هامش ثقافي

المفاهيم ودورها في معرفة الوجود

بقلم غسان عبد الله

فكل موجود في الكون له وجوده الخاص الذاتي، الذي لا يتعارض مع وجود غيره، بشرط أن يلتزم الوجود بشروط وجوده حتى لا يحدث التصادم مع غيره.

إن للوجودات مفهومها الخاص القابل للتواجد مع وجود الغير، فلسفياً الاشتراك ممكن، هناك إمكانية لقياس مفهوم موجود بمفهوم موجود غيره، ولكن حين نصل للماهيات والمنطق عندئذ يستلزمنا الأخذ بها لنحافظ على وجودنا مع وجود الغير.

ومن مفهوم الوجود ننتقل إلى مصداق الوجود، فالموجودات كمفاهيم يمكن الاتفاق عليها، ولكن كمصداق للوجود فالأمر يختلف حينما نصل لوجود الخالق تعالى، فمثلاً مصداق مفهوم الكائنات لا يمكن أن نماثله بمصداق مفهوم الله عز وجل، نظراً لعجز الموجود من غيره عن مضاهاة الموجود من ذاته وبذاته. فإيماننا بمفهوم الوجود لله وللكائنات يختلف عن مصداق وجود الله، وهذا الفرق يصل بنا لحقيقة حتمية قاطعة: وجود الله هو أصل وجود كل شيء.

يستطيع العقل بقدراته الكبرى أن يخوض غمار مختلف التحديات التي تفرضه عليه المفاهيم المتنوعة، فالعقل ينتزع التصورات والمفاهيم للعلوم المختلفة سواءً كانت علوماً حصولية أو علوماً حضورية، وعبر هذه المفاهيم تتكون في الذهن مقدمة ينطلق منها العقل في التصدي لكل قضية وعلم.

وبالطبع لا يفوتنا أن نُشير للاختلاف الذي تتحلى به المفاهيم كنتيجة طبيعية لتنوع مصادرها ومواطن انبثاقها، فالمفهوم الفلسفي والمنطقي والماهيّ لكل منها اختصاصاته وطرائقه التي ينفرد بها عن سواه، وبالتالي فالعقل يُراجع ويتعامل مع كل مفهوم بحسب ما يؤدي إلى العثور على الأهداف المطلوبة من كل مفهوم بحسب الحالة أو المسألة المطروحة موضع النقاش والتساؤل.

بمعرفة الفصل بين المفاهيم ووظيفة كل مفهوم ومدى القضايا التي يشملها نكون قادرين على الإحاطة بالموجودات، من خلال النظر في فلسفتها ومنطقها وماهياتها، ويصلنا ذلك للموجود البديهي الذي يحتوي جميع الموجودات بوجوده الذاتي، الموجود بعين وجوده ذاته دون لزوم لموجودات أخرى تُسبّب وجوده.

بإمكاننا الاستفادة من مفاهيم الماهية والفلسفة في استطلاع وإنارة الخفايا للأمور الخارجة عنها بينما في المفهوم المنطقي فهناك جوانب تكشف ذواتها دون ارتباط بعوامل خارجية، أي أن الطريقة في عمل المفاهيم والاستعانة بها تختلف في طرائقها وليست متحدة في طريقة التفكير.

إذن للمفهوم ثبات وكينونة ووحدة لا تتجزأ، وهذه الوحدة تمنع التشظي والانقسام فلا يعود هناك مجال للغط والخلط. ونصل إلى التأكيد في التأثير المباشر الذي يحققه علم الوجود على كافة الموجودات ووسائل اجتماعها وافتراقها.

وقد توجد قضية واحدة تحفل بعدة مفاهيم، هذا لا يستدعي الوقوع في خطأ الاشتباه والتداخل، بل بإمكان العقل أن يفرز القضية المطروحة باستعانته بالمفاهيم، يستطيع أن يأخذ من كل مفهوم وسائله وأدواته التي تتيح له أن يحل جزءاً من القضية بما يناسب المفهوم حتى يحلل ويحل القضية بكاملها من خلال إجادة استخدام المفاهيم.

جميع القضايا تحتاج للمفاهيم التي تضعها في موضعها المناسب في سياق البحث، وكذلك كما تحتاج القضايا للمفاهيم التي تبينها وتوضحها، فكذلك المفاهيم تحتاج للألفاظ كي تنقلها وتبينها، وسواء كانت ألفاظاً مكتوبة ومدونة أو ألفاظاً متداولة في الذهن، ففي كلتا الحالتين يكون للغة عامل مركزي في توضيح وتصوير المفهوم، فكما المفهوم ينقل الأشياء، كذلك اللغة تنقل المفهوم، وبالتالي فإن دور اللغة دور بارز في إيضاح نوعية ومحتوى المفهوم، لذلك ينبغي التشديد في اختيار الألفاظ اللغوية كي لا تحمل معنى مختلفاً عن المعنى المراد إيصاله، فاختلاف المفردات سيُحوّر معنى القضية ليزودها بمعانٍ مغايرة للمقصود، المطلوب من اللغة أن تكون كالمرآة التي تحدد المفهوم بدقة كي نستجلي كل معنى في المفهوم المحدد.

بهذه الطريقة سنعرف مصدر العلم، بتحديده وبمعرفة أصوله ومنابع وجوده، سنتوصل لفهم العلم ومصادر أصوله، وجوده الذي ظهر منه، ارتكازنا على وجوده سيمنحنا القدرات للمضي قدماً في توضيح العلم، أما إذا كنا لا نعرف مصدراً لوجود العلم المطروح للبحث، فكيف سيتسنى لنا التأكد من كوننا لا نهدر وقتنا في أبحاث لا طائل منها؟! تقدم لنا الفلسفة العون في معرفة أصل العلم إذا لم نتمكن من إيجاد موضوع المادة العلمية المطروحة فسنجد ذلك في علم آخر انبثق منه العلم المشكوك فيه وبالتالي سنصل للأرضية الصلبة التي سننطلق منها في بحوثنا.

كيف سنعرف ونصل لندرك معنى ما؟ هناك فاعل ومفعول للمعنى، هل هناك فاعل ومفعول للوجود؟! الاستنتاج البديهي والعقلي يقولان: لا، وجود الخالق تعالى غني عن وجود يسبقه، وبالتالي فهو الوجود المتكامل الذي تخضع جميع الموجودات لكمال وجوده المطلق، وجود يُدرك كل شيء، وجود لا تدركه الموجودات كافة.

الإثبات نحتاجه للموجودات التي أوجدها الموجود المطلق الوجود، فنتمكن من إدراكها، وهذا يصل بنا لضرورة التفريق والفصل بين ما نستطيع إثباته من علوم خاضعة لغيرها في وجودها، وبين وجود متكامل مستغنٍ عن كل الموجودات في وجوده. الموجودات كافة – المعنوية والمادية – تنتمي في وجودها للوجود المطلق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *