصاحب لشاعر ما؛ أن يتقدم يوماً بقراءة يشير فيها إلى نقاط الضعف والخلل والهبوط الفني!.
لا يختلف اثنان على أن “الذائقة” حقٌّ ومرآةٌ فردية، إنها أحد مظاهر “الحرية الأدبية” لدى المتلقي، وهي متعددةٌ بتعدّد كمية وكيفية التلقي، غيرَ أنّه حتى هذه الخاصية الفردية باتت مستلبة وتابعة لقوى ذات آثار “نفعية”، هذه الخيانة التي تتعرض لها الذائقة من قبل “الذات المالكة” بتأثير من الخارج؛ تشيرً وبقوّة إلى تفاقُم أزمةِ القيم، وتعرّض الخطاب النقدي الأدبي لأشد الخيانات والتشويهات؛ هذا القول لا ينطبق بالضرورة على “الآراء الانطباعية” المسجلة هنا وهناك حول نصوص مبعثرة، ذلك أن معنى الانطباع يكتفي بدلالته المحدودة في إطارٍ لا يسمح للخائن باحتراف التضخيم. وعلى أية حال فـ “المُعْطَى الانطباعي” لا يمنح النصَّ الإضاءة المُرْضيَة للخطاب النقدي.
ولعلّ من أبرز أمراض وسلبيات الخطاب النقدي الحالي هو ممارسة القارئ – الكاذب استلاباً فظّاً لحريَّتِه الفرديّة – “الذائقة”، عبر قيامه بعملية تعاقد عاطفي “تواطؤ”، مع أطراف أخرى، تفضي إلى نشوء تكتُّلاتِ و”مَحَلّيَّاتِ” وجماعات “الخداع البيني” – (الشلل)، والمرتزقة والكذابين والإرهابيين الجُدُدْ.