الإلحادُ كظاهرة خطيرة في بلداننا هل هو فكر أم موضة؟
بقلم: نبيل علي صالح / كاتب وباحث سوري
الإلحاد اتجاه في التفكير والاعتقاد، يقوم على الشك واللا يقين، والإيمان بأصالة المادة والحس والاعتقاد بالواقع العيني الخارجي، وهو يأتي في مقابل اتجاه آخر يؤمن بأصالة الروح كاتجاه مثالي في التفكير والسلوك..
وهذا الاتجاه الأيديولوجي – المستند للرؤية الكونية التجريبية – ليس حالة جديدة أو تياراً ومذهباً حديثاً في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، فقد نشأت (منذ البواكير الأولى للحضارة العربية الإسلامية) تيارات واتجاهات مادية صرفة، وظهرت أيضاً كثير من الحركات والنخب والشخصيات الرافضة للدين ولعموم الرؤية والثقافة الدينية؛ ويمكننا ملاحظة أنه منذ العصر الجاهلي (بحسب التقسيمات التاريخية الدارجة المعروفة عن التاريخ العربي الإسلامي) بدأت تثار مثل هذه الأفكار المادية، وقد دخل القرآن مع أتباع هذا الخط (ممن أنكروا الله والمعاد) صراعاً فكرياً، كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ﴾(سورة الجاثية/24).
ولاحقاً اتسعَ نطاق تلك الحركات والتوجهات الفكرية، مع توسع حركة الفتوحات الإسلامية، وحدوث مزيد من التفاعل والاحتكاك والتمازج والتلاقح الفكري والمادي والروحي مع حضارات جديدة وأمم ومجتمعات مختلفة في أفكارها وعقائدها وعاداتها وتقاليدها المختلفة (شكلاً ومضموناً) عن حضارة العرب والمسلمين..
وكانت النتيجة الطبيعية لهذا التفاعل، والتوسع الكبير في حركة النقل الحضاري المتبادل، والتأليف والترجمة، ونشر العلوم الكلامية والمنطقية والفلسفية خاصة خلال عهد الخليفة المأمون، كانت نتيجته ظهور أفكار وافدة جديدة مخالفة للسائد من الأفكار الدينية المعروفة، عرف أصحابها في وقتها بالدهريين أو بالزنادقة (أصحاب بدع مخالفة لأهل السنة)، وهم فئة تنزع للتشكيك والمجادلة والسفسطة، ورفض القناعات والاعتقادات التقليدية السائدة على مستوى المعرفة الدينية خصوصاً.
وقد تطورت تلك الحركات في فكرها ومعرفتها، وباتت تستند على ما تعتبره “حقائق علمية” تؤيد وجهة نظرها، في رفض مبدأ الخلق، والاعتماد فقط على العقل والتجربة في الوصول إلى المعرفة والحقيقة..
وكان للرؤية الكونية الغربية – التي استندت على منهجية العلم التجريبي في بناء معرفتها حول الكون والوجود والحياة – الدور الأبرز والأهم على مستوى تأسيس وتطوير منهجية تفكير تيارات الإلحاد ونخبه وشخصياته حيث انتصرت قوى العلوم التجريبية على التفكير العقدي الكنسي المستند لأفكار خسرت رهانها (ومنظومتها المعرفية القديمة) في مواجهة نظريات العلم الحديث خصوصاً مع الاكتشافات والاختراعات التي عرفتها البشرية وأراحتها وسهلت حياة أفرادها.. ومع سيرورة الأيام وتحقق المزيد من الاختراعات والتقنيات والمعارف العلمية الجديدة، تحول الإلحاد إلى ما يوازي مدرسة في التفكير البشري في وقتنا هذا، حتى شاع وانتشر في كثير من مجتمعات العالم ومنها مجتمعاتنا العربية والإٍسلامية.
ضمن هذا السياق، ينبغي أن نفرق ونميز بين عدة مفاهيم تدور حول موضوعة “الإلحاد”:
أولاً: مفهوم “اللا دينيية”، كرؤية سياسية وفكرية “دنيوية” يؤمن بها الكثير من الناس والسياسيين والأحزاب الوضعية العلمانية، تقوم على الفصل بين الديني والدنيوي، وترفض أن يكون للدين أي دور، وأي تأثير سياسي (وقيمي) على الدولة ومؤسساتها وإداراتها.. أي ترفض أية وصاية أو مرجعية للدين في حياة الإنسان، وتؤمن بحق هذا الإنسان في رسم حاضره ومستقبله، واختيار مصيره بنفسه دونما اعتبار لشيء إلا للعقل والقانون.. وهذا من حق أتباع هذه الرؤية الفكرية والسياسية، ولهم كامل الحرية في تبنيه والدعوة إليه.
ثانياً: الإلحاد كحالة إنكار لوجود الله قطعياً، أي كقناعة وإيمان بعدم وجود علة (غير مرئية) خالقة للكون والحياة.. طبعاً بعض الملحدين ينكرون وجود الله نهائياً، وبعض الملحدين يكتفون فقط بعدم الإيمان به دونما دخول في تفاصيل ومواجهات.
ثالثاً: اللا أدرية.. وهي عبارة عن توجُّه فلسفي شكّي يعتبر بأن القيمة الحقيقية للقضايا الدينية أو الغيبية غير محددة وربما لا يمكن لأحد تحديدها أو تأطيرها لأنها من نوع المعنويات والغيبيات غير المنظورة وغير الخاضعة للمقياس العلمي الحسي المعروف. فقضايا مثل “وجود الله” أو “الذات الإلهية” بالنسبة لهم موضوع غامض كلية، ولا يمكن تحديده في الحياة الطبيعية للإنسان.. أي أنّ “اللاأدري” لا ينفي ولا يؤكد وجود الله.
واليوم يتحرك منطق الإلحاد على قاعدة ومعادلة تقول: ما لم تثبته التجربة العلمية يكون خاطئاً وغير ذي معنى بل وتافه وسخيف، يجب ألا يؤخذ به، لأن الحق والحقيقة هو ما تراه العين وتسمعه الأذن وتلمسه اليد، وما يمكن أن يُقاس بالمقياس والمكيال والمختبر، وما إلى ذلك من أدوات، وما عداه – مما لا نراه ويخرج عن دائرة العلوم التجريبية ومنهجها – كذب ودجل وغير موجود في الواقع.
ومع أن الأفكار والنقاشات والجدالات والحوارات الفكرية حول الموضوع أفضت إلى التمييز بين العلم كرؤية تجريبية لا دخل لها بقضايا العقل والروح والغيب، وأن المدركات والحواس البشرية تبقى عاجزة عن معرفة حقيقة وكنه كثير من الأمور، إلا أن الإلحاد بقي سائداً على الأقل لناحية التشكيك بالقضايا الدينية على نحو خاص.. حيث يمكننا أن نلاحظ في بلداننا العربية مثلاً انتشار موجات من التفكير اللاديني أو اللاأدري الذي لا يرتكز (على الأقل) لتفكير علمي أو منهجية علمية حقيقية في التفكير والتحليل، بحيث تحول لما يشبه موضة من موضات العصر، خاضعة لمناخات اجتماعية وسياسية واقتصادية، قد تصعد تارة وتزوي وتنحسر تارة أخرى.. بما يعني أنها لم تتحول إلى ظاهرة فكرية ومنظومة عقائدية بل بقيت في إطارها الشخصي والمجتمعي مرتبطة بنفوس ومزاجيات أصحابها أكثر من ارتباطها بقوانين العلم والعلم والمنطق والأدلة العلمية والبحث العلمي في أقل التقادير.
والأمر مرتبط بعاملين اثنين حقيقة، الأول منهما خارجي ويتمثل في التأثر (الواصل حدود الاندماج والاستغراق) في تيارات الغرب الفكرية والسياسية التي عملت على ما يمكن تسميته بــ”تأليه” الإنسان وإعلان محوريته ومركزيته الكونية، وجعل رغباته ونوازعه الأولى غب الطلب والتحقق الدائم بصرف النظر عما يفيد الإنسان ويضره، وبصرف النظر عن القيم والأخلاق المقيدة للسلوكيات البشرية المشينة.. والعامل الثاني داخلي ويتعلق بسلوكيات وأفكار كثير من دعاة الدين ورجالاته من كافة الأديان والمذاهب، ممن قدموا ويقدمون الدين كمادة للتعقيد والتعسير وليس للتسهيل والوضوح واكتشاف المعنى الإنساني.
