دوليات

أمريكا وتداعيات الحرب على غزة.. تحديات تراجع النفوذ والهيمنة

بقلم: ابتسام الشامي

في ما تواصل تل ابيب حربها العدوانية على قطاع غزة، تواصل الإدارة الأمريكية توفير الغطاء لجرائم الاحتلال بحق المدنيين، وهي إذ تدّعي الدفع باتجاه هدنة إنسانية، فإنها تعتقد أن أوان وقف إطلاق النار لم يحن بعد، لكن الحرب التي تدخل بعد أيام قليلة الشهر السادس من عمرها، تترك تداعيات خطيرة على مكانة واشنطن ونفوذها.

ليست المرة الأولى التي تتصدر فيها الولايات المتحدة الأمريكية مشهد الدفاع عن الكيان المؤقت في حروبه العدوانية ضد فلسطين والدول العربية، هي تكرر ما فعلته منذ عقود طويلة، في توفير الدعم العسكري والسياسي لتل ابيب، والمشاركة الفعلية في الحرب وصولا الى قيادتها وتحديد أهداف المرحلة السياسية التي تليها. وفي وقت تعيد فيه واشنطن اليوم بعد مرور نحو خمسة أشهر على الحرب العدوانية الإسرائيلية على قطاع غزة أكاذيبها عن السعي لوقفها ومنع تمددها في المنطقة، فإن وزير خارجيتها أنتوني بلينكن، لا يترك مناسبة للتذكير بأن أوان نهاية الحرب لم يدنُ بعد، وإنّ ما تعمل عليه الدبلوماسية المشرف عليها مجرد هدنة “إنسانية” تستعيد تل أبيب في إطارها أسراها لدى حركة حماس، قبل أن تستكمل الحرب لتحقيق أهدافها وفي مقدمها القضاء على المقاومة. ولئن اختلفت الإدارة الأمريكية مع حكومة العدو في سبل تحقيق الهدف الأخير وزاوية النظر السياسية إليه، إلا أن ذلك لا يغير من كونه هدفاً مشتركاً للجانبين، تريده حكومة العدو للدفع قدماً بمخططات السيطرة الكاملة على فلسطين التاريخية عبر تهجير من تبقى من الفلسطينيين، وتسعى إليه واشنطن لفرض حلّ الدولتين، الذي لن يكون ممكناً تطبيقه في ظلِّ وجود مقاومة مؤمنة بحق الفلسطينيين في أرضهم واستعادتها كاملة من البحر إلى النهر.

أمام ما تقدم فإنه من نافل القول إن فلسطين والمنطقة في لحظة شديدة التعقيد سياسياً وميدانياً، في ظلّ صراع الإرادات القائم اليوم، بين خيار شطب المقاومة أو بالحد الأدنى إضعافها وفق الأجندة الإسرائيلية الأمريكية والغربية، وتغيير معادلات الصراع لمصلحة فلسطين وحلفائها من شأنها أن توصل إلى تحريرها.

تراجع النفوذ الأمريكي

وإزاء هذا الصراع المعقد في لحظة مفصلية على مستوى الإقليم والعالم، يصبح لكل خيار تداعياته وكلفته على الجهة التي تتبناه وتعمل عليه. وبما أن الولايات المتحدة الأمريكية لاعبٌ أصيلٌ في المعركة الجارية فإن لها نصيباً من التداعيات المتعاظمة سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، وهو ما بدأ الإعلام الأمريكي مقاربته بلغة التحذير من المفاعيل والتأثيرات في المكانة الأمريكية والنفوذ السياسي في العالم، وغرب آسيا على وجه التحديد، حيث تركّز الاهتمام الأمريكي فيها ردحاً من الزمن.

في هذا السياق، تشدِّد صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية بأن الحرب العدوانية على قطاع غزة، شكلت تذكيراً بالمعايير المزدوجة التي طالما سيطرت على المسرح العالمي”. مشيرة إلى أن “التواطؤ الغربي في معاناة الفلسطينيين يعيق الدبلوماسية الأمريكية”، وإذ توقفت عند ما تعرّض له وزير الخارجية الأمريكية خلال مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو، من انتقادات نظرائه بسبب رفض واشنطن مشروع قرار جزائري في مجلس الأمن يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة. رأت “أن عزلة الولايات المتحدة كانت واضحة في هذه القمة، على عكس قمة مجموعة العشرين العام الماضي في الهند، حيث اختتمت القمة بإدانة واسعة النطاق للعملية الروسية في أوكرانيا” وفق توجهات واشنطن. وخلصت الصحيفة الأمريكية إلى القول، إن “الحدث الراهن يظهر تراجع نفوذ الولايات المتحدة، وتغييراً في التحالفات، وتآكلاً مستمراً للمبادئ العالمية المرتكزة على القانون الدولي”.

تراجع النفوذ الأمريكي عالمياً وعلى مستوى المنطقة من شأنه أن يؤثر في مدى قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على فرض خياراتها السياسية كما كان الأمر سابقاً، وهي إذ ترى في الحرب العدوانية على غزة فرصة لتطبيق حلِّ الدولتين، وتطبيع عربي إسرائيلي واسع النطاق، فإن قدرتها على فرض هذا الخيار بات مشكوكاً في أمرها. “ماثيو دوس” وهو نائب المدير التنفيذي لمركز السياسات الدولية، يشكك بنجاعة خطة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للشرق الأوسط، مؤكداً أنها معيبة ليس لأنها مبنية فحسب على القمع الدائم للشعب الفلسطيني، بل لأنها مبنية أيضاً على القمع الدائم لجميع شعوب المنطقة، في محاولة لإعادة ترسيخ النظام الإقليمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة عبر الحكومات غير الممثلة لشعوبها التي وعدت بتحقيق الاستقرار.

ويعتقد الكاتب أن خطة بايدن بعد 7 تشرين الأول، تبدو مشابهة إلى حدٍّ كبير لخطة بايدن قبل هذا التاريخ، ذلك أن “الأولوية الأساسية هي نفسها: المنافسة الاستراتيجية مع الصين، وهي العدسة التي تنظر من خلالها هذه الإدارة إلى السياسة الخارجية بأكملها. يُنظر إلى الاتفاقية الأمنية الأمريكية السعودية على أنها خطوة ضرورية لإبعاد الصين عن الشرق الأوسط، والطريقة الوحيدة لتسويق مثل هذا الاتفاق مع مثل هذا النظام هي تغليفه باتفاقية تطبيع سعودية إسرائيلية”. لكن الكاتب يشير إلى الكثير من علامات الاستفهام التي يجب طرحها حول مثل هذا الاتفاق، لعل أبرزها بتقديره أنه “إذا كانت عقود من العلاقات الوثيقة والدعم العسكري الذي لا مثيل له بين إسرائيل والولايات المتحدة لم تمكن الولايات المتحدة من التأثير في مسار الحرب في غزة أو للحد من إساءة استخدام إسرائيل للأسلحة، فهل يمكن للاتفاق مع محمد بن سلمان أن يضمن الاستخدام المسؤول للأسلحة من قبل السعوديين؟”. ويعتبر الكاتب الأمريكي أن “أحداث الأشهر الأخيرة دمرت تماماً فرضية أساسية في اتفاقيات أبراهام وهي أن الفلسطينيين ليسوا مهمين حقاً. وقد جرى تقديم ذلك، بالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحلفائه في واشنطن، كدليل على ادِّعائهم الذي طرحوه منذ سنوات. ليتبين أن الأمر كان ذا دوافع سياسية. ولا ينبغي أن يكون هذا مفاجئاً. ففي نهاية المطاف، نتنياهو هو الرجل الذي أكد لنا أن غزو العراق والانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني كانا فكرتين عظيمتين. فهو يتمتع بسجل لا تشوبه شائبة تقريباً من الأخطاء بشأن المنطقة”.

ويخلص نائب المدير التنفيذي لمركز السياسات الدولية ماثيو دوس إلى القول، إن “أي جهد جاد لتعزيز التحرير الفلسطيني سيتطلب من بايدن الضغط على إسرائيل بطريقة لم يُظهر حتى الآن أي استعداد للقيام بها. لا يوجد مجال للالتفاف حول ذلك. ولكنه يتطلب أيضاً من الإدارة أن تنظر إلى الأزمة الحالية ليس باعتبارها تحدياً لسياستها الإقليمية فحسب، بل أيضاً للنظام الدولي القائم على القواعد الذي تدعي أنها تدعمه”.

الخروج من العراق

تراجع القدرة التأثيرية في أحداث المنطقة وتوجيهها بما يخدم الأهداف الأمريكية، لن يكون التحدي الأوحد للولايات المتحدة الأمريكية، فربطاً به تصبح علامات الاستفهام جدية وقوية بشأن حضور قواتها في المنطقة لاسيما في العراق، وهو تحدٍّ تحدّث عنه ديفيد شينكر الدبلوماسي الأمريكي الشهير في مقالة في مجلة فورين بوليسي. مناسبة المقالة الإطلالة على تحديات الوجود الأمريكي في العراق، في ضوء ما قامت به المقاومة العراقية من عمليات عسكرية استهدفت قواعد أمريكية في العراق وسوريا، في إطار الضغط لفرض وقف العدوان الإسرائيلي على غزة. وعلى الرغم من أن شينكر يتحدث عن ضربات أمريكية مؤلمة لفصائل الحشد الشعبي، إلا أنه يشير إلى وجود حالة تململ شعبي وسياسي من الوجود الأمريكي في العراق تعاظمت خلال الأشهر الأخيرة في ظلال عملية طوفان الأقصى، ويقول شينكر في مقالته “حتى لو لم تقم حكومة السوداني بطرد التحالف، فمن الواضح أن الوجود العسكري الأمريكي الكبير أصبح غير مقبول. بعد مرور عشرين عاماً على غزو العراق، حان الوقت لإدارة بايدن للبدء في التفكير في أفضل السبل لتقليص البصمة العسكرية الأمريكية في العراق”. وهو إذ يحذّر من أن “الانسحاب المتسرع والفوضوي من العراق على غرار ما حدث في أفغانستان من شأنه أن يضر بمصداقية الولايات المتحدة”، يعتبر أن مغادرة القوات الأمريكية تحت النار، من شأنها أن تؤدي إلى تعزيز “التصور الإقليمي الخبيث لتخفيض التخندق العسكري الأمريكي في ظل التمحور نحو آسيا”. مضيفاً أن “الأسوأ من ذلك أن السفارة الأمريكية الضخمة في بغداد ستكون أكثر عرضة للهجوم في غياب القوات الأمريكية القريبة، وهو مصدر قلق حقيقي للغاية”.

خاتمة

قبل أيام سكب الجندي في البحرية الأمريكية آرون بوشنيل مادة حارقة على جسده أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن رفضاً للعدوان على غزة حيث لم يعد بمقدوره تحمل ما يجري من إبادة جماعية تشارك بها بلاده بشكل مباشر، وآخر ما قاله في بث مباشر لاحتجاج هو الأقوى من نوعه في الولايات المتحدة الأمريكية “فلسطين حرة”. إحراق بوشنيل نفسه من شأنه أن يشكل شرارة لاحتجاجات أقوى في الشارع الأمريكي كما يتوقع المتابعون والخبراء، وهو ما سينضم إلى لائحة التحديات التي تواجه إدارة بايدن على المستوى الخارجي بفعل تبنّيه وقيادته الحرب على غزة، والسؤال المطروح هل تفرض هذه التحديات بمفاعيلها الاستراتيجية على الإدارة الأمريكية داخلياً والنفوذ الأمريكي خارجياً أجندة لوقف الحرب؟.