تأمّلاتٌ في المَعرفةِ القرآنية
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
القرآنُ الكريم دستور المسلمين وجوهر وجودهم ومحور حياتهم، ولا بد لكل مسلم ملتزم من معرفته بالإطار العام، وهذا أمر ملزم وواجب وضروري.. أما معرفته معرفة دقيقة وعميقة – في تحليل آياته والتوغل الواعي والمدروس في مدلولاته والوصول لمعايير وضوابط مؤثرة على حركة الفرد والمجتمعات المسلمة وغير المسلمة – فهو أمرٌ منوط بالعلماء والمفكرين المتخصصين في اللغة والبيان والعلوم الحياتية والاجتماعية وغيرها..
نعم، إن القرآن دستور المسلمين الخالد، يقدسونه ويبجلونه ويتباركون به ومنه، لأنه موحي من الله تعالى إلى نبيه الكريم محمد(ص)..
وقد تحدث القرآن عن نفسه وقال إنه بيان العلم والهدى والحق، من دون أية خطابات ومطولات فكرية، حيث سبيل الحق واضح وصريح ولا لبس فيه، يقول تعالى: ﴿هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران/138).. ولشدة وضوحه، يخاطب القرآن الفطرة الإنسانية ويصيغ العقلية المسلمة منذ البداية، يقول عز وجل: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ (الروم/30).. حيث يرشد تعالى الناس منذ البداية إلى حقيقة أن هذا الذي أتى به القرآن هو معرفة فطرية قصيرة الطرق وواضحة المعالم، توصل إلى الحق، ويمكن أن يُدركها كل الناس على اختلاف أفهامهم وعقولهم وأجناسهم ومواقعهم.
وبمراجعة لطرق تعامل العلماء – عبر حركة التاريخ الإسلامي – مع هذا الكتاب السماوي الخالد، نلاحظ أن تفاسير كثيرة وشروحات كبيرة وافرة، ظهرت أنتجها وقدمها كثير من علماء المسلمين، وقد ميّز بعض هؤلاء العلماء الكبار – وعلى رأسهم الشيخ الشهيد مطهري – بين أنماط أو أشكال ثلاثة من المعرفة القرآنية:
أولها- المعرفةُ السندية أو الانتسابية، وهي تعني دراسة مدى انتساب الكتاب لمؤلفه، بعيداً عن النسخ والشك في الانتساب.. وقد يصح هذا الأمر في البحث عن سند أي كتاب آخر، إلا الكتاب الإلهي (القرآن الكريم) لأنه كتاب غني عن هذا النوع من المعرفة…. فعلم القرآن متقدم على النسخ وعلم المعرفة بالنسخ… لأنه فضلاً عن كونه كتاباً مقدساً سماوياً أنزله تعالى وحياً على نبيه الكريم محمد(ص)، فهو أقوى دليل وبرهان على صدق دعوى الرسول وأكبر معجزة من معاجزه.. وهنا يرسم لنا الشهيد مطهري صورة واقعية تاريخية لنا عن رسوخ البعد السندي والانتسابي للقرآن، حيث يشير إلى أنّ هذا القرآن الكريم له قوة أدبية جاذبة تشد الناس إليه، وتحملهم على سرعة استيعابه، بخلاف ما هو عليه الأمر بشأن كتب الأدب الأخرى.. وقد نزل قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾(الحاقة/44-46).
وعلى الرغم من أنه أحدقت الكثير من الأخطار بالقرآن وهددته في احتمال أن يتم تحريف آياته وبيانه العظيم، إلا أن رعاية المسلمين لكتابهم الكريم، وذكائهم في التعامل معه، وحسن تقديرهم للأمور وقف سداً منيعاً أمام كل محاولات التحريف، أو وقوع هذا الاحتمال، إذ أنهم تنبهوا مبكراً وأدركوا أن عليهم واجب أنْ يمنعوا ويدرأوا خطر أيّ تغيير متعمد، أو حتى غير متعمّد في القرآن الكريم، فاستفادوا من حفظته ومن الصحابة، وأرسلوا نسخاً مصدقة من المدينة إلى كل تخوم الإسلام البعيدة جغرافياً عن مركز الدعوة.
الثانية-المعرفةُ التحليلية:
وهي مرحلة الدراسة والتحليل لما يشتمل عليه الكتاب من مواضيع ورؤى ونظرات ومطالب ومقاصد وغايات في كل مواقع الحياة البشرية، أي في كل ما يتعلق ويتصل بوجود الفرد والإنسان والمجتمع في حركة الحياة، وطريقة عرض الكتاب لتلك المطالب والمسائل، وأسلوب معالجته لها.. حيث يمكن القول بأن الأسئلة الواردة المتعلقة بوجهة نظر الكتاب في الكون والإنسان والحياة والموت.. هو ما يصطلح عليه فلاسفتنا اليوم بحكمته النظرية.. وأما الأسئلة التي يعرض فيها الكتاب خطة لمستقبل الإنسان… فهي رسالة الكتاب.
