دوليات

فنزويلا تواجه الانقلاب.. المحكمة العليا تصادق على فوز مادورو لولاية رئاسية ثالثة

بقلم ابتسام الشامي

حكمت المحكمة

حسمت المحكمة العليا في فنزويلا الجدل الذي أعقب الانتخابات الرئاسية في البلاد نهاية شهر تموز الماضي، وفي حكم تلته رئيستها كاريسليا رودريغيز، قالت المحكمة وهي أعلى سلطة قضائية في البلاد إنها “صدقت بشكل لا لبس فيه مواد الانتخابات، وتصادق على نتائج الانتخابات الرئاسية التي جرت يوم 28 يوليو/تموز 2024 كما أصدرها المجلس الوطني الانتخابي، حيث انتُخب المواطن نيكولاس مادورو موروس رئيسا لجمهورية فنزويلا البوليفارية للفترة الدستورية 2025-2031”.

حكم المحكمة هذا جاء على ضوء التماس قدمه الرئيس المنتخب مطلع شهر آب الجاري بهدف تأكيد فوزه، بعدما رفضت المعارضة النتائج وادعت فوز مرشحها إدموندو أوروتيا غونزاليس، ولئن شكت زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو من عدم شفافية السلطات المشرفة على الانتخابات متهمة إياها بحجب النتائج الكاملة، فإن ادّعاء فوز مرشحها جاء من دون أدلة قوية، إذ اكتفت الأخيرة بنشر بعض محاضر لجان الفرز التي حصل عليها مدققوها، لتستند إليها في إعلان فوز غونزاليس بنسبة سبعين في المئة من أصوات الناخبين، علماً أن ما حال دون نشر محاضر مراكز الاقتراع، وفق الرواية الرسمية، تعرّض المجلس الوطني الانتخابي لقرصنة إلكترونية. لكن محكمة العدل العليا التي نظرت في الالتماس المقدم من مادورو أكدت أن “بطاقات الاقتراع الصادرة عن المجلس الانتخابي الوطني، مدعومة بمحاضر الفرز الصادرة عن كل آلة من آلات التصويت، تتوافق تماماً مع السجلات الموجودة في قواعد بيانات مراكز الفرز الوطنية”، وهي بهذا الحكم الذي انتهت إليه بعد التدقيق في النتائج أكّدت ما أعلنه من قبل المجلس الوطني الانتخابي، وهي فوز مادورو بنحو 52% من أصوات المقترعين في الانتخابات الأخيرة.

المعارضة ترفض قرار المحكمة

قرار محكمة العدل العليا استبقته المعارضة بالرفض، كما فعلت مع نتائج الانتخابات من قبل، وبزعم أن المحكمة هي إحدى مؤسسات النظام الحاكم، فإنها حكمت على أي قرار صادر عنها بشأن الانتخابات بأنه “باطل ولاغ”، مع الإشارة هنا إلى أن كلّاً من زعيمة المعارضة ماتشادو، ومرشحها غونزاليس تخلفا عن تلبية دعوة المحكمة كل المرشحين للرئاسيات وزعماء الأحزاب السياسية التي شاركت في الانتخابات للاستماع إلى وجهة نظرهم في مجريات العملية الانتخابية وملاحظاتهم عليها، لكونهما متواريان عن الأنظار بعد إطلاق المدعي العام للجمهورية تحقيقاً مع زعماء  المعارضة بتهمة تحريض الجيش والأجهزة الأمنية على التمرّد وخيانة الدستور، والتي كان من نتائجها خلق حالة من الفوضى عبر تنظيم تظاهرات اتسمت بالعنف، ذهب ضحيتها سبعة وعشرون قتيلاً وفق المعطيات الرسمية. على أن موقف المعارضة الضعيف قبل قرار محكمة العدل العليا وبعده، لم يغير في الأجندة السياسية التي تتبناها وفي مقدمها الإمساك بالبلاد لتغيير هويتها السياسية، وهي أجندة مدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية. وبعدما رفضت الأخيرة نتائج الانتخابات، جددت وحلفاءها الإقليميين رفض حكم المحكمة. وفي تدخل سافر في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة، أعربت واشنطن و10 دول من أمريكا اللاتينية عن رفضها مصادقة المحكمة العليا في فنزويلا على إعادة انتخاب الرئيس نيكولاس مادورو، معتبرة أن المحكمة لا تتمتع بالاستقلال والحيادية. ورفضت حكومات الولايات المتحدة والأرجنتين وكوستاريكا وتشيلي والإكوادور وغواتيمالا وبنما وباراغواي والبيرو وجمهورية الدومينيكان والأوروغواي، في بيان مشترك، قرار المحكمة الفنزويلية، بزعم أنها موالية للسلطة. وفي بيان منفصل، أكد المتحدث باسم الخارجية الأمريكية فيدانت باتيل على ضرورة ما سماه احترام إرادة الشعب الفنزويلي، مضيفاً أن “رغبة الشعب يجب أن تُحتَرم”.

في المقابل، اعتبرت فنزويلا رفض الولايات المتحدة وبعض الدول في أمريكا اللاتينية قرار المحكمة العليا “تدخلاً غير مقبول”، وأكد وزير الخارجية الفنزويلي إيفان جيل، في بيان صادر عنه أن كراكاس “ترفض بأشد الحزم البيان الفظ والوقح”، مشيراً إلى أنه يمثل “تدخّلاً غير مقبول في شؤون لا تهم إلا الفنزويليين”.

