هامش ثقافي

التقليد .. الإبداع .. والعلم

بقلم: غسان عبد الله

كل شيء وله عوامله وله مقداره، عندما كنت شاباً صغيراً كان يجذبني دائماً مظفّر النوَّاب وتعلّمت منه أشياء كثيرة في كيفية التناغم بين الشعر العامودي والآخر المرسَل وكنت دائماً عندما أردّد قصائده يتهيأ لي أنني أسمع مظفّر وهو يلقيها، هل هذا وعي أم أنها تخيلات مخي تعطيني الإحساس أنني أكتب أو ألقي قصائد مثل مظفّر لكي استمتع بحياتي؟!.

وعندما رأيتُ الممثل الإيراني مصطفى زماني كنت انبهرت به وكنت أقلِّدُهُ في كلامه – المدبلج طبعاً -، ومشيته.. وتواضعه ودماثة أخلاقه.. وظننت لفترةٍ أنني هو!!. هل بالفعل أنني كنت هو؟.. طبعاً لا.

لكنني تعلمت شيئاً لم أتعلمه من العلم بل من التّقليد.. تعلّمت كيف أتكلم، كيف أكتب كتاباتي، وكيف ألقي كلماتي على المنبر وكيف أدير الحوار بيني وبين الآخرين.

كل هذه الخبرات التي تعلمتها من التقليد مكتوبةٌ علمياً في علم الأتيكيت مثلاً وفي علم الحوار ولكن الذي ينقصني هو الشخصية والأسلوب والممارسة والعمل الواقعي.

التقليد كما يقولون إنه أعمى. فعلاً إنه أعمى لأنني لم أكن مظفّر النوّاب ولا مصطفى زماني. وهذا هو عماء التقليد!. فما هو الابداع إذاً؟..

الإبداع شيء جميل وغني ويعطي الإنسان المبدع سعادةً وحباً للحياة ويجعله دائماً متأملاً في هذه الحياة وفي خلق الله سبحانه وتعالى.

ان الكثير من المبدعين يستحقون جائزة نوبل بل وأكثر. ولكن هم مبدعون لا يقدَّرون التقديرَ العلمي والعالمي. مثلاً: إن الأم المبدعة التي تصنع الغذاء لأطفالها بطرق كثيرة ولكنها قد لا تجد المال لإعداد هذا الطعام. إلا أن إبداعها يكمن في تصميمها على أن تغذي أولادها وترعاهم، فعلى المستوى الأخلاقي إنها الأم التي تستحق أكبر الجوائز.

عندما أرى عامل الأحذية يبدع في تحويل حذاء قديم بالي إلى تحفة ويبدع في إصلاحه وإعطائه المتانة والشكل الجميل للاستعمال، والحرفيّين الذين يبدعون ويتقنون عملهم وينتجون أعمالاً تبهر العالم بدون أن يحصلوا على شهادات أكاديمية وقد لا يستطيعون أن يكتبوا حتى أسماءهم وهم يستحقون جوائز لا حصر لها وقد تكون أكبر بكثير من جائزة نوبل!.

وعندما يصنع صائغ الألماس جوهرة من حجر ويعطيه الجمال من صنعه ويحوّله من حجر إلى تحفة فنيةٍ مبدعة، ألا يستحق جائزة؟.. طبعاً بالفعل يستحق ولكنّه لم يسلك الطريق العلمي والشهادات العليا ليحصل على التقدير العلمي لهذا العمل.

وعندما ترى الفلاح في الصباح يبدع في زراعة حقله ويعمل بكل قوة ونشاط عندما نكون جميعاً نائمين وهو الوحيد الذي يعمل لكي يطعمنا، أو الخباز الذي يصحو في الصباح الباكر ويعمل بجهد ومشقة لكي يأتي إلينا بالخبز في الصباح.. والكثير الكثير من النماذج التي تستحق الجوائز!.

إن الكثير من العلماء الذين يشهد لهم العالم كلّه كعالم فيزيائيٍّ في علوم الفضاء حتى الآن لم يحصل على جائزة نوبل، لماذا؟.. لا نعلم. هل هذه الجائزة هي مثل اليانصيب؟ أم أن لها اعتبارات أخرى لا يعلمها أحد؟. وثمة كثيرون لا يستحقون هذه الجائزة من عملهم غير الإنساني وحصلوا عليها مثل الصهيوني المجرم مناحيم بيغن وآخرون حصلوا عليها لاعتبارات أخرى.

إن كل إنسان يبدع ويفكر له نصيب في الحياة وعند الله سبحانه وتعالى أكثر بكثير من الجوائز. أما من ناحية العلم فإنه طريق إذا بدأتَ فيه وأبدعتَ وقرأتَ الكثيرَ فسوف يعطيكَ كلَّ ما تستطيع من أسباب التوفيق في العلم والثقافة.

نحن جميعاً أمام الله سبحانه وتعالى سواسية ولا يميّزنا عن غيرنا من البشر سوى علمنا وعملنا. وفي جميع الكتب السماوية لا يوجد من هو ذكي ومن هو غير ذكي، فالفرق هو بين الإنسان الذي يعلم والذي لا يعلم. ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾.