فضاءات فكرية

من شروط ومعايير بناء الدّولة الحديثة شرعية حقوقية قانونية

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

    تعاني الدّولةُ العربيةُ الحديثة في أصل بنيتها وتكوينها السياسي –بصرف النّظر عن ماهيتها أو نمطها القائم، سواء كان نمطاً تقليدياً قبلياً (ملكية، أميرية، سلطانية) أم معاصراً حديثاً (جمهورية)– من أزمة شرعية حقيقية، حاولتْ وتحاولُ نخبتُها (سلطاتها) الحاكمة دوماً التعويض عنها (أو اكتسابها) فقط من خلال عنصر أو مفردة القوة والإكراه وعامل الردع القائم على هذا الاستخدام الواسع واللا مقيَّد للعنف بحق المجتمعات وذلك بهدف إخضاعها وتسكينها والنفاذ الآمن إلى ثرواتها وخيراتها بلا ضغوط ولا قيود ولا اعتراضات.. ورغم ما قامت به (سلطات تلك الأنماط السياسية الحاكمة) من محاولات القبض على (أو شراء) الشرعية عبر إشاعة مظاهر الحداثة الشكلية من خلال إغراق مجتمعاتها بأشكال وألوان شتى من مظاهر الاستهلاك الحداثي الفارغ، فقد بقيت فاقدة لشعبيتها وجماهيريتها، وبقي القوة والعنف سيد الميادين كلها..!!.

نفتح هنا هلالين لنقول ونؤكد على أن الحداثة والحضارة قبل كل شيء هي علم ومعرفة وبناء وإبداع وابتكار وامتلاك القدرة على الابتكار والخلق الذاتي.. والحضارة ليست في نشر ثقافة الاستهلاك وتعاظم الاستهلاك وعلو المباني واتساع الشوارع وتكاثر المولات وإقامة الحفلات الباهظة واستجلاب الفنانين العالميين والوكالات العالمية في اللباس والهواتف وغيره.. بما يعني أن العرب -وهم على رأس الدول الاستهلاكية- ليسوا “حضاريين”، وليسوا “حداثيين”، أي أنهم ليسوا أكثر من متطفلين على دوائر الحضارة العالمية المعاصرة ومختلف مواقعها في تصنيعها وإنتاجها الإبداعي وتقنياتها العلمية الحديثة.. وهذه كلها لا تمنحهم ولا يمكن أن تُكسبَهم أية شرعية مجتمعية حقيقية..!!.

طبعاً نحن عندما نؤكد على مفردة الشرعية هنا، وضرورة حيازة الحكومات والسلطات عليها، فإن له سببه ومبرره الواضح، وهو أن التطور السياسي والاقتصادي لأي بلد مرتبط أساساً بتنمية أفراده ومساهمتهم الفعالة في تلك العملية لأنهم قاعدتها وجوهرها، إذ كيف تتحقق الحداثة والتصنيع والانتقال لمجتمعات التطور العلمي والصناعي والازدهار الاقتصادي من دون مشاركة الفاعل الرئيسي وهو الإنسان؟! وكيف يمكن ضمان مشاركته من دون مناخ وبيئة سياسية تتقوم بالحقوق والحريات وبناء دول القانون والمؤسسات؟!..

هذا الإنسان الذي تعاملت معه الدولة التحديثية العربية ككائن وظيفي بيولوجي ليس إلا.. بل كان في آخر مراتب ودرجات اهتمام غالبية نخب وأحزاب بلداننا العربية (الأحزاب الدينية والعلمانية على السواء).. والسبب أنها نخب وأحزاب (سلطوية) بالمجمل العام انتمت للفكر الشمولي الذي هو (بالضرورة والماهية والبنية) فكرٌ لا يقدر ولا يحترم الذات كذات إنسانية، بل هو فكر إقصائي إلغائي، لا يرى غير ذاته العَليّة، ولا ينظر سوى إلى رهاناته وقناعاته ومصالحه الحتمية.. يحاول دوماً فرض رأيه وسلطته على المجتمع، ويعمل للسيطرة على كافة جوانب الحياة العامة منها والشخصية الفردية على السواء.. إنه فكر خلاصي لا يعتقد ولا يؤمن مطلقاً بشيء اسمه “حوار” أو “مشاركة” أو “تفاعل خلاق” أو مرونة أو آخر مختلف.. فمن يخالفه الرأي، خائن عميل أو كافر مرتد.. ولهذا: عن أية مشاركة أو حياة سياسية حقيقية نتحدث في عالم عربي أو مجتمعات عربية أو دول عربية (حديثة!!) تأسست بنيتها على هذا النمط من الفكر والتفكير الخلاصي الأحادي الشمولي الذي هو بحدّ ذاته فكرٌ مولِّد دوماً للأزمات والحروب والصراعات، وهو لا يعيش ولا ينتعش إلا في أجواء التوتر والتناقض والاستقطاب والتنابذ؟!.