وهنا قد يطرح سؤال حول الموقف العميق للإسلام من فكرة الإلحاد وهل يقبل هذا الدين حداثة الغرب، كما هل يقبل المسلمون في مجتمعاتهم بقيم التسامح وحرية الاعتقاد بما في ذلك احترام الحريات الشخصية والفردية في اختيار الإلحاد؟!.
في جواب مكثّف، نعم يقبل الإسلام والمسلمون قيم التسامح والحرية واحترام الآخر.. وقد عاشوا سابقاً مع مختلفين عنهم، وتعايشوا مع مغايرين لهم في بيئة اجتماعية وسياسية تدين بالإسلام.. ولكن بالشرح نؤكد هنا على أن قبول العقل الإسلامي لقيم الحداثة الغربية ومكتسباتها الفكرية وجوانبها المعرفية العملية، وعلى رأسها حرية الفكر والاعتقاد، له منحنيان أو جانبان: نظري (فكري قيمي)، وعملي (تطبيقي سلوكي)، يتحركان في مديين زمنيين تاريخي ومعاصر..
فعلى المستوى النظري القيمي، يمكننا ملاحظة أن الفكر والخطاب الديني الإسلامي يزخر بنصوص وأحاديث وروايات تتحدث عن (وتحض على) قيم التسامح واحترام الآخر، والدعوة إلى حرية الاعتقاد على أي صورة جاء، بقطع النظر عن ثغرات ونقائص شابت تطبيقات كثيرة، وقعت هنا وهناك من التاريخ العربي والإسلامي، وما تزال تحدث بقوة وشدة، فهذه النواقص ليست فيصلاً حاكماً، ولا ميزاناً أو معياراً..
إننا نعتبر أن دعوة الإسلام إلى التعارف (والتعرّف) على الآخر، تقتضي التفاعل الخصب والخلّاق معه، وهذا يستدعي بدوره السعي الحثيث لمد جسور التواصل معه، لمعرفته ومحاورته، وقبوله والاعتراف بوجوده، والعيش “التسامحي” معه، كما جاء في قوله: ﴿.. خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا..﴾ (سورة الحجرات: 13).. بما دلّ ويدل على البذور الإنسانية في هذا الدين (الذي هو خاتم الأديان والرسالات وجامع لها)، وأن الفضاء الاجتماعي الذي خلقه في البيئة التي نزل فيها، كان فضاء الحرية والحوار والتسامح الإنساني، والاعتراف بالآخر المختلف والمغاير، بل واحتضانه والحفاظ عليه، ورعايته واعتباره شرطاً لوجود الفرد المسلم..
والمبدأ الأساسي الذي تنطلق منه “قيمة التسامح” مع الآخر، وقيمة الحرية، حرية الاعتقاد، وحرية الفكر، (والذي يصل إلى درجة الواجب الأخلاقي والشرعي) هو مبدأ التكريم الإلهي “للإنسان – الخليفة”، خليفة الله في الأرض، الذي يفضي بالضرورة إلى ضرورة العيش الوجودي في الظلال الوارفة لقيم العدل والرحمة والمحبة والعفو والتسامح والحكمة والموعظة الحسنة والحرية، وعدم التفريق بين الرسل (ضمناً بين الديانات، بما يعني حتمية القبول والتسامح).. والوارد في آيات عديدة:
﴿إنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً..﴾ (سورة البقرة: 30)..
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَم..﴾ (سورة الإسراء: 70).
﴿ومَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (سورة الأنبياء: 107).
﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ (سورة النور: 22).
﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ (النّحل: 125).
﴿لَاْ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ (سورة البقرة: 285).
﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾ (سورة الكهف: 29).
فالخليفة (الإنسان) المستخلَف والمستأمَن بناء على عهد وميثاق الأمانة (أمانة الإعمار الحضاري)، يجب أن يكون وعيه وسلوكه صورة ناصعة ووجهاً مشرقاً يعبر عمن استخلفه (الخالق)، في العلم والقدرة والمعرفة والتسامح والحكمة، أي في تمثُّل صفاته وقيمه الذاتية حسب قدرته واستطاعته وكماله الممكن له.. فالله تعالى عادل، ولهذا مطلوب من الإنسان (الخليفة) أن يتمثّل ويعيش قيمة العدل في حياته الخاصة والعامة، والله تعالى عفو غفور متسامح، ولهذا يجب على الإنسان أن يكون متسامحاً وعفوّاً في حياته وأفعاله ومختلف شؤونه.. وهذا ما ورد في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ﴾ (الانشقاق: 6).. فالكدح كناية عن المشقة والتعب والمعاناة في تحصيل الأشياء، وتمثل قيم وصفات الخالق على الأرض في حياة الإنسان ليس أمراً يسيراً وسهلاً، فدونه عمل ومشقة وكدح ارتقائي متواصل نحو الله، الكمال المطلق.
