هامش ثقافي

إرادة المعرفة والمثقف الحقيقي

بقلم غسان عبد الله

وحده الانتاج الابداعي ورحابة المخيلة ما يعالج كوارث السياسيين ويرمّم التشوهات التي يحدثها الحاكم، ليس بوصف المثقف عاملاً في بلاط السلطة بل بوصفه صاحب الدور الإنساني الأهم والأشمل وهو: إنتاج المعرفة.

التخلي الصريح للمثقفين العرب عن دورهم الإنساني في جَعْلِ العالم جديراً بالاستمرار عبر مواصلة إنتاج المعرفة، وإسعاف المجتمع بمقترحات المخيلة من علاجات لإشكاليات الواقع التي أشاعت الإحباط واليأس، سيتم توثيقه على أنه الموقف الذي يمنح النهوض العربي إيجابية كشفه لزيف المشهد الثقافي العربي وهشاشة مكوناته وشخوصه من حيث تصنيفهم كمثقفين أو فهمهم لدورهم الاجتماعي الذي يتطلب احتراماً صادقاً لهذا الدور والتزاماً صارماً بالمسافة مع السياسي بما يضمن استمرار انتاج المعرفة وفق شرط الحرية بمعناها الواسع والجاد.

يبدو أن انتقاد موقف المثقفين السلبي سيكون مبالغة غير حصيفة إذا ما صادف التوثيق والتسجيل لمجريات المشهد مواقف أكثر تعقيداً وصعوبة تكشف عن أن المأزق الثقافي الراهن أخذ منحى يقترب كثيراً من الجهل والصلافة والعنف، تفوَّقَ المثقفُ فيه على السياسي ورجال الدين. حينما نعايش ظاهرة محاربة المثقفين ومقاطعتهم للنشاط الثقافي بناءً على حججٍ سياسية تؤكّد انهيار المسافة بينهما ما أفضى إلى بروز شخوص (السيا/مثقفين)، ينبغي علينا أن نعرف بأن إلغاء المسافة بين الثقافي والسياسي لا يعطي المثقف وحده حقّ التدخل في قرار السياسة بل في المقابل سيتخذ السياسيُّ قرار الثقافة حينها تخسر الثقافة، وبكل تأكيد لا تربح السياسة.

يقول أحدُ الفلاسفة: “الظفر بفكرةٍ تتقدم بها الحياةُ أفضل من الظفر بمُلكِ فارس” هذا ليس عبثاً فكلّ المثقفين الحقيقيين والمفكرين يعرفون أن هذا هو الشرف الأكبر أن تكون جزءاً من تقدّم الحياة وليس السعي لمكاسب السياسيين، يقول “جون ستيورات ميل” وهو فيلسوف بريطاني كما أنه اقتصادي بارع إلا أنه سيعشق كتابة المقالات وسيشتهر بها: (ليس هناك من شاعر عظيم أو فيلسوف عظيم أمكنه الحصول على مقام رفيع أو مورد رزق بسبب كونه شاعراً أو فيلسوفاً!)، على الرغم من ذلك هجر ستيورت المناصب وإغراءات السياسة ووقف موقفاً مناهضاً لعبادة كل أشكال السلطات وبقي في ساحة الثقافة والفكر يعمل لتقدُّم الحياة هاجراً مغرياتِ أموال فارس كلها.

مَنْ تغلُبُ عنده إرادة العقيدة أو إرادة الإيديولوجيا على حساب إرادة المعرفة عليه أن يتيقن بأنه أصبح خارج منظومة الثقافة بمعناها الحقيقي والعميق الذي جعل كلّ مفكري وفلاسفة وأدباء فرنسا يشعرون بدورهم الرائد في الثورة الفرنسية عام (1789) حينما أخلصوا لإرادة المعرفة على الرغم من أنهم تداولوا كل المواضيع والقضايا الأساسية قبل الثورة بسنوات طويلة حيث بادروا بآرائهم في الحرية والمساواة وحقوق الإنسان والعدالة والمواطنة والقانون والدستور، والفصل بين السلطات، وساهمت تلك الآراء ليس في نهضة فرنسا سياسياً واجتماعياً فحسب بل في دول أوروبا جميعها دون التورط أو الاستجابة لمغريات السياسة واستحقاقاتها التي تؤثّر على طاقة الإنتاج لديهم أو الصدق والعفوية والحرية التي سيتطلبها دورهم الثقافي وهو الدور الإنساني التاريخي الأهم في مسيرة بلد الثقافة والفنون والحضارة والنهضة السياسية فرنسا.

لا أزال أثق بأن النشاط الثقافي وحده الذي يستطيع أن يصنع التغيير وتقع عليه مسؤولية جدوى الحياة بعد كل هذا الإرهاق والانهيارات، إنها إرادة المعرفة ما ينبغي التعويل عليها لدى المثقف الحقيقي.. ذلك ما سيجدي ويفيد.. كما أظن!.