الثالثة-معرفةُ الأصل:
وتعني هذه المعرفة أنْ يبدأ المرءُ -بعد أن يطمئن ويرتاح لأمر نسبة الكتاب إلى مؤلفه، وبعد التحليل التام لمضمونه- في البحث عن محتويات الكتاب ومطاليبه فيما إذا كانت من إبداعات فكر المؤلف نفسه، أم إنها مدينة إلى أفكار الآخرين..”.. ويعتبر مطهري أن هذه المعرفة جزء أو فرع من المعرفة التحليلية.. “أي إننا يجب أولاً نعرف محتوى أفكار المؤلف بدقة، ومن ثم نتوجه إلى معرفة أصوله، وهي أصالة الانتساب، وأصالة المحتوى، والأصالة الإلهية..
وأما عن شروط المعرفة القرآنية، فهي معرفة اللغة العربية معرفة دقيقة وعميقة بمفرداتها وتعابيرها ومعانيها، في نحوها وصرفها، وكل مواقعها.. وأيضاً معرفة تاريخ الإسلام بالتفصيل وليس الإجمال العام، ومعرفة أقوال الرسول الأكرم(ص) وأحاديثه ورواياته والأحداث التي ترافقت مع دعوته.. لأن هذا الرسول الكريم هو بحسب ما جاء في نص القرآن، هو المفسر الأول لهذا الكتاب: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ..﴾ (النحل/44).
وبطبيعة الحال، لم ينزل القرآن الكريم ليتبرك به الناس، ويقرؤونه أيام المناسبات الدينية أو خلال الصلوات والزيارات وغيرها، بل له معاني حقيقية للتنفيذ في حركة الواقع والاجتماع البشري، ومعانيه واضحة وغير صعبة في هذا الاتجاه.
إنّنا نتصورُ أنّ التركيزَ على فكرة أنّ القرآن صعب مستصعب (ولا بد من تأويله باطنياً)، وأنه نزلَ فقط للتلاوة والتبرك، ونيلَ الثواب والتيمن، هو أمرٌ مرفوض ومستنكر، وهي نزعةٌ ستؤدي حتماً إلى سلوك طرق الانحراف والضلال، وجعل القرآن غير ذي غاية وغير ذي معنى وجودي حياتي.. أي يُفقد نصوص القرآن التي تحدثت عن الحياة والإنسان والوجود معانيها الحقيقية في ضرورة تجسيدها وتمثلها في حياة الناس بلا تأويلات باطنية مغرقة في ضبابيتها، ولا تفاسير غامضة بعيدة عن القصد القرآني الحقيقي في بناء الحياة على القيم والأخلاق والعدالة.
وهذا لا يتحقق في واقع الأمر إلا بمعالجة المحتوى والمضمون القرآني كلياً وشمولياً لا جزئياً.. ونقرأ كيف يقول تعالى عن كتابه الكريم بأنه كتابه ورسالته تتلخص وتتمحور في الهداية.. أي هداية أبناء البشر وقيادتهم للخروج بهم من الظلمات إلى النور: ﴿كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ﴾ (إبراهيم/1).
وهذا كله يحملنا مسؤولية معرفة حقيقة المعاني القرآنية، وأنها نزلت للعمل والتطبيق وليس فقط للقراءة والتلاوة والتبرك، مع أهميتها.. حيثُ يظنُّ البعضُ خطأً أن تلاوتَه تعني قراءته طمعاً في الثواب فقط، دونَ إدراك شيءٍ من معانيه ومضمونه.. وقد نجد في حياتنا كثير من هؤلاء الناس ممن يقرؤون ويختمون القرآن مرات عديدة، ولكننا إذا سألنا أحدهم إن كان قد فهم أو أدرك معنى ما يقرأ، فسوف يعجز عن الجواب.. ولهذا نعتقد أن قراءة القرآن يجب أن تأتي ليس فقط من باب التلاوة بقصد التبرك ونيل الثواب الرباني الأخروي كما قلنا، بل أيضاً بقصد فهم مقاصده ووعي غاياته والتأمل في معانيه الكبرى على مستوى بناء الشخصية الإسلامية المتكاملة في أخلاقها وسلوكها وعلاقاتها الخاصة والعامة، أي بما يستلزم مخاطبةَ الإنسان تربوياً وأخلاقياً وسلوكياً، حيث أن للتربية دوراً مهماً وحيوياً في حياة الفرد المسلم، حيث تكون بمثابة السد المنيع في مواجهة الفتن، ومن أعظم وسائل وأدوات الثبات على الدين.. وهذا ما يحققه كتاب الله، فالقرآنُ كتابٌ للقلب والروح، كتاب للتربية والأخلاق، كتاب يثير الأشجان، ويسيل الدموع، ويهز الأفئدة. ويصدق هذا حتى على أصحاب الكتب الأخرى ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وإذا يُتلى عَليهِم قَالوا آمنّا بِهِ إنّه الحَقُّ من ربّنا﴾ (القصص/52).
نعم، هذا هو القرآن الكريم الذي يَهْدي للأحسن والأقوم والأرقى فكراً وأخلاقاً وتربية، يقول تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيراً﴾ (الإسراء/9).. ﴿وَإنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ*لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (فصلت/41-42).
وجاء عن الإمام علي(ع) في وصف القرآن الكريم: “جَعَلَه اللَّه رِيّاً لِعَطَشِ الْعُلَمَاءِ، ورَبِيعاً لِقُلُوبِ الْفُقَهَاءِ، ومَحَاجَّ لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ، ودَوَاءً لَيْسَ بَعْدَه دَاءٌ، ونُوراً لَيْسَ مَعَه ظُلْمَةٌ“.