كما وجاءت في التاريخ الثقافي العربي والإسلامي، روايات وأحاديث ونصوص كثيرة تتحدث عن الحرية والتسامح، ورفض الانغلاق والعصبية (كقيم سلبية مقابلة للحرية والتسامح)..
يقول الرسول الكريم(ص): “من تعصّب أو تُعصِّب له، فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه“.
وقوله: “إن الله رفيق يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف“..
وقوله: “الخلق عيال الله وأحبهم إلى الله، أحبهم إلى خلقه“.
وقول الخليفة الثاني عمر بن الخطاب(رض): “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً“.
وقول الامام علي(رض): “لاتكن عبداً وقد خلقك الله حراً“.
وقول الإمام علي(ع) في وصيته لمالك الأشتر (عامله على مصر):
“أَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ“..
وقول الإمام علي بن الحسين زين العابدين عن العصبية في توصيفه لمعنى العصبية:
“العصبية التي يأثم صاحبها، أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم“..
وهذا كله له معنى واحد وهو أنّ القيم والمبادئ الإنسانية في الدين تتقدم (من منظور العدالة والحق) على كل المعايير (العرفية) الأخرى، العصبية والانتماء الاجتماعي والديني وغيرها.. طبعاً، هذا لا يعني أن الإسلام يقف على طرفي نقيض مع الانتماءات التقليدية الاجتماعية، أو أنه يمنع الإنسان من أن يتعاطف شعورياً مع قومه أو أهله وأبناء جلدته، بل يعني ضرورة أن يعقلن ويؤنسن المسلم انتماءه القومي أو الاتني أو المذهبي، وأن يكون مع قومه ولكن من دون أن يُعينهم على الظّلم في حال كانوا ظالمين.. ولهذا فعندما تقترب العصبيّة من المبادئ، فلا بدَّ من أن تتأخر العصبيّة وتتقدّم المبادئ.
إذاً نحن أمام كمّ هائل من النّصوص الدينية الصريحة في تأكيدها على قيمة التسامح والصفح والحرية في الاعتقاد، بلا عقد ولا ضغوط، وبلا شروط أو قيود.. فالإسلام دين يسر لا عسر، وهو جاء لخدمة الإنسان، وتيسير سبل وجوده وعيشه الآدمي الإنساني، وليس الضغط عليه بما لا يطيق أو يحتمل.
وأما على صعيد السّلوك والممارسة التاريخية لفكرة وقيمة التسامح، ففي هذا تباين واضح، واختلاف معايير وأحوال ومستجدات تتبع للظروف الاجتماعية والسياسية التي حكمت واستحكمت، وهيمنت من خلالها عادات وأعراف اجتماعية ومعايير حكم سياسية لا قِبَل للدين بها، ولا علاقة لها البتة بالفكرة أو النص الديني المؤسّس القائم على “حرية الاختيار” و”هدفية القصد“.. فقد وجدنا في تتبُّعاتنا التاريخية أن المسلمين عموماً كانوا – على مر التاريخ – متسامحين مع غيرهم ربما أكثر من تسامحهم مع أنفسهم وفيما بينهم، وحتى عندما هاجر الكثير من المسلمين إلى بلاد الغربة لم يربكوا حياة الآخرين، بل عاشوا معهم، وتكيّفوا مع عاداتهم، أي تعايشوا معهم بشكل طبيعي جداً.. أما المؤسسات الدينية الرسمية التي حكمت بالتكامل والتعاضد مع المؤسسات السياسية (خلافة وسلطنة وإمارة ووالخ) فقد كانت على العموم مؤسسات جهازية وظيفية أداتية اشتغلت بالتّقليد والعرف (والمزاج الحاكم)، ولم تتحرك أو تحكم بالعقل والتجديد، فجاءت مقولاتها “الفتوائية” مزاجية رغبوية ذاتية، لتعبر عن مصالح رجالات الدين ومطامع السّلاطين والزعامات السياسية الزمنية.. وما زال هذا النهج قائماً ومهيمناً حتى لحظتنا الراهنة، على اختلاف الظروف والأوضاع والأشكال والمقارنات.. ولنا أن نلاحظ كيف دفعت سلوكية العنف والقتل والإرهاب المنظم (لكثير ممن يدّعون تمثيل الدين والتبشير به) دفعت الناس دفعاً للبعد عن الدين، وهجر الإسلام، والارتماء في حضن الأفكار والتيارات والقوى المضادة للدين، ومنها أفكار ومذاهب وتيارات الإلحاد على اختلاف توجهاتها.. أي أن كثيراً من الناس رفضوا الدين من أساسه، بما يعطينا فكرة هنا عن أن المشكلة ربما ليست قائمة أو كامنة في الملحد ذاته، بل المشكلة هي في سلوك كثير من التنظيمات الإسلامية، وأعمالهم (الشنيعة) البعيدة اليوم عن روح الإسلام ومعناه “التسامحي” المنفتح.. ولهذا فالملحدون في عصرنا وفي الماضي ألحدوا بأخطاء وجهل وغباء رجال الدين.. ولم يلحدوا بالدين الصحيح لو توفّرت لهم ظروف معرفته الصحيحة.. فلو وجد علماء الدين الذين يفهمون الدين بروحانيته وحكمته وعقلانيته وواقعيته وصوابه، لربما رأينا الملحدين يسابقون المؤمنين الى الإيمان.
ولكن، وبغض النظر عما قام (وما يزال يقوم) به كثير من المنتسبين للإسلام، (نخباً وتيارات وجماعات دينية متسيّسة) يبقى هذا الدين (في عمقه وجوهره الروحي والمفاهيمي) دين التّسامح والرّحمة والمحبة، دين العدل والأخوة والإنسانية، ويدعو في كلّ أحكامه وتعاليمه وتشريعاته إلى نبذ العنف والتطرّف والعصبيات، وإحقاق الحق وبناء الحياة البشرية على ثقافة الحوار والحرية والسّلام الفردي والمجتمعي، والالتقاء على كلّ معاني الخير والعطاء، وتقدّم البشريّة نحو الأفضل على المستوى المادي والمعنوي، فكل ما يطوّر حياة الناس ويجعلهم أفضل وأرقى فكراً وسلوكاً هو أمر من صلب التفكير الاعتقادي الإسلامي. وكل ما يؤذيهم ويفرّقهم ويؤسس للعداوة والتفرقة فيما بينهم هو أمر خارج نطاق التفكير والمبادئ الإسلامية الأصيلة.
أما بخصوص حرية المرء في اختياره لقناعاته السياسية والفكرية فيما يتعلق بنهج طريق وخط الإلحاد، فهذا موضوع يمكن أن يتحرك على مستوى القناعات الذاتية الخاصة، حيث أنه من حق أي إنسان – حتى على المستوى الديني (مثل ما جاء في آيات ونصوص كثيرة) – أن يختط لنفسه طريقاً فكرياً معيناً حتى لو كان طريقاً مخالفاً للسائد، ورافضاً للمبادئ الدينية ذاتها، بما فيها “مبدأ الخلق والخالقية”، ولكن شرط ألا تتحول المسألة إلى حالة وخط فكري وسياسي عام له رموزه ودعاته ومواقعه التي تبشر فيه علناً بين الناس.
ومع ذلك كله، لم يتحول الإلحاد – كما أسلفنا – إلى حالة عامة أو ظاهرة خطيرة ملفتة في عالمنا العربي والإسلامي، فمن رأيناهم وتابعناهم وعايشناهم ممن يتبنون أفكار الإلحاد، ويعلنون معاداتهم للدين عموماً، لا وزن ولا ثقل عملياً لهم، ولا قيمة معرفية وعلمية لأفكارهم وطروحاتهم حول قضايا العلم والدين والإنسان وأصل الوجود والحياة، إذا ما قمنا بمقارنة بسيطة بينهم وبين الملاحدة في الغرب الذين عارضوا الدين وأعلنوا عن تخليهم عن معتقداتهم على اختلاف هذه المعتقدات.. بمعنى بقي الإلحاد في مجتمعات العرب والمسلمين محصوراً في دوائر فردية مغلقة وقناعات خاصة أشبه ما تكون بموضة من موضات العصر.