إن المشاركة والحياة السياسية الحقيقية الراقية المفضية لازدهار مجتمعاتنا، تحتاج لنخب وأحزاب وطنية يؤمن وتعتقد بالحوار والمشاركة، وتقر بالاختلاف وتحترم الآخر قانونياً وحقوقياً.. تحتاج لنظم حرة غير خاضعة أو منتخبة من الخارج.. نخب وحكومات لا تتسلط على شعوبها لصالح مشغليها في الخارج.. بل تبني الإنسان وتعطيه حقه في أن يكون له وجود ودور فاعل منطلِق من حالة طواعية ذاتية.. وهذا لا يتحقق من دون البدء بالتحول السياسي الحقيقي..

..هذا التحولُ والانتقالُ المنشود يتطلبُ من القيادات والنخب الطموحة -إذا كانت ترغب فعلاً ببناء دول فاعلة حاضرة ومنتجة بحداثة داخلية تتوطن فيها المعرفة والعلوم- إعادة النظر بمفهومها عن الدولة ومكانتها، ودورها، ووظيفتها وموقعها في البنيان السياسي العام للمجتمع، وضرورة إرجاعها إلى ميدانها الأساسي، ألا وهو المجتمع.

وعندما تكونُ الأمةُ هي المنطلقُ الحقيقي والواقعي في بلورة النماذج والأهداف العليا التي يقوم عليها وجودنا السياسي والاجتماعي العام، عند ذلك يمكن أن نقول بأننا نسيرُ على طريق تحقيق ذاتيتنا، والاستفادة القصوى من ذخائرنا وقدراتنا الروحية والمادية ، وتفجير طاقاتنا ومواردنا الهائلة..

والمطلوب هنا:

-أولاً: كسرُ الحواجز النفسية والعملية الكثيرة القائمة بين الدولة وعموم أبناء المجتمع، وذلك من خلال نزول قيادات الدول إلى الأرض، ووقوفهم أمام حقائق الأمور، وتلمّسهم لهموم الناس، ومشاكلهم، ومشاغلهم ووإلخ.. ولا نعني “بالنزول” هنا أنْ ينزل رئيس هذه الدولة أو أميرها أو ملكها إلى الأرض بجسده فقط، ولكن بروحه ومشاعره وكيانه ووعيه وطموحات شعبه..

ولذلك نحن نعتبر -طالما أننا نتحدث عن الدولة العربية التحديثية- أنّ أهم الحواجز (المطلوب كسرها وتهديمها) هو حاجز التسلط والخوف المرعب الذي جعل من أنظمة الحكم العربية الحالية “دولاً أمنية تسلطية بوليسية” بامتياز، لا همَّ لها ولا شغل لديها سوى التفنن في اتباع أحدث أساليب الرقابة الدائمة على الناس، وملاحقتهم حتى غرف نومهم، ومنع تفكيرهم بالتغيير والإصلاح.. وقد تبدت دولنا العربي -من خلال ذلك الحاجز- بأنماط وحشية من القهر والاضطهاد والاستبداد والاستعباد ومصادرة الحريات وكم الأفواه وإلغاء الآخر وإشاعة الإرهاب والكبت والقمع؛ فأصبح الفرد (المواطن!) مكبوتاً ملجوماً منذ ولادته، وعاجزاً عن وعي واستلهام وتنمية عناصر ومعطيات التفكير السليم المبدع، وبالتالي بات مقيداً عن الانخراط في مسيرة الإبداع الحضارية الإنسانية بسبب افتقاده للبيئة السياسية المحلية الصالحة للإنتاج والإبداع، وهي بيئة الحقوق والحرية باعتبارها الشرط الأولي لنمو بذرة الإبداع والإنتاج في أية بيئة..

لذلك فالدولة التي تحترم نفسها، وتقدر شعبها، وتشعر بأهمية وجود مواطنيها، ودورهم الفعال في المجتمع، وتعتبر نفسها شرعية (في وجودها وامتدادها)، وشعبية في ممارساتها، ووإلخ، هذه الدولة هي الدولة التي تمتلك كل تلك المواصفات وغيرها.. وليست بحاجة مطلقاً إلى الجانب الأمني الرادع إلا من باب تحقيق استقرار المجتمع ومنع مصادرة أسس الازدهار، والحفاظ على أمن وحدود المواطن والأمة ككل بالطريقة الإنسانية الحضارية التي تحفظ كرامة الإنسان، وبما يخدم كل أفراد المجتمع، وليس أمن النخبة السياسية الحاكمة فقط.. وطبيعي جداً أنْ تهتم الدول كلها بالأمن، لكن الذي يميز الوضع في الدول العربية -عن الدول الأخرى- هو عدم وجود ثقة بالوعي الوطني لدى الشعب أو الأمة ككل، والنظر إليه كقوة معارضة كامنة، وكوحش تغييري قادم.. حيث أن الدولة في مجتمعات العرب عموماً تتوقع من مواطنيها أن يتحولوا بسهولة إلى لعبة بيد القوى الخارجية الغربية أو الأنظمة المعادية العربية، كما تتوقع منهم أن يصبحوا بين ليلة وضحاها ضحايا سهلة لدعايات التجمعات والجماعات المتعصبة إياها..

إننا نتصور أنّ الدولة -بالرغم من الاستخدام الكثيف للفكرة القومية والتربية اليومية للمشاعر القطرية والشوفينية- تتصرف في الواقع على أساس أنها دولة جهازية إكراهية.ـ لا تراهن إلا على قوة عامل العنف فيها، وضمان ولاءاتها العلنية، أي لا تؤمن بأن من الممكن فعلاً المراهنة على المشاعر الوطنية والإسلامية أو المسؤولية الجماعية. وإن كل من لا يعلن من بين المواطنين ولاءه اليومي لها، يعدّ حتماً في قائمة المرشحين الطبيعيين للتعامل مع الخارج (المتهم دائماً) والتآمر ضد الدولة.. لذلك فالمشكلة هي أن السلطات القائمة في بلدان العرب -وبعد أن نشأت وتربت على اعتبار العامل الأمني هاجسها الرئيسي- ستبقى مفتقرة للشرعية الطوعية، وستظل تنظر إلى الناس والمعارضة، مهما كانت عقيدتها وخطاباتها، إلا من الزاوية الأمنية الردعية.. ومن الطبيعي -والحال هذه- أن يتحول الفرد-المواطن (في نظر تلك الدولة، وفي مثل هذه الأجواء الضاغط) إما إلى مخرب ومتهم على الدوام، أو إلى موالٍ لجهاز السلطة القائمة، ولا حل ثالث أبداً بينهما..

إنَّ إعادة حق الاعتبار النفسي والمادي للمواطن (الفرد) العربي، من حيث كونه الأهم في إحداث عملية التغيير والبناء والتنمية والنهوض الحضاري المطلوب العمل عليها، هو الذي سيساهم في إلغاء طقوس الظلم والعنف وحتى الإرهاب المتفشية على نطاقات واسعة في أوساط مجتمعاتنا وخاصة لدى أجهزة الحكم والأمن العربي القائمة..

والتغيير المطلوب -على هذا الصعيد لا يعني استبدال رؤوس بأخرى، أو حكم بآخر، ونظرية بأخرى، ولا قلب الأوضاع بالطريقة المسرحية المعروفة.. ولكنه يعني استبدال عقائد ومناهج وآليات عمل لا تزال تحكم وتهيمن وتؤثر -بالمحصلة الإجمالية- سلباً على حركة الفرد والأمة.. وهو يعني أيضاً خلق الشروط والمناخات الثقافية والسياسية الجديدة التي تسمح بإدخال مجتمعاتنا في عمليات التفاعل الحضاري المادي والفكري العالمي الراهن من خلال تطوير مؤسساتها القانونية بناءً على أخلاقيات الناس واعتقاداتهم، وإلا كان هذا التغيير مجاناً للواقع وفاقداً لأية مصداقية وتأثير عملي.. لكن الذي حدث (ويحدث) عملياً هو عكس ذلك، فالدولة العربية بقيت فاقدة الشرعية، لتمثل فقط سلطة النخبة العليا في مواجهة سلطة المجتمع وثقافته ومختلف تكويناته، أي أنها ظلت مستقلة عن طبيعة المجتمع ومعتمدة على الخارج (الذي تتهم الناس بأنهم متآمرين مع هذا الخارج!).. ولذلك لم تكن (تلك الدولة) مقبولة ومحترمة  لدى أفراده..

وقد ترتب على “لا شرعية” الدولة العربية، عدم اعتراف المجتمع بها، وفقدان عنصر الثقة والتواصل بينهما، وعدم تفاعل الناس معها، ومع قوانينها (الظالمة، وسَعْي الفرد (والمجتمع) للخلاص منها بكل الوسائل المتاحة أمامه.. الأمر الذي دفع الدولة إلى أن تعطي نفسها حق مراقبة كافة أوجه النشاط الوطني والاجتماعي عن طريق أجهزتها الإكراهية المعروفة من أجل إخضاع الناس لسلطتها، وإجبارهم بالقوة العنيفة على منحها الولاء والطاعة، واحترام القوانين، ودعم معاركها، وتأييد شعاراتها.. لكن، وبما أنّ الدولة تتصادم مع التكوين العقائدي والثقافي والحضاري للمجتمع، ولا تنسجم مع شعور الأمة النفسي ونسيجها التاريخي، فقد ابتعد الناس عنها، واستنكفوا عن المشاركة الطبيعية بأعمالها وفاعلياتها، ولذلك بقيت دولة غريبة ذات منشأ غير أصيل، وتنتمي إلى مرجعية حضارية ومعرفية أخرى، أي أنها تعاني أزمة شرعية كما قلنا، ولم تولد -بشكل طبيعي- من سياق تطور داخلي، وإنما كانت حكومات أو دولاً “ذيلية”، جاءت بها وفرضتها ظروف الهيمنة الاستعمارية، فشكّلَ حكمها (حكم الدولة العربية الحديثة) مزيجاً من الرعاية البطركية والجهاز البيروقراطي الموروث عن الاستعمار.

-والمطلوب ثانياً:

تطوير الإطار المؤسسي للنظام العربي بما يتناسب مع المتغيرات والتطورات الهائلة التي يشهدها العالم، والتحديات التي يواجهها هذا النظام، وذلك بهدف تحقيق الفائدة القصوى المرجوّة من الرأسمال الحضاري الضخم -الكامن في الذات والطبيعة العربية والإسلامية- قبل فوات الأوان.

وفي هذا المجال نحن نعتبر أنه لن يكون بمقدور السلطات الرسمية العربية القائمة أو حتى القادمة تحقيق ذلك الهدف الكبير من دون الإدماج الطبيعي لجماهير الأمة كلها في عملية التنمية المتوخاة بمفهومها الفردي والجماعي.. وهو إدماج يجب أن يكون طوعياً نابعاً فكرياً وسياسياً من مقتضيات الانتماء الحضاري إلى الثقافة العربية والإسلامية الأصيلة ونسيجها التاريخي والعقائدي الفعال، ليكون قادراً على الاستجابة لتحديات الحاضر وتلبية احتياجات المستقبل.

والقصد من ذلك القول بأنّ الدولة لا تستطيع أن تكون منتجة ومثمرة ومنجزة ما لم تحوز على شرعية تاريخية حقيقية مستقرة وثابتة وطوعية تقوم على مبدأ الولاء الطبيعي لها، وليس لهذه الشرعية من مصدر آخر إلا قدرتها على إشراك رعاياها في نمط حضارة عصرهم، أي في إنتاج قيمه، واستهلاكها على حد سواء.. وفي كل مرة تخفق فيها الدولة في تحقيق هذه المهمة، تطرح على المجتمع -وعلى التاريخ- مسألة تبديلها وتجاوزها، وتدخل لا محالة في أزمة سياسية عميقة كما هي حالتنا العربية الراهنة، ولا تستقيم بعد ذلك إعادة بناء السياسة وترسيخ شرعيتها وقيمها وتحقق فاعليتها إلا بالنجاح في إيجاد المخرج الذي يحقق للشعوب هذه الفرص التاريخية الضرورية لمقاومة مخاطر التهميش والذوبان الحضاري في الآخر، وبالتالي الإفقار والتدهور والموت الوطني والقومي والحضاري البطيء.. أي أنْ يكونَ المطلوبُ هو إعادة بناء المجال الجيوسياسي الملائم لنمو الحضارة في داخل بيئة سياسية عربية حقوقية تتقوم بالمواطن وحكم المواطنة بعيداً عن الوصائية والنخبوية والأوامرية والقمعية والنسلطية، مع ضرورة وجود الاقتصاد الحر الفاعل، وبناء المهارات الذاتية، وتفعيل القدرات الموضوعية.. وقبل ذلك، ضرورة تطبيق قيم العدالة والمحاسبة والمساءلة..!!.