فضاءات فكرية

الحُكم وبناء الدّولة الرشيدة التّجدد والانفتاح كشرط للثّبات والرّسوخ والامتداد

بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري

كما أنه لا يزال يعاني من الضعف على صعيد الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والأحكام المتعلقة بالحقوق العامة ولا سيما الحقوق الأساسية، وأن نظرة الفقهاء إلى القضايا العامة غالباً ما كانت تأتي أو تنطلق من زاوية الأمور الفردية المحضة، وقلما كانت تتطرق إلى المؤسسات الاجتماعية، كما أن قضايا الحكم والدولة غالباً ما كانت تأتي في سياق الحديث عن شروط الحاكم ووظائفه، ومن يجب أن يحكم، وليس عن كيفية نظام الحكم وبناء الدولة بصورة تفصيلية بالعنوان الجزئي أو الكلي. ونحن هنا لا نتحدث عما ورد في بعض النصوص والمأثورات التراثية عن أهل البيت(ع) من أحاديث وروايات ورؤى وأفكار عامة أشارت إلى موضوعة الحكم والقانون والدولة ككل (خاصة ما جاء في أسس نظم الحكم عند الإمام علي)، بل حديثنا ينظر فقط إلى نتاجات الفقهاء والرموز الدينيين ممن اعتلوا سدة الفقاهة والريادة الدينية وحاولوا تقديم رؤى ونظرات دينية بشأن نظرة الإسلام إلى قضايا الحكم والسياسة والإمارة وإشكالية السلطة.

طبعاً حاول كثير من العلماء والباحثين البحث في أسباب جمود الفكر السياسي الشيعي خلال القرون السابقة، وقد اختلفت إجاباتهم حول ذلك، وإن كانت تعيد بمعظمها سبب عدم ذلك الجمود إلى طبيعة الفهم السائد لنظرية الإمامة الإلهية ومفهوم الغيبة، والذي أدى إلى رفض التعاطي مع الدولة القائمة، بعد اشتراط العصمة في الإمام واعتبار أي قيام في عصر غيبة الإمام المهدي، نوعاً من الضلالة.. وقد لاحظنا أن اقتناع وتبني مفكري وفقهاء الشيعة عموماً منذ ذلك الوقت لنظرية الانتظار (السلبي “الانتظار وعدم العمل“، وليس الإيجابي “الانتظار مع السعي والعمل والبناء) أثّر سلباً على إنتاجية الفكر السياسي الشيعي، وأدى إلى إحجام الشيعة عن السياسة، وابتعاد رموزهم عملياً عن ساحة الحكم والإدارة الاجتماعية طوال القرون الماضية.

ويمكن أنْ نسجّلَ هنا موقفين اثنين ظهرا لدى فقهاء الشيعة على الصعيد السياسي وموقفهم من إشكالية الدولة والحُكم ككل، حيث يؤكد الموقف الأول على رفض إقامة الدولة في عصر الغيبة، بينما ينظر الموقف الثاني بإيجابية إلى قضية الدولة، وهذا الموقف هو الذي حسم قضية الحكم بكافة متعلقاتها، وحاول استنباط شكل خاص لنظام الحكم في عصر غيبة الإمام الثاني عشر(عج). وقد أخذ هذا الشكل حالياً صورة جمهورية إسلامية في إيران تتبنى الانتخابات العصرية وأشكال الحكم البرلماني الحديث في كل ما يتعلق بقضايا السياسة ومختلف شؤون الناس والمجتمع.. كما أخذَ شكلَ الديمقراطية التعددية المتصالحة مع الدّين في نموذج العراق الحديث، بعد زوال حكم صدام حسين، وإنْ كانت معالمه (معالم شكل الحكم العراقي) غير متجذرة بصورة قاطعة ونهائية حتى الآن، بل هي كما يبدو في حالة مخاض وولادة مستمرة، وقد تحتاجُ لسنوات وعقود حتى تثبت وتقوى وتترسخ في ظل خضوع الجميع لمنطق القانون والتنافس السياسي السلمي التعددي.

ومن الجدير أن نشير هنا إلى كل تلك الجهود الإنسانية الكبيرة والخبرات الحضارية الواسعة والتراكمات الفكرية السياسية الشاملة التي نتجت عن فضاء ثقافي ومعرفي مختلف عن مجالنا الثقافي والسياسي الإسلامي، ساهمت بقوة في الوصول إلى أفكار ونظريات سياسية خاصة بضبط موضوعة السلطة والحكم ومعالجة “إشكالية الدولة” كظاهرة تاريخية، أوصلت (مخاضات ومآلات تلك المعالجة) البشريةَ بصورة فعالة إلى هذا المستوى المذهل والمتقدم من التطور التقني والسياسي العملي.. ففكرة الديمقراطية مثلاً – كآلية لإدارة شؤون الدولة والمجتمع مبنية على فكرة العقد الاجتماعي التداولي السلمي، والتي أخذت بها منظومات الحكم السياسي الإسلامي – أحدثت في مجتمعات العالم كله فتوحات سياسية واجتماعية عملية لا يمكن غض النظر عنها حتى لو داخلت تطبيقاتها سلبيات كثيرة؛ فسلبيات الديمقراطية وشوائبها – وما يمكن أن يرافقها من خلل في واقع التطبيق المجتمعي – خير وأفضل من كل إيجابيات الاستبداد (إذا كانت له بالأساس أية إيجابية أو فائدة تُذكر).. وهذا كله استند إلى قيم العقلانية والحداثة الفكرية ومجمل منجزات وإبداعات الحضارة الغربية التي أسهمت مع باقي حضارات العالم – ومنها حضارتنا العربية الإسلامية التي قدمت رموزاً ورواداً وعظماء كبار في شتى مجالات العلم والمعرفة الإنسانية – في تطوير المسيرة الإنسانية على مستوى سعيها للبناء الإنساني الحضاري الرصين والمعياري.. وهذا ما يجب الوقوف عنده في صلب التحليل والاستعراض “السياسي-الاجتماعي” المطلوب.. ولا شكَّ أننا ما زلنا نفتقر-فيما يتعلق بالبحث في نظريات الحكم والدولة بصورة عامة، والمقارنة بين طبيعة الحكم الإسلامي والحكم الوضعي- لتقديم قراءة علمية موضوعية موسعة ومعمقة للقانون الوضعي الغربي، مع ما أنتجه من تطورات عملية واجتماعية واضحة وشاملة.

ولهذا عندما نناقش أي طرح أو رؤية أو نظرية سياسية على هذا الصعيد (الإسلامي الديني أم الغربي الوضعي)، من الطبيعي جداً أن نستعرض كافة الآراء والانطباعات الإيجابية والسلبية حولها..

فمثلاً عندما نتحدثُ عن فكرة “ولاية الفقيه” – التي تخصنا في فضائنا السياسي الإسلامي، وهي ما زالت تشكل حجر الأساس في دستور الجمهورية الإسلامية ونظامها السياسي المعاصر – نجد أنه قد دارت نقاشات فكرية وسياسية كثيرة وموسعة عنها في كل المفاعيل والمجريات والتحولات السياسية والفكرية والاجتماعية التي أعقبت تطبيقها في إيران منذ عام 1979 وحتى الآن.. وهي كلها شكلت مدخلاً أساسياً لدى جمهور كبير من المراقبين والمفكرين والنخب المثقفة لإعادة تسليط الضوء على هذه النظرية، حيث تدور حالياً النقاشات في مختلف وسائل الإعلام بين نهجين فكريين وسياسيين أستطيع أن أصفهما بالـ “متطرفين”، أحدهما نهج يرفض النقد والتطوير والبحث والمساءلة، والآخر يريد نسف هذه النظرية الفكرية والفقهية الدينية من جذورها على خلفية عدائه للدين أو ربما جهله وعدم فهمه له، ومن دون أن يأخذ بعين الاعتبار طبيعة الظروف والمناخات المعقدة السائدة والمتبنيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والآمال الشعبية الواسعة والعملية التي قامت عليها (وأفضت إليها) تلك النظرية بعد مضي حوالي ثلاثة عقود من الزمن على العمل المستمر والمتواصل على تطبيقها في داخل إيران.

ومما لا شك فيه أنّ هذه النظرية قد شكلت في وقتها إنجازاً فكرياً وسياسياً للثورة الإسلامية في إيران من خلال مساهمتها الفاعلة في إعادة توجيه وضبط وتزخيم مسار القدرات الشعبية الإيرانية، وإخراج مجمل الطاقات الكامنة في المجتمع الإيراني إلى ساحات العمل والفعل والإنتاج.

ومن المعروف للجميع بأن الثورة الإسلامية في إيران قامت على أساس الدعوة إلى التزام الإسلام كرسالة إلهية معنوية تحمل بين طياتها فكراً سياسياً واجتماعياً قادراً – من خلال إمكانياته وطاقاته الذاتية والموضوعية – على إيصال البشرية إلى شاطئ وبر الأمان على المستوى الروحي والمادي من خلال إعطاء الحياة الإنسانية بعدها الروحي والمعنوي الهادف إلى إيصال الإنسان إلى كماله الممكن له في توازنه الواعي والمسؤول بين الروح والمادة.

وقد أكد مفكرو الثورة وقادتها الكبار على أن تركيز مفاهيم وأفكار الثورة الإسلامية في إيران على الأهمية الحيوية الكامنة في قدرات الإسلام وإمكانياته الهائلة (بما لها من دور هام وحيوي في صياغة وبناء المجتمع الإسلامي) لم ينطلق من مجرد الادعاء بأن الإسلام أفضل من جميع الحلول المطروحة على الساحة حالياً، وإنما تعداه إلى الميدان العملي من خلال استلهام (تلك الثورة) لروح القرآن الذي اعتبر أنّ الإنسان (خليفة الله في الأرض) هو المحور الأساسي في أي مشروع نهضوي، لأنه يختزن في داخله قدرات غير محدودة وطاقات هائلة غير منظورة (بالمعني الروحي والمادي للكلمة) يمكن أن تفسح المجال أمامه، وتتيح له المساهمة الفعالة في تغيير الواقع، والعروج به (بالإنسان) في سلم التكامل الروحي والمادي.

وطالما إنّ الإنسان قد بات – في عرف الثورة الإسلامية – هو القاعدة الأساسية والمفصل الحركي والحيوي الخاص بنهوض المجتمع وبناء أمة مقتدرة وقوية وقادرة، لابد إذاً من وجود فكر ومعرفة اجتهادية جديدة ترسخ مفاهيم ومعايير الفكر النهضوي، وتعمل على تحفيز وإثارة كفاءات وقدرات ومواهب هذا الإنسان، ودفعها باتجاه المشاركة الإرادية الكثيفة والمنتجة في نهضة الأمة، في سياق تحملها لمسؤولياتها التاريخية كاملة. وهنا بالذات تكمن الإضافة النوعية والعملية الهامة التي قدمتها الثورة الإسلامية في إيران للفكر الإسلامي المعاصر.. إنها نظرية “ولاية الفقيه” السياسية التي سبق لعلماء وفقهاء ومفكرين إسلاميين سابقين أن نظروا لها بعد غيبة الإمام المهدي المنتظر (الإمام الثاني عشر الغائب عند الشيعة)، ولكن الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني استكملت طرحها، وعمقت جذورها في وجدان الأمة، ووضحت معالمها، واستطاعت أن تحولها من إطارها الفكري النظري إلى حيز التطبيق والتجربة الواقعية والالتزام العملي.

وعلى الرغم من الأسئلة والإشكاليات والجدل الواسع الذي أثير حول تلك النظرية، وحول مختلف الجوانب والعناصر المكونة لها، والمتفرعة عنها فقد تمكنت – كما يؤكد أتباعها – من الوصول إلى مختلف القواعد والفئات الجماهيرية والتيارات الشعبية الكبيرة في داخل إيران وخارجها بعد أن حررتهم وجعلتهم مستقلين، ولامست أحلامهم وهمومهم وشواغلهم، ودغدغت كثيراً من رغباتهم الدينية الصادقة في الخلاص الفردي والجمعي، الأمر الذي أهّلها لتكون ضمانةً – نظرية على الأقل – لتحرير إيران من القيود والسكون والارتهان للخارج بمشاريعه وأجنداته ومحاوره الخاصة، وإيقاظ جماهير الأمة من كبوتها وغفلتها الحضارية التي سيطرت عليها فترة طويلة من الزمن, ودفعها لإعادة إنتاج حيوية وحركية تاريخية ما في القرن العشرين، باتجاه تركيز العمل نحو مواقع الفعل الحضاري. وبالمقابل كان تحرر إيران من “الشاهنشاهية”, وتحملها لمسؤولياتها التاريخية الإنسانية ضمانةً لتعزيز دور الولاية الحركي في الواقع السياسي والاجتماعي العام في إيران.

إذاً ثمة معادلة متوازنة يمكننا قراءاتها هنا – وهي التي انطلقت عناصرها ومكوناتها الداخلية بقوة في الواقع السياسي والاجتماعي الإسلامي المعاصر – بين تطور الأمة الإيرانية وتحقيقها لنهضتها الإسلامية المستعادة من براثن الاستلحاق والتبعية والانعزال عن المحيط الإسلامي، وبين ولاية الفقيه فيها. فالولاية والأمة ترتبطان الواحدة مع الأخرى. ارتباط الروح بالجسد، ولا انفكاك بينهما ما دامت الحاكمية الإلهية لا تعني وجود السلطان الجائر، أو الملك العضوض، أو الثيوقراطية وادعاء الحق الأهلي المقدس، ومادام تحرك الأمة – قائماً بالعنوان الأولي – على الوعي بالذات الحضارية الإسلامية، ورفض التبعية والاستلاب للآخر، والتماهي في داخله.

بهذا المعني يمكننا التأكيد على أن نظرية ولاية الفقيه كانت إنجازاً فكرياً وسياسياً يحسب لإيران وبالذات للإمام الخميني(قده)، لأنها – كفكرة فقهية تاريخية مؤدلجة تمت إعادة إنتاجها وتجديدها على يد المرجع الراحل الخميني – ساهمت في البداية وبصورة فعالة في إخراج طاقات الذات الإيرانية (على اختلاف انتماءاتها ومشاربها ومذاهبها) إلى الوجود الخارجي العملي، وأعادت العمل بها من جديد من خلال تنظيم رؤية وخطاب معرفي سياسي واجتماعي استطاع -في نهاية القرن العشرين- إقامة دولة إسلامية طموحة تتحرك بوعي وحرية ومسؤولية شرعية في الواقع السياسي الإقليمي والدولي، ليكون لها دور أساسي وموطأ قدم فاعلة تتناسب مع تاريخها وحجمها الجغرافي والديني والحيوي ومسؤوليتها الشرعية.. وهذا ما ساهم أيضاً في إعادة إحياء الأمل لدى قطاعات واسعة من المسلمين – وبخاصة الإيرانيين، ممن أصابهم اليأس والإحباط، واعتقدوا بأنّ الإسلام هو دين الماضي البعيد- بأن الإسلام هو دين الحاضر والمستقبل، وليس مجرد دين طقوسي (شعائري) جاء لينظم العبادات فقط، ولا علاقة له بالشؤون الاجتماعية والاقتصادية.  

وإذا كانت نظرية ولاية الفقيه قد شكلت في وقتها النظرية الناضجة الأهم (على المستوي العملي) لإعادة بناء قدرات المجتمع الإيراني, والصيغة الأكثر توافقاً وانسجاماً (مع منطق وضرورات الأحداث والوقائع والتاريخ الديني في إيران) بحيث تمكنت من إيجاد مواقع قوية لها في الواقع الإسلامي المعاصر، في طبيعة تحديدها الحاسم لأصول ومرتكزات النظام السياسي الشرعي في عصر غيبة الإمام الثاني عشر، فإنّ ذلك لا يعفي أصحابها والمنظرين لها – في داخل إيران وخارجها – من الوقوف الواعي والنقدي الطويل أمام جملة التساؤلات والإشكاليات المثارة حولها، ومحاولة البحث والتحقيق فيها من جديد، والإجابة الجادة والمسؤولة عنها. حيث أن تطورات العصر والحياة تقتضي البحث عن بدائل للأفكار العقيمة غير المنتجة، وإبداع أفكار وأدوات جديدة تحظى بقبول عامة الناس قبل أن تحظى بقبول نخبة الأمة، لأن الطريق إلى العقل والتطبيق يمر بالقلب أولاً وأخيراً..

حيث أن مرحلتنا الراهنة التي نشهد فيها متغيرات وتحولات سياسية واجتماعية واقتصادية وإعلامية كبيرة ذات تعابير وخصوصيات دقيقة ومتنوعة، هي في أشد الحاجة إلى وجود وبناء عملية النقد بطريقة بنائية حضارية عقلية تتسع للجميع، وفي نفس الوقت هو (أي النقد) بحاجة إلى توعية وترشيد فكري وسلوكي منظم في تكوين ممارسة نقدية فاعلة وقادرة على الاستجابة للتحديات الحضارية الحديثة, من أجل تحسين وضع مجتمعاتنا العربية والإسلامية المأزومة بين الأمم والحضارات الأخرى, وذلك من خلال البحث عن أسس وخصائص جديدة تطور من مشروعها الإنساني الإسلامي, ومن وعيها الذاتي لأبنيتها الداخلية في علاقتها مع نفسها ومع الآخرين في الاتجاه الواقعي الحضاري الذي يحفظ الذات والمجتمع. فالإنسان هو أساس بناء الدول والحضارات، وهو جوهر وجودها وبقائها التاريخي، كما أنه يشكل رافعة تطورها وازدهارها، وإذا كان الفرد حراً واعياً متطوراً حاصلاً على حقوقه الحياتية والمعيشية والمدنية، فإنه لا شك سيندفع بوعي وحرص شديد في مسارات تطوير مجتمعه نحو الأحسن والأفضل والأرقى في كل المواقع، وأما إذا كان هذا “الفرد-المواطن” محبطاً ويائساً ومظلوماً وغير قادر على تلبية احتياحاته البسيطة أو عاجز عن التعبير عن حريته ومشاكله وآرائه بصورة طبيعية تضمنها له الدساتير والقوانين القائمة داخل بلداننا، فإنه – عندئذٍ – سيتحول إلى عقبة كأداء وحجر عثرة حقيقية (ولن نقول كتلة نار) في طريق تطور مجتمعه ونهضة أمته، كما هو حاصل حالياً في معظم مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي أصبح أفرادها للأسف مجرد كتل صماء منفعلة غير قادرة على حشد طاقاتها الهائلة في الواقع المجتمعي العملي في ظل سيطرة عقائد وهمية وأنظمة فكرية عتيقة غير قادرة على استثمار وجوده وطاقاته في طريق البناء والخير والعطاء والمستقبل الزاهر.

والنصوص الدينية والحضارية مليئة – كما نعلم جميعاً – بالأفكار والطروحات المهمة التي تحض وتدعو وتؤكد على أن الإنسان هو غاية الوجود، وهو خليفة الله في الأرض، وبالتالي فلا بدَّ من الإنصات إلى مطاليب هذا الإنسان وآرائه وهمومه وطموحاته وتطلعاته، والعمل الدائم على إعطائه حقوقه الإنسانية الطبيعية كاملةً، لكي يتمكنُ من تمثُّل دوره الاستخلافي الحقيقي على الأرض، ويجترحَ معجزةَ النّهوض والإثمار الحضاري، حيث أنه لا يمكن ولا يعقل أصلاً أن يدعو الله تعالى –كما جاء في كل الأديان منذ فجر التاريخ والخليقة وحتى الآن- الإنسانَ ليكون خليفةً له (يمارس دوره ووظيفته ومسؤوليات الأمانة على الأرض)، من دون وجود أفكار ووسائل وأدوات تلبي طموحاته وتستثمر طاقاته وتنمي مواهبه بالصورة الأجمل والأكثر قدرة على الفعل والإنتاج، بعد أن تحرض أجمل ما فيه من قيم ومشاعر وأحاسيس خلاقة ومبدعة..!!.

إن القيام بمراجعات نقدية صارمة وشاملة أمر حيوي ومهم لأفكارنا وطروحاتنا، لأن المراجعة والنقد عنصران أساسيان للنمو والتطور والامتداد، وتحقق الآمال والغايات النبيلة، وإعادة ضخ المعاني الجديدة المنبعثة من قيمنا الأصيلة.

وفي ظني أن قوة ورسوخ أية فكرة أو قيمة معيارية يكمن في الاستجابة لشرط التجديد والانفتاح الواعي.. وما تمتلكه معانيها من قدرات ذاتية وإمكانات موضوعية حقيقية تؤهلها لتحقيق المنجز الحضاري القاضي بتمكين الفرد من ممارسه دوره الخلاق الحقيقي حقوقاً وواجبات.