فضاءات فكرية

دراما رمضان لماذا العنف والابتذال الأخلاقي؟!

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

حيث تصل نسب المشاهدات إلى أعلى مستوياتها، ما يوفر لأصحاب تلك الفضائيات والمنصات فرصة كبيرة لمراكمة الكثير من الأرباح المادية الإضافية التي يكسبونها جراء عوائد الدعايات والإعلانات التجارية وغيرها.

وخلال هذا الموسم الرمضاني الدرامي 2024م – وقد دخلنا في أيامه الأخيرة – تقوم الفضائيات العربية – خصوصاً الخليجية منها – بعرض مسلسلات عديدة على شاشاتها لتسلية و”تلهية” وإرواء “جوع” و”ظمأ” المُشَاهد الرمضاني المحتاج – بطبيعة الحال – لتمضية وقت الصيام الطويل نسبياً خاصة خلال فترات بعد الظهر والمساء.

وفي رؤية تقييمية إجمالية لتلك المسلسلات التي يتم عرضها على مختلف الشاشات والمنصات يمكننا القول بأنها باتت تقدم لنا في نصوصها خلطة من طروحات اجتماعية واقتصادية وحتى سياسية تعالجُ فيها قضايا تمسُّ واقعَ مجتمعاتنا العربية في مختلفِ شؤون الناس ومعيشتهم وهواجسهم، ومعاناتهم ومكابَدتهم ضغوطات الحياة وشظفِ العيش القاهر خصوصاً في مثل هذه الظروف المعقدة والاستثنائية التي تمرُّ بها بعض مجتمعاتنا العربية على أكثر من صعيد اقتصادي وسياسي..

والواضح لهذا العام (2024م)، أن هناك عودة قوية وواسعة للدراما السورية إلى ساحة الإنتاج الدرامي العربي، على مستوى كمية الإنتاج ونوعيته وحرفية بعض العاملين فيه، وواقعية الأفكار المطروحة والمعالَجة، وأيضاً على مستوى الإنفاقات المالية العالية التي ظهرت على سبيل المثال لا الحصر في مسلسل “تاج” حيث تم بناء مدينة جديدة تشبه دمشق أربعينيات القرن الماضي بتكلفة وصلت حدود 9 مليون دولار أمريكي..!!.. إضافة إلى التوسع في التمويل في مسلسلات أخرى.

وتعرضُ شاشاتنا العربية العديد من المسلسلات السورية لهذا العام، منها: “ولاد بديعة”، و”مال القبان” و”تاج” و”العربجي2″ وغيرها كثير..

والملاحظ أنّ معظم تلكَ المسلسلات السورية التي تُعرض خلال هذا العام تناقش جملة قضايا واقعية بل شديدة الالتصاق بالواقع المجتمعي السوري، والعربي عموماً، وهو بلا شك واقع صعب تراكمت فيه طبقات من التعقيدات والتناقضات والتوترات الاجتماعية والثقافية والتاريخية، وما زال الناس فيه يعانون – خصوصاً خلال السنوات الماضية – من ضغوطات اقتصادية وسياسية واجتماعية هائلة أثرت على أخلاقهم وسلوكياتهم وعلاقاتهم ومسؤولياتهم.

ولكن على الرغم مما أبدته تلك المسلسلات من حضور للوقائع واليوميات الاجتماعية والسياسية السورية، فقد لاحظنا أن بعضها قد تجاوز حدود الرؤية والحالة الواقعية – المفترض أن تكون متوازنة ومسؤولة – إلى درجة الإسفاف والابتذال الأخلاقي والاسترخاص القيمي وانعدام الحس الأخلاقي المسؤول، سواء في مشاهد العنف الدموي التي تراكمت مشاهدها حتى باتت جزءاً من حياة ناس ومجتمع يتم تقديمه بدعامات المنفعة والرؤية المادية الضيقة فقط بعيداً عن أدنى حالات التمثل القيمي الأخلاقي الذي يردع ويمنع ويوقف تماهي الذات مع منافعها الخاصة وسلوكيات التدافع المصلحي.. وهذا ما لاحظناه وشاهدناه أيضاً في مجال آخر يتصل بأخلاقيات التقاليد الاجتماعية والدينية للناس، حيث جرى عرض الكثير من مشاهد اللقاءات الحميمية الخادشة للحياء المجتمعي بطبيعة الحال، في محاولات فجة سافرة – قد لا تكون مقصودة ربما! – لإيقاع المشاهد في أتون صراع مع تقاليده وقيمه وموروثاته التاريخية التي تحثه وتطالبه بالانضباط الأخلاقي والتوازن الروحي والمسؤولية الشرعية.. ولا أريد أن أتوسل أمثلة بارزة وواضحة عما سبق، فالجميع يعلم حقائق وضع شاشاتنا العربية خلال شهر رمضان المبارك وهي باتت شاشات ومنصات (تصل لكل غرفة في أي منزل) تعرض ما هب ودب من أفكار وسلوكيات مناقضة لقيم الناس دونما حسيب ولا رقيب ولا خطوط حمراء أخلاقية رادعة (باتت معظم أفكار المسلسلات تدور عن أفكار مبتذلة غير هادفة؛ كالخيانة والغدر، والعلاقات المشبوهة، والانحلال الأخلاقي، وتجارة المخدرات وفعل الحرام والفحشاء وووإلخ).. يعرضون هذا في كل الأوقات ولكن تزداد الجُرعة للأسف في شهر رمضان المفترض أن يكون مناسبة لقضاء أوقات تلائم وضع الصائم وحالته وقناعاته والتزاماته، وليس العدوان عليه واستهدافه في ملعبه وميدان قيمه وأصالته وأخلاقياته دون أية إشارة واحدة ولو من باب رفع المسؤولية الأخلاقية، لوجود مثل تلك المشاهد والعروضات السافرة.. خصوصاً مع وجود سبل ومجالات كثيرة لإيضاح مشكلاتنا واستعراض أزماتنا وأمراضنا الاجتماعية من دون الولوج في مشهديات بصرية تخدش الحياء وتحث على العنف ولو بطريقة غير مباشرة.. بل وتكاد تدفع الناس لقبوله والتقليل من خطورته، بل وقبوله بعيداً عن فكرة الأخلاق والقيم والقانون نفسها الذي تعاملوا معه بطرق الاستهزاء والسخرية..!!.

أفتح هلالين هنا لأقول بأننا شهدنا في سبعينيات القرن الماضي عرض المسلسل الكوميدي “صح النوم” مع مسلسلات أخرى عديدة، وأفلام على نفس المنوال، كانت من بطولة كل من الفنان الراحل نهاد قلعي (حسني البورظان) والممثل دريد لحام (غوار الطوشة).. حيث كانت شخصية غوار الطوشة مميزة بالدهاء والمكر والخديعة وتأصّل الانتهازية التي كان يمارسها في علاقاته مع الجميع، وقد أصبحت هذه الصفات “الأخلاقية!” العملية لشخصية (غوار الطوشة) – في التآمر على أقرب أصدقائه وخيانتهم والإيقاع بهم والتسبب مشكلات كبيرة لهم – أصبحت شعاراً يتغنى به الشارع الشعبي السوري آنذاك.. وعلى الرغم من جاذبية المسلسل ومتابعته من قبل المجتمع السوري بأكمله تقريباً، إلا أنّ رسائله الضمنية أعطت دلالات وإشارات مبكّرة عن طبيعة تلك الأخلاقيات العامة التي تمت إشاعتها وربما بدأت تقبل نفسياً ممارسات الفساد والمحسوبية والاستزلام وغيرها..!!.

وللأسف هذا ما يجري حالياً، حيث تحتوي الكثير من المسلسلات على كم كبير من مشاهد القوة الدموية المستندة لفكرة التشبيح وأخذ “الحق!” بالقوة دون القانون، مع التوسع في سلوكيات تمجد العنف والحرام ومختلف أساليب اللف والدوران واللعب على الحبال، مع عرض واسع أيضاً لصور ومشاهد الابتذال الأخلاقي كما قلنا، والتي تقدم بداعي الواقعية وضرورة تشريح أمراض المجتمع كما قلنا، على الرغم من أنها ليست أمراضاً شائعة ومتفشية في كل أركان المجتمع.

وأخشى ما أخشاه أنْ يتم قبول تلك الممارسات (ومنها فعل الحرام وربما الدفاع عنه) لتصبحَ جزءاً من المزاج الشعبي رغم قسوتها ولا إنسانيتها وأثرها السلبي جداً على ثوابت القانون والأخلاق والحقوق.

لهذا وبالبناء على ما تقدم، وبالنظر إلى وجود هوية عربية إسلامية معيارية متفق عليها في مجتمعاتنا، بصرف النظر عن بعض اختلافات الرؤى حولها، وهي هوية لها خطوط حمراء يجب الوقوف عندها وعدم خرقها، تشكل أساساً لتوافقات قيمية مجتمعية معروفة، نعتقد بأن الضرورة تلك تحتم حماية الناس والمجتمع من العدوان على قيمهم وأخلاقياتهم الذي يمس منظومة الهوية وقيم الدين، وهذا يكون من خلال تنظيم وضبط كل ما يتعلق بمواضيع الإنتاج السمعي والبصري، من خلال وجود ما يمكن أن نسميه بدفتر شروط هو بمثابة ميثاق عمل أخلاقي قيمي معياري يأخذ بالاعتبار قيمنا ومبادئنا الإسلامية والعربية الأصيلة.

وبطبيعة الحال لا يجبُ أن يفهم من كلامنا السابق أننا نمارس شكلاً من الوصاية على الأفكار وحرية القول والتعبير والإبداع أياً كانت طبيعته ولونه، بل هي دعوة للتنظيم والمراقبة القبْلية، لكي لا تسقط أعمالنا ونتاجاتنا الإبداعية في فخ مواجهة الهوية والقيم الدينية، بحيث تتم المحافظة على مشاعر الناس الدينية ومنظومتهم الهوياتية، المفترض أن يتم احترامها وعدم المساس بها، خصوصاً خلال شهر رمضان المبارك..