صفحات من التجربة والوجدان “دعائم النجاح والسعادة”
بقلم غسان عبد الله
“إنما الدنيا فناء، وعناء، وغِيَرٌ، وعِبَر؛ فمن فنائها: أنك ترى الدهرَ مُوتِراً قوسه، مفوِّقاً نبله، لا تخطيء سهامه، ولا تَشفى جراحُه، يرمي الصحيح بالسُّقْم، والحيَّ بالموت. ومن عنائها: أن المرءَ يجمعُ ما لا يأكل، ويبني ما لا يسكن، ثم يخرجُ إلى اللهِ.. لا مالاً حَمَلْ، ولا بناءاً نَقَلْ.. ومن غِيَرِها: أنك ترى المغبوطَ مرحوماً، والمرحومَ مغبوطاً، ليس بينهم إلا نعيمٌ زَلَّ، وبؤسٌ نزلْ. ومن عِبَرِها: أن المرءَ يُشْرِفُ على أملِهِ، فيُتَخَطَّفُهُ أجلُهُ، فلا أملٌ مدروك، ولا مؤملٌ متروك”
الإمام علي(ع)
يظن البعضُ أن حكمةَ الاقتصاد تقتصرُ على المال، وفَاتَهُمْ أنها تَشْمَلُ ما هو أهمُّ من هذا بكثير.. تشملُ الوقتَ والجهدَ، والحبَّ والكراهية، واللطفَ والعنفَ، والرضا والسَخَطْ، والواقِعَ والخيال.
إن كلاً من الجشعِ والتقتيرِ تبذيرٌ، وكما أن الرجلَ الذي يمعن في المساومةِ نشالٌ، كذلك المبذرُّ لصٌ يسرقُ نفسَهُ، والصغائرُ كالثقوب في قاعِ السفينة، تؤدي بها إلى الغرقِ أن لم يكن عاجلاً فآجلاً، ومن الحكمة أن يبدأ الاقتصادُ مبكراً، أي قبلَ أن تَهْرَمَ الأعصابُ ويتضاءلَ النظرُ، وتُنْخَرَ الأسنانُ، وتشيخَ المَعِدة.
ما أروعَ المثلَ الذي يقدِّمُهُ ربَّانُ السفينةِ المشرفةِ على الغرق: أنظر إليه وهو يهيئ قواربَ النجاةِ لإنقاذ الأطفالِ والنساء، ثم الشيوخِ فبقيةِ المسافرين، فضباطِ السفينة، فبحَّارتِها. فإذا ما تبقى لوحٌ من الخشب يتعلق به في لجة اليم الفائر كان بها، وإلا فيهوي إلى القاع مع حطام مركبه، مرتاح الضمير، بعد أن أدى واجبه المقدس. وليست كلُّ الواجبات بهذه الخطورة، بَيْدَ أن أتفه الواجبات وأقلها أهمية، لها حرمةٌ وقدسيةٌ تعرفهما النفوسُ النبيلة.. إن الواجبَ يدفع الأقليةَ من الناس إلى الفضيلة والأكثريةَ منهم إلى الضجر والبطر..
ولو أن الناس أدركوا أن أحداثَ الحياة اليومية – متاعبَها وهمومَها وكوارثَها – جراحٌ لا بد لها من الأيام والأسابيع والشهور، قبل أن تندمل، لا تَّخذوا الصبرَ والاحتمالَ شعاراً لهم.
فالصبر: هو احتمال المكروه من غير جزع، وهو دليل رجاحة العقل، وسعة الأفق، وسمو الخلق، وعظمة البطولةِ والجَلَدِ، كما هو أيضاً معراجُ طاعة الله تعالى ورضوانه، وسببُ الظَّفَرِ والنجاح، والدرعُ الواقي من شماتة الأعداء والحساد.
وناهيك في شرف الصبر، وجلالةِ الصابرين، أن الله عز وجل أشادَ بهما وبارَكَهُما في نيف وسبعين موطناً من كتابه الكريم، فقد بشر الصابرين الرضا والحب، فقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾، ووعدهم بالتأييد: ﴿وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين﴾، ومنحهم الثواب الجمَّ: ﴿ِإنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.
وكذلك فقد تواترت الأحاديث التي تمجد الصبر والصابرين، فقد قال الصادق(ع): “الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، وكذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان“، وقال: “من أبتُلِيَ من المؤمنين ببلاء فصَبَر عليه كان له أجرُ ألفِ شهيد“. فالصبر، فلسفةٌ عميقةٌ، وهل توجدُ فلسفةٌ بغير صبر؟ والفيلسوفُ – بحكم فنّه – عبَدَ الفضيلةَ بالصبر، غير أن الاستعبادَ في هذه الحالة، هو حريةٌ بعينها.. ومن غريب الأمثال أن العبقريةَ والصبرَ لفظان مترادفان.