المشروع الأمريكي للتغيير السياسي

موقف المعارضة ورعاتها الخارجيين من الانتخابات وما تلاها يؤكد حقيقة المشروع السياسي الذي يستهدف العودة بفنزويلا الى ما قبل الثورة التشافيزية نهاية القرن الماضي عندما كانت مستتبعة بالكامل للولايات المتحدة الأمريكية، قبل أن يتبنى هوغو تشافيز مع وصوله إلى السلطة عام 1998 خطاً مناهضاً لها، كان من أبرز تجلياته، “تطهير” المؤسستين السياسية والعسكرية من الموالين للولايات المتحدة الأمريكية، والانطلاق بخطة نهوض اقتصادية، تستنقذ البلاد وثرواتها، من المصادرة الخارجية والفساد الداخلي، وهو ما ترك تأثيره في عموم أمريكا اللاتينية التي تعاني دولها كما فنزويلا من التسلط الأمريكي على قرارها وسيادتها.

مشروع التغيير السياسي الذي بدأه الأمريكيون مع ولاية مادورو الثانية عند اعترافهم بمرشح المعارضة آنذاك خوان غوايدو رئيساً للبلاد، يستكمل اليوم مع تفعيل واشنطن مختلف أدوات الضغط السياسي والاقتصادي ضد كاراكاس، إلى جانب الإغراءات أيضاُ. في هذا السياق يمكن إدراج ما كشفته صحيفة “وول ستريت جورنال” مؤخراً عن عرض الولايات المتحدة على الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو في محادثات سرية العفو عنه مقابل التنازل عن السلطة. وأوضحت الصحيفة في تقرير بقلم خوان فوررو وباتريشيا غاريب وكيغال فياس أن 3 أشخاص مطلعين على مداولات الإدارة الأمريكية قالوا إن “واشنطن ناقشت العفو عن مادورو وكبار مساعديه، وأكّد أحدهم أن أمريكا وضعت كل شيء على الطاولة لإقناع مادورو بالرحيل”. ونقلت الصحيفة أيضاً عن شخصية مطلعة، أن الولايات المتحدة منفتحة على تقديم “ضمانات بعدم ملاحقة شخصيات النظام وطلب تسليمها”، بعد أن كانت وضعت مكافأة قدرها 15 مليون دولار مقابل معلومات تؤدي إلى اعتقال مادورو بتهمة التآمر مع حلفائه لإغراق الولايات المتحدة بالكوكايين.

وقدرت الصحيفة الأمريكية أن “العمل الدولي قد يكون السبيل الوحيد لإجبار مادورو على التنحي بعد 11 عاماً من الحكم” الذي وصفته بالاستبدادي وادّعت أنه أدى إلى “انهيار اقتصادي وعزلة دبلوماسية ونزوح ما يقارب 8 ملايين فنزويلي”، من دون أن تأتي الصحيفة طبعاً على ذكر العقوبات الاقتصادية التي فرضتها واشنطن على البلاد وساهمت في وصول فنزويلا إلى حافة الانهيار، على الرغم من أنها الدولة التي تمتلك أكبر الاحتياطات النفطية في العالم. ولعل السيطرة على الذهب الأسود هو أحد أبرز أسباب اندفاعة الولايات المتحدة الأمريكية لإعادة الإمساك بالبلاد الكاريبية. وعند هذا المستوى من فهم حقيقة المشروع تدار المواجهة معه في فنزويلا، حيث نبه الرئيس المنتخب من الأيادي الأمريكية والصهيونية الخبيثة التي تعمل في واشنطن وتعهد بمواجهتها، مستنداً إلى مجموعة من عوامل القوة وفي مقدمها الالتفاف الجماهيري وموقف المؤسسة العسكرية. وفي هذا السياق يلاحظ الأستاذ في جامعة سان بطرسبورغ الحكومية ورئيس تحرير مجلة “أمريكا اللاتينية”، فيكتور خيفيتس أنه “لا توجد احتجاجات جماهيرية مثل ما حدث في 2017-2018، وخصوصاً في العام 2019، في فنزويلا. ولاحظ أيضاً أن “الأنشطة الداعمة لمادورو ملفتة للنظر… فهي تُظهر أن جزءاً من الشارع يقف معه، والجيش مخلص تماماً للحكومة الحالية”. وعلى الرغم من حقيقة أن فنزويلا، في عهد نيكولاس مادورو، انزلقت إلى أزمة اقتصادية عميقة برأي خيفيتس، إلا أن “جزءاً كبيراً من الفنزويليين يدعمون الحكومة الحالية، وخصوصاً، بسبب توجهاتها الصارمة المناهضة لأمريكا، إذ ليس من قبيل المصادفة أن أحد الشعارات الرئيسية للحملة الانتخابية “الغرينغو لن يحصلوا على النفط!”(1).

خاتمة

تشي المواقف المعلنة من المعارضة ورعاتها الخارجيين تعليقاً على قرار محكمة العدل العليا تثبيت انتخاب نيكولاس مادورو لولاية رئاسية ثالثة، بأن البلاد مقبلة على تجدد الأزمة السياسية، والأنظار تتجه إلى شهر كانون الثاني المقبل تاريخ انتهاء الولاية الدستورية الثانية لمادورو، حيث من المتوقع أن تعترف الولايات المتحدة الأمريكية بمرشح المعارضة ادموندو غونزاليس رئيساً للبلاد، وحتى ذلك الحين تفعّل واشنطن أدوات الضغط، وبعد سقوط ورقة ترغيب مادورو بالرحيل مقابل ما تسميه العفو عنه، فإنها تعد لسلسة من العقوبات ستطال هذه المرة قضاة المحكمة العليا، وعدداً من المسؤولين الحكوميين وأفراد عائلاتهم، وهو ما ألمح إليه مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون نصف الكرة الغربي، براين نيكولز، الذي كتب على منصة “إكس” إن واشنطن “ستحاسب أولئك الذين يسمحون بتزوير الانتخابات والقمع في فنزويلا”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *